كيف أفسد انقلاب النيجر خطة ماكرون التي أراد بها إعادة ضبط أوضاع فرنسا بإفريقيا؟
وكان من المقرر أن تفتح هذه القرارات الباب أمام مرحلة جديدة من “انضباط” العلاقات الفرنسية الإفريقية، لتستند إلى الوعود التي قدمها ماكرون أول مرة في خطاب ألقاه في واغادوغو، عاصمة بوركينافاسو، في عام 2017، وأقسم فيها أنه “من جيل لم يأتِ ليخبر الأفارقة ما عليهم فعله”، وإنما جاء للتعاون معهم، حسب تعبيره.
لكن رغم ذلك، فإن الانقلاب العسكري الذي تعرض له محمد بازوم، رئيس النيجر المنتخب، الأسبوع الماضي، أوقع آمال العلاقة الجديدة في اختبار حرج، كما يقول تقرير لمجلة The Economist البريطانية.
“تسقط فرنسا”
في 30 يوليو/تموز، هتف المتظاهرون في نيامي، عاصمة النيجر “تسقط فرنسا”، ورفعوا الأعلام الروسية. وهاجم حشد من الناس السفارة الفرنسية، وأشعلوا النار في بوابتها وحطموا نوافذها، فاضطرت فرنسا في 1 أغسطس/آب 2023 إلى الشروع في إجلاء مواطنيها وغيرهم من المواطنين الأوروبيين من النيجر.
أفزع هذا الانقلاب فرنسا أكثر من غيرها، فقد غادرت القوات الفرنسية مالي المجاورة العام الماضي، وأعادت تجميع صفوفها في النيجر، واتخذتها محطة استقرار نسبي لها في المنطقة المضطربة. وبمقتضى اتفاقية الدفاع بين البلدين فإن فرنسا لديها قاعدة عسكرية دائمة هناك، ترتكز فيها طائرات مقاتلة، وطائرات “ريبر” مسيَّرة، و1500 جندي فرنسي.
تقول الإيكونومست لا يبدو أن الانقلاب قد استند إلى ترتيبات تختص فرنسا بالعداء الاستراتيجي، بقدر ما أنه انقلاب ترتبط أسبابه بالمصالح الشخصية لأصحابه. ومع ذلك فإن السهولة التي تمكن بها صناع الانقلاب من استثارة العداء الكامن لفرنسا في حشد الدعم الشعبي لانقلابهم تدلُّ على عمق الأزمة المستفحلة في علاقات فرنسا بتلك المنطقة.
حسابات فرنسا تنقلب في إفريقيا
اهتزت مكانة فرنسا بالفعل في المنطقة تحت وقع الضربة التي تلقتها بالخروج من مالي. فقد كان الفرنسيون لديهم هناك 2500 جندي أُرسلوا بمقتضى عملية “برخان”، التي بدأت في عام 2013، بطلبٍ من حكومة مالي لمساعدتها في مواجهة المتشددين.
لكن الحكومة الموالية لفرنسا واجهت احتجاجات كبيرة آلت إلى الانقلاب عليها في عام 2020، وشهدت البلاد انقلاباً آخر في العام التالي، ثم قرر المجلس العسكري الجديد الاستعانة بمجموعة فاغنر الروسية لمحاربة المتشددين وحماية البلاد، فتغيرت الحسابات التي استند إليها الحضور الفرنسي. وبحلول أغسطس/آب 2022، كان جميع الجنود الفرنسيين قد غادروا مالي، آخذين معهم نحو 4 آلاف حاوية من المعدات وألف مركبة، وأُسدل الستار على عملية برخان.
لم يقتصر الأمر على ذلك، فقد تعرض الحضور الفرنسي في القارة لنكسة أخرى بعد الانقلابين العسكريين اللذين وقعا في بوركينافاسو العام الماضي. إذ أمر قادة الانقلاب الثاني جميع القوات الفرنسية بمغادرة البلاد، فأتمَّت فرنسا سحب قواتها من هناك هذا العام.
يزعم بعض المحللين الغربيين أن فرنسا لم ترتكب خطأ يستدعي هذه النكسات، فقد راجع ماكرون نهج التعامل مع المنطقة، وصحَّح مساره على حد زعمهم، فأعاد إلى بنين والسنغال الأعمال الفنية التي نُهبت منهما ووُضعت في متاحف باريس، وتعهد بالتخلي عن عملة “الفرنك الإفريقي” التي فرضها الاستعمار الفرنسي على بعض دول القارة.
كما طلب ماكرون سماح بلاده عن دورها في الإبادة الجماعية التي وقعت في رواندا عام 1994، وحثَّ المستثمرين على تمويل التكنولوجيا والشركات الناشئة في إفريقيا، وألا يكون شغلهم الشاغل هو العقود والامتيازات، ثم أعلن هذا العام أن عصر إفريقيا الفرنسية “قد ولَّى”، قاصداً بذلك شبكة النفوذ الخبيثة والمساعدات العسكرية والامتيازات التجارية التي كانت تربط فرنسا بمستعمراتها السابقة.
مراجعة فرنسا لخططها وعملياتها جاءت متأخرة
ويرى مايكل شوركين، المتخصص في شؤون دول الساحل الإفريقي بمركز “المجلس الأطلسي” البحثي في أمريكا، أن فرنسا أعادت النظر في عملياتها بالقارة بعد الانسحاب من مالي، وقررت تخفيف حضورها بالقارة وجعلِه أقل علانية، و”حاولت استخلاص العبر مما حدث في مالي، والتحسس لمخاوف النيجر”.
رغم ذلك، فإن المشكلة تكمن في أن هذه المراجعة جاءت قليلة التأثير، وبعد فوات الأوان. فالصين وروسيا وتركيا وغيرها تُقرض وتستثمر وتتعاقد مع الدول في غرب إفريقيا بلا تذمر يذكر من تلك الدول. وقد حلَّت الصين محل فرنسا وصارت المصدر الرئيسي للواردات إلى المنطقة. وتولت دول أوروبية أخرى تدريب القوات العسكرية في منطقة الساحل، وتدير الولايات المتحدة عملية استخباراتية كبيرة من النيجر.
في المقابل، فإن التاريخ الاستعماري الكارثي لفرنسا بالمنطقة يجعل دولها أكثر التفاتاً إلى التناقضات في مواقفها السياسية من التفاتهم إلى تناقضات غيرها. فعلى سبيل المثال سارع كثير من الديمقراطيين في المنطقة إلى انتقاد فرنسا حين غضت الطرف في عام 2021 عن التحركات غير القانونية التي استولى بها محمد إدريس ديبي على السلطة في تشاد بعيد وفاة والده، الذي سيطر على حكم البلاد 30 عاماً.
ومع ذلك، فإن قلة من الناس من أبدوا اعتراضهم حين استقبلت واشنطن ديبي في قمة للزعماء الأفارقة بعد أشهر من إطلاق قواته النار على أكثر من 50 متظاهراً طالبوا بإنهاء الحكم العسكري.
فرنسا صنعت طواغيت في إفريقيا لحماية مصالحها الاستعمارية
ترجع بعض أسباب ذلك إلى أن فرنسا هي القوة الاستعمارية السابقة الوحيدة التي لا تزال تحتفظ بقواعد عسكرية كبرى لها في القارة. أما دول الاستعمار السابقة، مثل بلجيكا وبريطانيا والبرتغال، فلم تعد لديها قواعد كهذه. وأبقت فرنسا على روابط قوية لها مع النخب المحلية بعد خروج الاستعمار، وتولت دور الشرطي الإقليمي لحماية الحكام الموالين لمصالحها، ومن ربطوا ثروات بلادهم بها.
وكثير من الحكام الأفارقة، الذين يُتهمون اليوم بالفشل في الحد من الفقر والعنف في بلدانهم، مقربون من فرنسا. ففي مالي، على سبيل المثال، غضب كثيرون من استمرار التدهور في الوضع الأمني رغم انتشار الآلاف من جنود القوات الفرنسية وقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.
لم يجد الفرنسيون طريقة فعالة لمواجهة الرواية التي ينشرها الروس وغيرهم عن الاستعمار الفرنسي، وعلاقة فرنسا بدولِ ما بعد الاستعمار، واستغلالها لثرواته تلك الدول. وكشف استطلاع أجرته مؤسسة Friedrich Ebert Stiftung الألمانية في عام 2022، أن 80% من الماليين يرون أن إنهاء فرنسا عملية “برخان” لم يكن له تأثير سلبي على أمن بلادهم، وقال 69% من المشاركين إنهم واثقون بأن روسيا يمكنها إعادة الأمن إلى البلاد.
علاوة على ذلك، فإن النهج الفرنسي وإن تغير بقدرٍ ما فإن مطالب جيل الشباب الرافض للوصاية تتغير على نحو أسرع من خطوات فرنسا. وفي هذا السياق انتُقد ماكرون انتقاداً لاذعاً على وسائل التواصل الاجتماعي في المنطقة في عام 2020، بعد أن استدعى زعماء مجموعة الساحل الخمس- بوركينافاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر- إلى قمة حول أمن المنطقة في باو، في جنوب غرب فرنسا. وقال فرانسوا هايسبورغ، من “مؤسسة البحوث الاستراتيجية” الفرنسية، إنه “كان من الخطأ الاستعانة بمنظمة إقليمية لا تجمع إلا بعض الدول، فقد تجلى للجميع أن فرنسا هي التي تتزعمها”.
فرنسا تواجه الآن اختباراً صعباً وممتد العواقب
من جهة أخرى، فإن فرنسا وإن حققت بعض النجاحات قصيرة الأمد في مواجهة المتشددين بالمنطقة خلال العقد الماضي، فإنها عجزت عن فرض الأمن ولا يزال العنف مستشرياً. وقد عزز هذا النظريات التي تشكك في دوافع فرنسا الحقيقية، وتتهمها بأنها لا تشن هذه العمليات إلا لتدريب جيشها، وحماية مناجم النيجر التي تمد مفاعلاتها النووية باليورانيوم.
والخلاصة أن فرنسا تواجه الآن اختباراً صعباً وممتد العواقب. ومع أن كبار ضباطها يقولون إن الانسحاب من النيجر “ليس خياراً مطروحاً للتفاوض”، فإن بقاء المجلس العسكري قد يجبرها على ذلك. وأهم من ذلك أن مستقبل الديمقراطية في النيجر واستقرار منطقة الساحل برمتها صارا على المحك. أما فرنسا فقد ترى فيما يحدث اختباراً لقدرتها على استعادة نفوذها، وإعادة تشكيل نهجها الأمني في القارة.