كان ثرياً ومتعلماً وذهب لمكة حاجاً.. قصة عمر بن سعيد تفضح الرواية الأمريكية باستعباد غير المثقفين
كشفت مذكرات عبد أسود مسلم مكتوبة بالعربية الكذب الذي مارسته مؤسسة تجارة الرقيق في القرون الماضية، والتي تذرعت بجلب رجال غير مثقفين وبلا خلفيات للعمل كعبيد في أمريكا. لكن كلمات السنغالي عمر بن سعيد كشفت عكس ذلك، وتمكنت بحروفها العربية من أن تحافظ على تاريخ الرجل دون تحريف أو تزوير.
ففي عام 1831، كتب عمر بن سعيد 15 صفحة باللغة العربية تروي ماضيه وتصف حاضره وتؤكد رفضه العبودية بطلب من شخص يدعى “الشيخ هانتر”.
من هو عمر بن سعيد؟
وُلد عمر بن سعيد عام 1770 في السنغال، وكان كاتباً مسلماً إلى أن تم اختطافه من بلدته بعمر 37 عاماً، على يد “جيش كبير” قتل العديد وخطف الرجال قبل أن يتم ترحيلهم إلى الولايات المتحدة.
يتحدث بن سعيد في مذكراته التي كشفت عنها مكتبة الكونغرس مؤخراً عن رحلته إلى العبودية، كاشفاً بعض التفاصيل عن حياته باللغة العربية، وهو الأمر الذي سمح له بأن يكتب بحرية لعدم خوفه من أن يكتشف أسياده ما خطت يداه.
ويُعتقد أن سيرته الذاتية العربية هي الوحيدة من نوعها، وفق ما أشارت قناة PBS الوثائقية في فيلمها الوثائقي عن بن سعيد.
وتحت عنوان “حياة عمر بن سعيد”، كتب بن سعيد عن نفسه قائلاً إنه وُلد لعائلة ثرية مسلمة في بلدة فوتا تورو (السنغال حالياً)، وتعلم لمدة 25 عاماً تحت إشراف 3 أساتذة، منهم أخوه.
تعلَّم العربية والرياضيات وتفسير القرآن، وكان يُعد معلماً وتاجراً؟
ويتجسد ذلك في كلماته التالية:
“تلقيت العلم على يد الشيخ محمد سيد، أخي، والشيخ سليمان كمبه والشيخ جبرائيل”.
ثم يقول: “كنت أذهب للمسجد قبل طلوع الشمس، أغسل وجهي ورأسي ويداي وقدماي، كنت أصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء“.
ويكمل: “كنت أعطى الصدقات كل عام، الذهب والفضة والبذور والأبقار والأغنام والماعز والأرز والقمح والشعير. أعطيت العشور لجميع الأشياء المذكورة أعلاه. كنت أذهب كل عام إلى الحرب المقدسة ضد الكفار. ذهبت في الحج إلى مكة، كما فعل كل من استطاع. كان لدى والدي ستة أبناء وخمس بنات وكانت لوالدتي ثلاثة أبناء وابنة واحدة. عندما غادرت بلدي كنت في السابعة والثلاثين من عمري. وأنا الآن في بلاد المسيحيين منذ أربع وعشرين سنة (كُتب في 1831 م)“.
وعندما كان في عامه الـ 37، كانت بعض القبائل في محيطه في حالة حرب، إلى أن سقط ضحية لهذه الخلافات. “ثم جاء إلى مكاننا جيش كبير، قتل العديد من الرجال، وأخذني، وأحضرني إلى البحر العظيم، وباعني لأيدي المسيحيين، الذين قيّدوني وأرسلوني على متن سفينة كبيرة وأبحرنا في البحر العظيم لمدة شهر ونصف”، كما جاء في المذكرات.
بداية العبودية
وصل بن سعيد إلى مدينة تشارلستون في ساوث كارولاينا الأمريكية، حيث تم بيعه لرجل وصفه سعيد بالشرير والماكر وبأنه “لا يخاف الله”.
كان عمر بن سعيد كبيراً ومرهقاً ولم يستطع أن يتحمل العمل في الحقول الذي أجبره عليه سيده الأمريكي، فهرب ليتم اعتقاله لاحقاً وإيداعه في السجن.
هناك خطّ عمر على جدران السجن نصوصاً عربية لفتت نظر رجل يدعى جون أوين سيصبح لاحقاً حاكم ولاية نورث كارولاينا. أدرك أوين أن بن سعيد رجل مثقف متعلّم فاشتراه وأعطاه لأخيه جايمس.
تحت ملكية جايمس، تمكن بن سعيد من الكتابة بالعربية وتعليمها لمن يريد، كما تلقى إنجيلاً مكتوباً باللغة العربية في محاولة لتنصيره على ما يبدو.
كان بن سعيد رافضاً العبودية، وأكبر دليل على ذلك استفتاحه المذكرات بسورة “المُلك” من القرآن الكريم، التي تنص حرفياً في آياتها الأولى على أن ملكية كل شيء -بمن فيهم البشر- لله وحده.
اعتناق ظاهري للمسيحية
يتحدث بن سعيد في مذكراته عن اختلاف الصلوات بين المسلمين والمسيحيين، بل في عام 1821 تم تعميده في كنيسة محلية.
لكن اعتناقه المسيحية كان مثار جدل من قبل الخبراء الذين عملوا على مراجعة المذكرات وترجمتها وتدقيقها.
ففي كلمات وفقرات المذكرات، يستعين بن سعيد بآيات من القرآن، بل يشير بكل وضوح إلى الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، ويبدو أنه أخفى إسلامه خوفاً مِن اضطهاد مَن حوله.
هاوٍ لتجميع آثار وجد المذكرات وطالب بترجمتها
وصلت المجموعة إلى مكتبة الكونغرس من قِبل جامع التذكارات وأثر الأمريكيين من أصول إفريقية المدعو ديريك بيرد في عام 1995.
وفقاً لمكتبة الكونغرس، فإن رغبة بيرد كانت أن يتم عرض المجموعة وترجمتها بهدف الدراسة والتوثيق.
لكن رحلة وصولها إلى مكتبة الكونغرس كانت طويلة، إذ وقعت في يد مناهض العبودية، المدعو ثيودور دوايت، في عام 1860 ثم ضاعت لأكثر من 50 عاماً قبل أن يتم العثور عليها من قبل بيرد بالصدفة.
اللغة العربية تحمي التاريخ من التحريف
ولأنها مكتوبة باللغة العربية؛ لم يتمكن أسياد بن سعيد من قراءتها على الإطلاق ولا التأثير على كتاباته.
وبالتالي فهذه هي كلماته بالضبط فعلاً، وغير منقحة بأدوات أو تحرير أسياده مثلما تأثرت سِير بعض العبيد الآخرين، وفق ما أكدت رئيسة قسم إفريقيا والشرق الأوسط بمكتبة الكونغرس ماري جين ديب.
عمر بن سعيد يفضح تاريخ العبودية
بدوره قال علاء الريس، أستاذ الأدب بجامعة مدينة نيويورك الذي درس وترجم مذكرات عمر بن سعيد، إن عدم أمّيته وثقافته يتعارضان تماماً ويلغيان السردية المتداولة التي تفيد بأن العبيد لم يكونوا مثقفين، بل كانوا في الواقع أشخاصاً لهم تاريخ وثقافة وخلفية متميزة.
وأوضح الريس ضمن الفيلم الوثائقي لشبكة PBS أن “جمعية الاستعمار الأمريكية” – وهي مجموعة كانت تهدف إلى إعادة العبيد إلى إفريقيا- شجعت عمر على كتابة مذكراته عام 1831.
وبينما يصف بن سعيد أسياده بأنهم أناس طيبون، يقول الريس: “هناك لحظات كثيرة في السرد، حيث يبدو أنه يقدم نوعاً من الكلمات المزدوجة أو يتحدث بلغة مبطنة رافضاً للعبودية”.
توفي بن سعيد عام 1864 عن عمر 94 عاماً، وذلك قبل أن يتم إلغاء العبودية في أمريكا بعام واحد فقط.