كيف تحافظ تركيا على استقرار قيمة الليرة في ظل الأزمة الأوكرانية؟.. البنك المركزي والـ Capital Control هما الإجابة
لكن الليرة التركية تعرضت لهزة أخرى بعد أن فقدت ما يقارب 6% من قيمتها، بسبب تداعيات الأزمة الأوكرانية، منذ الأربعاء 23 فبراير/شباط 2022، اليوم السابق لبدء الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا، بمقارنة قيمتها بما هي عليه اليوم، الأربعاء 20 أبريل/نيسان 2022.
بلغت قيمة الليرة التركية قبل الحرب بيوم 13.8 ليرة مقابل الدولار الواحد، وهي اليوم عند 14.65 ليرة مقابل الدولار الواحد، بعد أن تذبذبت بين 14.6-14.85 ليرة للدولار الواحد، ولا تزال تتذبذب في هذا المدى الضيق منذ ذلك الحين.
بينما رأت عملات الدول النامية تذبذباً أكبر من ذلك بكثير، وفقاً لمؤشر يجمع عملات هذه الدول مع بعضها، ويقيسها كوحدة واحدة.
كما أن عملات دول نامية بعينها رأت انخفاضات أكثر حدة من الليرة التركية، مثل العملة المصرية التي انخفضت بنسبة 15%، وخلال مدة قصيرة بسبب الأزمة الأوكرانية، وتداعياتها على الاقتصاد المصري.
كما أن العملة البرازيلية مثلاً؛ انخفضت بنسبة مقاربة لـ 10% منذ بدء الأزمة، وهي مستمرة في الانخفاض منذ ما قبل بدء الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا، وبدء تداعياته الاقتصادية حول العالم.
كيف استطاعت الليرة التركية الحفاظ على استقرارها؟
المعلن أن الليرة التركية خاضعة لقواعد العرض والطلب بشكل حر في السوق، أي أن البنك المركزي التركي لا يتدخل لتعديل قيمة الليرة، بل يتركها للتحرك بحسب مقدار عمليات شرائها وبيعها في السوق.
لكن الاستقرار النسبي في أسعار الليرة منذ بدء الهجوم يعكس شكوكا في التزام البنك المركزي التركي بسياسته المعلنة، فقد رصد محللون ووسائل إعلام سابقاً استخدام البنك المركزي لتدخلات مباشرة في السوق في قيمة العملة.
حصل ذلك وقت الانخفاض المتسارع لقيمة العملة التركية، والتي وصلت إلى تجاوز قيمة 18 ليرة للدولار الواحد لفترة قصيرة جداً، قبل أن يبدأ البنك المركزي التركي إجراءاته الهادفة لمنع انهيار كامل لليرة، ووصولها إلى مستويات خيالية؛ كان يمكن لها تهديد الاقتصاد التركي بشكل كبير جداً، مقارنة بما تحقق سابقاً في البلاد.
تم الإعلان عن بعض هذه التدخلات من قبل البنك المركزي، ولم تتم جميعها بشكل غير معلن، لكن بعض هذه التدخلات لم يعلن عنها حتى اللحظة.
ومن غير الممكن التأكد من حجم هذه التدخلات، فهي ليست معلنة من قبل البنك المركزي التركي بشكل مباشر، ولكنها محتسبة من قبل خبراء اقتصاديين، يقدرون وجود التدخل وحجمه.
وقد بلغ هذا التدخل في إحدى الفترات 0.6-1 مليار في أسبوع واحد فقط، بينما قدّر أن تدخلات المركزي التركي في السوق في شهر ديسمبر/كانون الأول 2021، بلغت 20 مليار دولار.
كما أن البنك المركزي التركي قام بعدة إجراءات لمعالجة الأزمة، أو على الأقل تحقيق استقرار جزئي في السعر، ولو بعد انخفاض قيمة العملة بشكل ملحوظ، بعضها يعتبر خلقاً للطلب على الليرة التركية من غير البنك المركزي، ولو بشكل اصطناعي.
أحد هذه الإجراءات كان إجبار المصدرين الأتراك على تحويل 25% من قيمة مبيعاتهم بالعملة الصعبة إلى الليرة التركية، ما يعني أن ربع هذه الصادرات سيتحول إلى دعم مباشرة لليرة التركية، ولو لم يرغب المصدرون بشرائها بسبب انخفاض سعرها في السوق، والرغبة بالحفاظ على القيمة في أيديهم بإبقاء قيمة مبيعاتهم بالعملة الصعبة.
كما أن الحكومة أعلنت عن برنامج جديد يعوض أي خسارة ممكنة للمودعين بالليرة التركية، مقارنة بودائع العمل الأخرى، ما يعني أنه ليس على المواطنين الأتراك وغيرهم التخوف من انخفاض قيمة أموالهم المودعة بالليرة، ما يعني جلب الاستقرار لهذه الودائع، والحد من بيع العملة، وبالتالي انخفاض قيمتها بشكل كبير.
نجحت الخطة إلى حد ما؛ واستطاعت الليرة الارتفاع إلى ما يقارب 10 ليرات للدولار الواحد، بعد أن وصلت إلى 18 ليرة للدولار في وقت سابق، لكنها دخلت في مرحلة من التذبذب قبل الاستقرار حول 13.5 ليرة للدولار الواحد، قبل بدء الهجوم العسكري.
والمرجح أن السلطات التركية تمارس نفس الإجراءات ولو بشكل غير معلن حالياً، لتثبيت سعر صرف الليرة التركية عند حوالي 14.65 للدولار الواحد، بما في ذلك تدخلات البنك المركزي في السوق، والتي قد تستنزف احتياطات تركيا من العملات الصعبة.
كما أن الحكومة التركية اتخذت إجراء جديداً بخصوص تحويلات مبيعات الصادرات إلى الليرة التركية، بحيث رفعت نسبة ما يجب على المصدرين تحويله إلى الليرة إلى 40%، لتزيد الطلب بشكل أكبر على العملة المحلية، وتدعم إجراءات الحكومة والبنك المركزي لها، وهو أحد أشكال الـ Capital Control.
نجاح التجربة في روسيا
إذا كان الاقتصاد العالمي يخسر بسبب الحرب في أوكرانيا، وتخسر الدول الناشئة تحديداً؛ فإن الاقتصاد الروسي هو أكبر الخاسرين، بسبب العقوبات الغربية غير المسبوقة، والتي وصفت أحياناً بـ”الخيار النووي المالي” التي فرضت على روسيا.
تضمنت هذه العقوبات تجميد أرصدة روسيا في الخارج، وحجز احتياطات البنك المركزي الروسي، وحظراً تجارياً في كثير من القطاعات، وغيرها من أساليب الغرب التي تهدف إلى خنق الاقتصاد الروسي، ودفعه للانهيار.
بسبب هذه العقوبات تمكن الغرب من خفض قيمة الروبل بشكل كبير، بحيث إنه قارب على فقدان نصف قيمته في بداية الأزمة، وبدا أن الروبل متجه نحو انخفاضات أكبر لاحقاً، لكن الدولة الروسية استطاعت فرض إجراءات مكنت الروبل من الصمود، بل والعودة إلى مستويات ما قبل الحرب.
أحد هذه الإجراءات كان فرض تحويل 80% من مبيعات المصدرين الروس إلى الروبل، خصوصا أن روسيا ممنوعة من استيراد الكثير من الأمور من الخارج عموما، والغرب خصوصاً، فلا حاجة كبيرة للإبقاء على كثير من الاحتياطات بالعملات الصعبة، إذا لم يكن هناك قدرة على استخدامها فيما بعد.
وبالفعل؛ نجحت الإجراءات الروسية، وعاد الروبل إلى ما كان عليه في السابق، رغم أن ذلك لا يعني إلا آثاراً سلبية ستظهر على الاقتصاد الروسي، بل الغالب أن هذا سيحصل بالفعل، ولكن روسيا استطاعت امتصاص الضربة الأولى بكفاءة عالية.
ورغم أن هذه الإجراءات ليست اختراعاً جديداً؛ فتركيا تستخدمه من قبل الهجوم على أوكرانيا، إلا أن النجاح الكبير لهذه الإجراءات في روسيا، قد يدفع بلداناً كثيرة، ومنها تركيا إلى استخدام مثل هذه الإجراءات، وتوسيعها أيضاً، للحفاظ على اقتصاداتها المحلية، وتحقيق استقرار عملاتها.
أزمة الليرة التركية
تعيش تركيا أزمة اقتصادية مركبة، بدأت تظهر منذ عام 2018، عنوانها الأبرز هو انخفاض قيمة العملة، والتي كانت تبلغ أقل من 4 ليرات للدولار الواحد في بداية العام.
تستمر الأزمة اليوم في تركيا، وتضاعفت في الشهور الأخيرة من عام 2021، وأكد الخبراء أن سببها الأساسي رفض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رفع أسعار الفائدة في تركيا، والإصرار على تخفيضها أيضاً.
تعمل أسعار الفائدة على إبقاء المستثمرين بالليرة داخل السوق، وتحفيزهم على عدم بيع العملة المحلية والخروج، كما أنها تجذب مستثمرين آخرين أيضاً من الخارج، وتحفز المواطنين حتى على الاستثمار في الليرة، لأن سعر الفائدة يمثل العائد المتوقع على هذا الاستثمار، وكلما ارتفع سيرتفع الطلب معه.
لكن أردوغان لديه نظرية أخرى غير معتادة، تقول إن خفض أسعار الفائدة سيعني في النهاية رفع قيمة العملة، أو تحقيق استقرار في أسعارها على الأقل، عن طريق تخفيض كلفة الاستثمار والاستهلاك المتمثلة بأسعار الفائدة، والذي يعني تحقيق معدلات نمو أكبر، ووظائف أكثر.
كما أن الانخفاض في سعر الفائدة قد يعني استيراداً أقل في المستقبل، بالإضافة إلى ارتفاع في الصادرات التركية، لأنها أصبحت أقل ثمناً في الخارج مما سبق، وهي كلها أمور تعني نمواً وتنمية في الاقتصاد التركي، وقوة الاقتصاد ستعني قوة العملة مستقبلاً.
ولكن الجدل مستمر حول هذه النظرة المخالفة للسائد في الاقتصاد، سواء على مستوى الخارج أو الداخل، خصوصاً مع قرب موعد الانتخابات العامة في تركيا، والتي ستحدد مصير حزب العدالة والتنمية في السلطة.
وأهم العوامل التي تحدد توجهات الناخبين هو قدرتهم الشرائية، ومدى تضررها أو تحسنها في الفترة الأخيرة، وهذا العامل ليس في صالح العدالة والتنمية اليوم؛ حيث بلغ التضخم أكثر من 60% على أساس سنوي.
كما أن العالم يشهد ضغطاً تضخمياً عالياً بسبب الأزمة في أوكرانيا، ما يعني إمكانية تزايد الضغوط التضخمية في تركيا أيضاً، ووصولها إلى نسب أكبر مما حققته أصلاً، خصوصاً مع ارتفاع أسعار النفط، وتضرر سلاسل التوريد بسبب جائحة كورونا.