قصة قصيرة..سكٓنٓ الليل
بقلم – د. إبراهيم أبو سعادة
عند الساعة الثالثة إلا قذيفتين قُبيل الفجر بطلَقَتين.. كنت وصغيرتي نغالبُ قلقَ الحرب ونقاوم نعاساً هدّ أجسادنا.. يوقظنا صوت انفجار بين حين وآخر .. وتلهث أنفاسنا لهديرٍ يرتجف له السرير ويتقلقل تحته أثاث المنزل كله.
في الخارج كانت السماء حمراءَ تضيئُها شهب نارية بين وقت وآخر .. حضنتُ ابنتي بين ذراعيّ بشدة، وَدَدتُ لو أسكِنها شغافَ القلب.
قالت لي: “ما رأيك ببعض الموسيقى يا أبي”.
قلتُ بحماسةٍ و دون تردد: “إنها فكرة رائعة”.
ذهبنا إلى الصالة باتجاه البيانو، كان في زاوية بعيدة عن النوافذ والشرفات، متوارياً عن خطر الشظايا إلى حدّ معقول، هناك أخذت ماري مكانها الذي لطالما اعتبرته مملكتَها الفسيحة، تصنع فيها المعجزات على المفاتيح البيضاء والسوداء.
لا أعرف لِمٓ اختارت معزوفة “سكن الليل” ؟.. كل شيء في هذا الليل كان غير ساكن، كل شيء كان صاخباً، حتى الليل لم يكن أسودً، كان أحمرً برتقالياً، وحدها بعض الأرواح كانت تنتقل بسكون إلى سماوات الله، تهاجر من أرض لم ترَ السكونَ منذ سنين، لترتاحَ في سكونٍ أبدي بجوار الله.
استطاعت ماري أن تنسيَني صخبَ الخارج، أغمضتُ عينيّ لتأخذني الموسيقى إلى سكون الليل الافتراضي الجميل، و أخذَت تغني سكن الليل، و وجدتُني أغنّي معها:
سَكَنَ الليلْ وفي ثوب السكونْ .. تَخْتَبِي الأحلامْ
وَسَعَى البدرْ وللبدرِ عُيُونْ .. تَرْصُدُ الأيامْ
إسْمَعي البُلْبُلَ ما بين الحُقولْ .. يَسْكُبُ الألحانْ
في فضاءٍ نَفَخَتْ فيهِ التُلُولْ .. نَسْمَةَ الرَيْحَانْ
لا تَخَافِي يا فَتَاتِي فالنُجومْ .. تَكْتُمُ الأخبارْ
وضبابُ الليلْ في تِلْكَ الكُرومْ .. يَحْجُبُ الأسرارْ
بين مقطع وآخر كنت أنظر إليها، أملأ عينيّ من جمالِ طلعتِها و حلاوةِ روحِها، فلا تشبعُ عينيّ و لا ينتهي شغفي، وتعود أصابعُها للعبِ على مفاتيح البيانو وعلى أوتارِ قلبي، و تغنّي “سكن الليل” فيسكر عقلي طرباً من حلاوة صوتها، و تهيم روحي من عذوبة أدائها.
و عند نهاية المقطوعة سكنت الحرب في الخارج، وبدأت خيوط النهار تزيح عتمة ليلٍ لم يكن ساكناً إلا بمقدار ما أسكنته ماري من ضجيج أرواحنا.
أنهت ماري الموسيقى كما يفعل المحترفون بطريقة درامية ساحرة ، نظرتْ إلي و قالت بلغة المنتصِر : “ألم ترَ كيف هدَأتِ الحرب في الخارج عندما عزفتُ لك الموسيقى؟!”
ضممتها إلى صدري داعبت شعرها وقبّلتُ جبينَها، وببسمة وعناق لصغيرتي أرتوى الفجر وهو يتسلل عبر النافذة متنصتاً لصوت أب وابنته..
– كنت أظنّ يا بنيتي أني أهدّئُ قلقَك في هذا الليل الموحش، فوجدتُك تبددين قلقي بموسيقاك الساحرة..
– هي الموسيقى يا أبتي لها ذلك الفعل العجيب على الأرواح الهائمة المضطربة، تهدئُ روعَها وتُسدِلُ عليها تلك السكينة وذلك السلام، ليحلّ الخير محل الشر، وليطرد الله الشيطانَ من مملكته، فيحل السلام وتزول الحروب..
– يا ليت الحياة كانت بمثل حلاوة قلبك وقداسة عقلك وطهر روحك يا ابنتي.. يوماً ما.. أتمناه قريباً.. سوف يسكنُ ليلُ بلادنا الحبيبة، سوف ننعم بنوم هانئ ونهارات جميلة، وستعزفين الموسيقى الأجمل..
مــــوطــنــي..
الجـلال والجـمال
والســناء والبهاء فـــي ربــاك ..
والحـياة والنـجاة
والهـناء والرجـاء
فــي هـــواك …”
دندنا النشيد بصوتين متعبين سعيدين، وانساب صوتها كستار طمأنينة على ليلة عشنا سكون ضجيجها:
– سيحدث قريباً أبي.. كما هدّأتِ الموسيقى صخبَ المعارك في هذا الليل العصيب.. ستنتهي الحرب على أيدي الخيرين من شعبنا الطيب.
– نعم .. نعم سيحدث وسيحل السلام قريباً.. إلى ذلك الوقت سنعزف الموسيقى وسنغنّي لليل أن يهدأ، وللنهار أن يزيح عتمة الليل الطويل.