كيف أعادت الصين قرابة 200 مليون طالب إلى المدارس دون حتى كمامات؟
تحت السماء الزرقاء الزاهية، تجمَّع قرابة 2000 طالبٍ، هذا الشهر (سبتمبر/أيلول)؛ من أجل بداية العام الدراسي في مدرسة هانيانغ الأولى الثانوية بمدينة ووهان، المدينة الصينية التي ظهر فيها فيروس كورونا لأول مرة.
بقيت الأطقم الطبية متأهبة عند مداخل المدرسة تقوم بقياس الحرارة، وراجع المسؤولون الإداريون سجلات سفر الطلاب ونتائج اختبارات فيروس كورونا. وظلَّت كوادر الحزب الشيوعي المحلية تراقب الوضع وتتأكد من اتّباع المعلمين للتعليمات المُفصَّلة بشأن النظافة وإظهار “روح مُقاوِمة للوباء”. قال يانغ مينغ، وهو مُعلِّم للموسيقى، لصحيفة The New York Times الأمريكية: “لستُ قلقاً. ووهان الآن هي أكثر الأماكن أماناً”.
صرامة لا تهاون فيها
وفيما تعاني البلدان حول العالم من أجل إعادة فتح المدارس بأمانٍ هذا الخريف، تُسخِّر الصين سلطة نظامها الاستبدادي لتوفير التعليم المباشر (وجهاً لوجه) لنحو 195 مليون طالب من رياض الأطفال وحتى الصف الثاني عشر في المدارس العامة.
وفي حين تبنّى الحزب الشيوعي كثيراً من إجراءات التطهير والتباعد المُتَّبعة في أماكن أخرى، فإنَّه طبَّقها بنهج يتسم بالقيادة والتحكم الكليَّين والذي لا يحتمل أي معارضة. فحَشَدَ كتائب من المسؤولين المحليين وكوادر الحزب لتفقُّد الفصول الدراسية، واستخدم تطبيقات وتقنيات أخرى لمراقبة الطلاب والموظفين، وقيَّد حركتهم. بل طلب من الآباء أيضاً البقاء بعيداً؛ خوفاً من نشر الجراثيم.
وقال الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في خطاب، يوم الثلاثاء الماضي 8 سبتمبر/أيلول، إنَّ تقدُّم البلد في مكافحة الفيروس، وضمن ذلك فتح المدارس، “أظهر بشكل كامل، التفوق الواضح لقيادة الحزب الشيوعي ونظامنا الاشتراكي”.
يسمح النظام السياسي الذي تقوده الدولة في الصين من أعلى إلى أسفل (من مستوى القيادة إلى الجماهير) للحزب بتوجيه بيروقراطيته الهائلة نحو تحقيق هدف واحد، وهو النهج الذي من شأنه أن يكون مستحيلاً في أي مكان آخر بالعالم تقريباً.
ففي الولايات المتحدة، حيث ما تزال الجائحة مستفحلة، كانت النقاشات بشأن كيفية وتوقيت استئناف الدراسة المباشرة مشحونة. وأدَّى غياب استراتيجية وطنية إلى ترك الإدارات التعليمية تصوغ نهجها الخاص. فمن الصعب الحصول على اختبارات فيروس كورونا. وأعرب الآباء عن مخاوفهم بشأن إعادة أبنائهم إلى الفصول الدراسية. وهدَّدت نقابات المعلمين بالإضراب، في حين انتهك طلاب الجامعات القواعد التي تمنع التجمعات.
لكن في الصين، حيث بات الفيروس تحت السيطرة إلى حدٍّ كبير منذ أشهر، لا يوجد مثل هذا النقاش. إذ يتحكم الحزب في المحاكم ووسائل الإعلام، ويقمع أي تهديدات مُتصوَّرة لأجندته. قال يونغ تشاو، الباحث بجامعة كانساس: “النظام يُدار كالجيش: يمضي قدماً بغض النظر عما يعتقده أي أحد”.
إغلاقات قاسية
وتطبِّق الصين من نواحٍ عدة النموذج الصارم نفسه الذي استخدمته للسيطرة على الفيروس، من أجل إعادة فتح المدارس. ولأجل السيطرة على الفيروس، فرضت السلطات إغلاقات قاسية واستخدمت تقنيات مُتجاوِزة ومتطفلة لتتبُّع السكان، الأمر الذي أثار في بعض المناطق الغضب والمخاوف بشأن تآكل الخصوصية والحريات المدنية.
فيما يتعلَّق بالمدارس، قُوبِلَت جهود الحكومة في بعض المناطق بإحباطات مماثلة. فيقول المعلمون، الذين يعملون في بعض الأحيان كعاملين طبيين أيضاً ويختبرون وجود الحُمّى ويعزلون الطلاب المرضى، إنَّهم أُنهِكوا من جرَّاء البروتوكولات الجديدة. وشكا طلاب من أنَّ بعض السياسات مُتجاوِزة، مثل الإغلاقات التي فُرِضَت على حرم الجامعات.
وتطرح الصين الكثير من التدابير نفسها التي اتخذتها بلدان في أوروبا ومناطق أخرى والتي أُعِيد فتح المدارس فيها مؤخراً. فيطلب المديرون من الطلاب والمعلمين الحفاظ على مسافة داخل الفصول الدراسية، ولو أنَّ ترتيبات الجلوس تبقى كما هي إلى حدٍّ كبير. ويحاول المعلمون الإبقاء على الفصل بين الطلاب حسب الصف، بتخصيص مسارات ومداخل معينة للمجموعات العمرية المختلفة من أجل تجنب الازدحام. وتكون الكمامات في الغالب اختيارية داخل الصفوف الدراسية بالنسبة للطلاب والموظفين.
ما الإجراءات التي اتبعتها الصين مع عودة المدارس؟
لكنَّ نهج الصين أكثر تطلُّباً أيضاً، مثلما كان طيلة فترة الجائحة. فالطلاب والموظفون في المناطق التي أُبلِغ فيها عن تفشيات سابقة، أو سافروا إلى مناطق تُعتَبَر خطيرة، كانوا مُطالَبين بإظهار اختبارات فيروس كورونا قبل بدء الدراسة. وحثَّ المسؤولون التعليميون الطلاب على تجنُّب “الخروج غير الضروري” بخلاف الذهاب إلى المدرسة، ولو أنَّه من المستبعد فرض هذه القاعدة. ويُحَث الطلاب كذلك على عدم التحدث أثناء تناول الطعام أو استقلال المواصلات العامة.
ويبدو أنَّ الإجراءات فعَّالة حتى الآن، إذ لم يُبلَّغ عن أي تفشيات أو إغلاقات لمدارس.
منح فتح المدارس للرئيس شي فوزاً دعائياً في فترة من تباطؤ النمو الاقتصادي والانتقادات الدولية على خلفية تغطية حكومته على التفشي في البداية وسوء تعاملها معه.
وفي حين حذَّرت الحكومة المركزية مسؤولي المدارس من أن يصبحوا “عاجزين أو متراخين”، ليس واضحاً ما إذا كانت الإجراءات ستكون مستدامة أم لا. وأثارت القواعد العامة للحكومة الغضب في بعض المناطق.
إذ تعاني العديد من المدارس بالفعل من نقص في الموظفين والموارد، ويقول المعلمون إنَّهم يعانون لمجاراة القوائم الطويلة من مهام السيطرة على الفيروس. وينهض بعض المعلمين في الرابعة صباحاً؛ فقط لمراجعة البروتوكولات.
قال مينغتيان، وهو معلم في مدرسة ابتدائية بمدينة شنجن، في مقابلة هاتفية: “هناك أمور كثيرة جداً، ولا يتم تعويضنا. علينا بذل الكثير من الوقت والطاقة في عملنا”.
“نفذ ولا تناقش”
وفي مدارس أخرى، يقول المعلمون إنَّ المسؤولين يتبعون السياسات بشكل أعمى؛ لإرضاء مسؤولي المناصب العليا، حتى لو لم تكن فعّالة.
فقالت كانغ جينجي، وهي معلمة بإحدى المدارس الثانوية في مدينة جينغتشو، وهي مدينة تقع على بُعد 130 ميلاً (209 كيلومترات تقريباً) غربي ووهان، إنَّ كاميرا حرارية عند مدخل المدرسة تقدم باستمرارٍ بيانات غير دقيقة، وتُصوِّر كل شخص يدخل على أنَّه مصاب بالحمّى. وقالت في مقابلة: “الآلة عديمة الفائدة. لكنَّ المدرسة لابد أن تضعها؛ لأنَّ السياسات تفرض مثل هذه المطالب”.
وفي الجامعات الحكومية، التي تخدم نحو 33 مليون طالب في الصين، اندلع الغضب بسبب إجراءات إغلاق الحرم الجامعي التي استهدفت الطلاب مع إعفاء أعضاء هيئة التدريس والموظفين. ومنع المسؤولون الطلاب أيضاً من استقبال الوجبات السريعة بالتوصيل أو الطرود. وانتشرت في الأيام الأخيرة مقاطع فيديو على الإنترنت تُظهِر طوابير طويلة عند الكافيتريات (المقاصف)، إلى جانب طلاب يحاولون معانقة مَن يواعدون عبر أسوار الحرم الجامعي.
شَكَت بان شينغ، وهي طالبة في السنة الثانية بمعهد شانغشو للتقنية في مقاطعة جيانغسو شرقي البلاد، على موقع Weibo، وهو موقع للتدوين القصير: “هل تخططون لحبسنا مدى الحياة؟”. وقالت بان في مقابلة: “أشعر بأنَّي في مدرسة ثانوية. جئنا إلى الكلية لجمع المعرفة وتعلُّم كيفية التعامل في المجتمع، وليس فقط كي نجلس في الصف بالمدرسة كل يوم”.
وكان لدى الكثير من المدارس بالفعل بعض التدرُّب على العمل في ظروف الجائحة. إذ استُؤنِفَت الدراسة ببعض الصفوف في أبريل/نيسان ومايو/أيار الماضيين، بمناطق كثيرة من الصين، ولو أنَّ ذلك تم بجداول متعاقبة وقيود على أعداد الطلاب.
التعامل مع الضغط والصدمة
استثمرت الحكومة منذ ذلك الحين بقوة في تجهيز المدارس بالكمامات والقفازات ومقاييس الحرارة بالأشعة تحت الحمراء وغيرها من التجهيزات.
وتدعو إرشادات وزارة التعليم إلى قياس الحرارة 3 مرات على الأقل يومياً، وإرسالها إلى مسؤولي المدرسة. وتكون القواعد أكثر صرامة في المناطق التي تنظر إليها الحكومة باعتبارها مُعرَّضة بصورة خاصة لحدوث تفشٍّ. ففي بكين، على سبيل المثال، ارتداء الكمامات مطلوب طوال الوقت.
وتذهب الإجراءات في بعض الأحيان إلى أبعد من ذلك بالتوسع في نطاق ما هو متوقع عادةً من معلمي البلاد. إذ أَمَرَت الوزارة المدارس بمساعدة الطلاب على التعامل مع الضغط والصدمة الناتجَين عن الجائحة من خلال تقديم المشورة لهم. ويُحاسَب المسؤولون عن تقليص قصر النظر بين أطفال المدارس، والذي ارتفعت معدلاته بحدة خلال الجائحة، على حد قول الحكومة، بسبب قضاء الطلاب مزيداً من الوقت في استخدام الحواسيب في التعلُّم (وربما اللعب).
وعلى الرغم من الانزعاج من بعض القيود، ترحب الكثير من العائلات باستئناف الدراسة. فبعد أشهر من تولّي مسؤولية الدروس المؤقتة في غرف معيشتهم ونهْر الأطفال عن لعب الكثير للغاية من ألعاب الفيديو، يشعر الأهالي بالراحة؛ لتمكُّنهم من إعادة أبنائهم إلى الفصول الدراسية وبرامج تعلُّم ما بعد المدرسة.
قالت صوفيا تانغ، الأم لطالب ثانوي مستجد في مدينة هانغتشو شرقي البلاد: “سيطرنا على الوباء بصورة جيدة، وسيكون ذلك جيداً لبلدنا”.