كانت تريد إنهاء المسألة بأي طريقة.. وثائق سرية: أمريكا حاولت دفع البوسنيين للقبول بتنازلات بعد مذبحة سربرنيتشا
كشفت وثائق سرية رفع الغطاء عنها لأول مرة أن الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون قد حاول جاهداً إقناع الحكومة البوسنية بتقديم تنازلات والقبول بتقسيم بلادهم على أسس عرقية، في الوقت الذي كانوا يعانون فيه من هجوم انفصالي صربي، خلف وراءه آلاف الضحايا والمهجرين.
تشير الوثائق إلى أن الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون كان عازماً، وفريق سياسته الخارجية آنذاك، على إيجاد حل للصراع الذي استمر ثلاث سنوات بأي ثمن، قبل أن تبدأ حملة إعادة انتخابه الرئاسية مراحلها الجدية في عام 1996، حتى وإن كانت نتيجة ذلك مكافأة قادة صرب البوسنة على سياسات التطهير العرقي التي انتهجوها، بمنحهم هدفهم الأساسي وهو الانفصال، حسب ما أفادت صحيفة The Guardian البريطانية الأحد 25 يوليو/تموز 2020.
يذكر أن القوات الصربية قد قتلت أكثر من 8 آلاف شخص من الرجال والفتيان بعد أن استولت على مدينة سربرنيتشا التي كان يُفترض أنها “منطقة آمنة” تخضع لحماية الأمم المتحدة، فيما يعد أول واقعة إبادة جماعية تشهدها أوروبا منذ انتهاء الحقبة النازية.
البوسنيون رفضوا: لم يبد هذا الطرح معقولاً للقيادة البوسنية، خاصة عندما تعرض رئيسها في زمن الحرب، علي عزت بيغوفيتش، لضغوط أمريكية للموافقة على استفتاء صربي للانفصال، في الوقت الذي كانت فيه الأنباء تتردد عن عمليات القتل الجارية في سربرنيتشا.
يقول ميرزا هاجيتش، الذي كان المتحدث باسم وزارة الخارجية آنذاك وتولى بعد ذلك منصب كبير مستشاري بيغوفيتش: “كان هناك ضغط كبير ومكثف علينا في أسوأ لحظة ممكنة”.
“كنا نواجه مأساة سربرنيتشا، وكانت هزيمة أخلاقية مخزية للمجتمع الدولي والحدث الأكثر مأساوية في الحرب، وعلى الجانب الآخر لديك الأمريكيون يحاولون كسرك وإجبارك على التخلي عن هذا الشيء الأساسي. كان السؤال لماذا تسترضي هؤلاء الأشخاص الذين خططوا ونفذوا الإبادة الجماعية التي وقعت في يوليو/تموز 1995؟”
يقول هاجيتش، الذي يشغل الآن منصب سفير البوسنة والهرسك في أستراليا، إن بيغوفيتش رفض بشدة أي اقتراح بإجراء استفتاء صربي. وهو يعتقد أن الحاجة الملحة وراء خطة واشنطن كانت هي رغبة إدارة كلينتون في التخلص من المشكلة البوسنية وإخراجها من تركيز شاشات التلفزيون الأمريكية قبل الحملة الانتخابية عام 1996.
استراتيجية نهاية اللعبة: تنقل الوثائق محادثات هاتفية لكلينتون مع زعماء آخرين أثناء تنفيذ عمليات الإعدام الجماعي، أعرب خلالها مراراً عن خيبة أمله في الجيش البوسني لفشله في الدفاع عن سربرنيتشا. ومع ذلك، ففي الأسبوع ذاته الذي سقطت فيه سربرنيتشا صريعة، وضع مستشار الأمن القومي لكلينتون، أنتوني ليك، اللمسات الأخيرة على خطة “استراتيجية نهاية اللعبة” المتشددة لتخليص الولايات المتحدة من الكارثة البوسنية.
كانت تلك الاستراتيجية، التي بدأها فريق ليك في الأسابيع التي سبقت هجوم سربرنيتشا، هي محاولة لفرض اتفاق سلام قائم على تقسيم شبه متساوٍ للمنطقة. وإذا فشل ذلك، كانت الخطة هي سحب قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، ورفع حظر الأسلحة المفروض على البوسنة، ومنح اتحادها الكرواتي البوسني بعض الدعم الأولي بضربات جوية حتى يصبح قوياً بما يكفي لمحاربة الصرب بمفرده.
غير أن ثمن هذا الدعم الأمريكي كان باهظاً، فالخطة المفترضة تضمنت احتمال أن يُضطر البوسنيون إلى تقديم مزيد من التنازلات، وعلى رأسها التسليم بتفكك الوحدة الإقليمية التي قاتلوا طيلة سنوات للدفاع عنها.
ووفقاً للملحق الأول من “استراتيجية نهاية اللعبة”، بعنوان “خطة إدارة اللعبة لتحقيق تقدم دبلوماسي في عام 1995″، (جزء من ذاكرة التخزين المؤقت للوثائق التي رفعت عنها السرية في مكتبة وثائق كلينتون الرئاسية)، كانت الخطوة الأولى هي “إجراء محادثات جدية وصريحة مع البوسنيين” لإقناعهم أنه في أعقاب سربرنيتشا، “باتوا يحتاجون إلى التفكير على نحو أكثر واقعية في نوع من التسوية”.
تضمنت الخطة احتمالَ اضطرار الاتحاد الكرواتي البوسني إلى القبول بأقل من نصف مساحة البلاد، وأن تتجه الولايات المتحدة إلى “الضغط على البوسنيين للإقرار بإمكانية أن يجري الصرب استفتاءً على الانفصال بعد 2-3 سنوات”.
وأشار الاقتراح إلى أنه “إذا لم يتمكن البوسنيون من إقناع السكان الصرب بأن مستقبلهم الأفضل يكمن في إعادة الاندماج، فلا فائدة من عرقلة الفصل السلمي للاتحاد على غرار النموذج التشيكوسلوفاكي”.
عدم توافق داخلي: غير أن الاقتراح أثار حفيظة بعض أفراد الإدارة، ومن هؤلاء ديفيد شيفر، الذي كان مستشاراً لمندوب الولايات المتحدة الدائم في الأمم المتحدة مادلين أولبرايت، وكان يحضر اجتماعات البيت الأبيض بشأن البوسنة، إذ كتب لزميل له: “إنه منحدر شديد للغاية، لقد استولى الصرب على أراض شاسعة بواسطة التطهير العرقي، والآن من المفترض أن نجري استفتاءً (ديمقراطياً) لتأكيد نتائج هذا العدوان؟ إنها محاولة استرضاء صريحة للغاية”.
وقال أليكسندر فيرشبو، الذي كان المدير الأول لقسم الشؤون الأوروبية في مجلس الأمن القومي (NSC) في ذلك الوقت وشارك في كتابة “استراتيجية نهاية اللعبة”، إن الخطة المقترحة كانت بمثابة حل وسط بين الآراء المختلفة للوكالات الأمريكية.
يقول فيرشبو: “كان هناك كثير من الآراء الداعمة لاتجاهات مختلفة بين مختلف الوكالات، وربما كان البنتاغون الأكثر (واقعيةً)، في حين كانت وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي مع الجانب الأكثر تأييداً لتحقيق العدالة وتطلعوا إلى الحصول على أفضل صفقة ممكنة لمسلمي البوسنة”.
يذكر أن هجوم كرواتيا ضد الصرب في غرب البوسنة في أغسطس/آب 1995 أدى إلى إعادة رسم خريطة الصراع، ما أجبر الصرب على الجلوس إلى مائدة المفاوضات دون وعود بإجراء استفتاء.
“انتهت الحرب، وبات الأمر إنجازاً في سجل السياسة الخارجية لكلينتون، الذي فاز بإعادة انتخابه في عام 1996. ومع ذلك، فإن “وثائق كلينتون الرئاسية” تذكير بإلى أي مدى اقتربت الولايات المتحدة من التخلي عن البوسنة”، حسب ما تقول الصحيفة.