كيف تحولت الملاحقات القضائية إلى سلاح حكومي للتخلص من القضاء بلبنان؟
في بلد لطالما شكل الإفلات من العقاب القاعدة فيه، تكالبت الأزمات على لبنان الجريح سياسيا والمنكوب اقتصاديا وسط مخاوف من “الانفجار الكبير
فالبلد العربي الذي يحاول ملء الشغور الرئاسي الذي زاد من طين الأزمات بلة، بات مرفق القضاء فيه محاصرًا بـ”التغولات السياسية”، التي لها اليد الطولى على قراراته، بشكل ينذر بمخاوف كبيرة، على استقلال الجهة التي يأمل اللبنانيون أن تضمد جراحهم، وتسكن آلامهم بجرعة منصفة، تقتص فيها مما عاثوا في بلادهم فسادًا.
إلا أن أملا كهذا يبدو بعيد المنال في الوقت الحالي، وخاصة بعد قرابة شهرين من الأزمات التي باتت تطوق القضاء في لبنان، و”حصاره” من قبل القوى السياسية النافذة في البلد المأزوم سياسيًا واقتصاديًا.
فماذا حدث؟
آخر تلك الأزمات التي وضعت القضاء مرمى لها، كان الطلب الذي وجهه المدعي العام اللبناني اليوم الثلاثاء إلى قاضية التحقيق في المعاملات المالية للمصارف التجارية في لبنان، بوقف عملها مؤقتا، بعد أسبوع من تحرك رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي لعرقلة مسار التحقيقات.
وتجري القاضية غادة عون تحقيقا بشأن القطاع المصرفي منذ انهياره في 2019 بعد عقود شهدت خلالها البلاد فساد حكومات وإهدار موارد وسوء إدارة مالية.
إلا أن المدعي العام غسان عويدات بعث اليوم الثلاثاء برسالة إلى عون، طلب منها “وقف إجراءاتكم التحقيقية والاستقصائية مؤقتا إلى حين البت في القضايا المثارة بحقكم”.
وأظهرت وثائق أن نجيب ميقاتي، رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان طلب من قوات الأمن عدم تنفيذ أوامر قاضية لبنانية وجهت في الآونة الأخيرة اتهامات لبنكين، فيما وصفه منتقدون بأنه دليل جديد على التدخل السياسي في عمل القضاء.
ووجه ميقاتي رسالة إلى بسام مولوي، وزير الداخلية والبلديات يوم الأربعاء الماضي، طلب فيها من الأجهزة الأمنية “عدم تنفيذ القرارات الصادرة عن” القاضية والنائب العام الاستئنافي في جبل لبنان غادة عون. وقال ميقاتي إن قرار غادة عون يمثل تجاوزا للسلطة.
تدخلات سياسية
وأصدر مولوي توجيها طلب من مديرية الأمن العام اللبناني وقوى الأمن الداخلي عدم التصرف بناء على أوامر غادة عون.
فيما ردت عون في تغريدة عبر حسابها بـ”تويتر”، قائلة” تدخل غير مسبوق في عمل القضاء، ومناصرة من قبل وزير الداخلية للفريق المدعى عليه على حساب الجهة المدعية. معقول وحضرته كان قاضي. في نصف الشعب اللبناني حُرم من جنى عمره ورزقه ومدخراته ألا يعنيك ذلك؟؟ كيف تسمح لنفسك بالتدخل في مسار الدعوى. هذا انهيار كلي للعدالة في هذا البلد المسكين”.
ويمارس السياسيون والمصارف التجارية أيضا نفوذا كبيرا فيما يتعلق بتعيينات القضاة ونطاق صلاحياتهم في لبنان.
ودخلت المصارف اللبنانية في إضراب في السابع من فبراير/شباط بعد اجتماع لمناقشة الإجراءات القانونية المتصاعدة التي تواجهها منذ أن بدأ الاقتصاد في الانهيار منذ عام 2019، وشملت تلك الإجراءات خطوات اتخذتها عون، التي اتهمت مصرفين هذا الشهر بالضلوع في غسل أموال.
لكن المصارف علقت إضرابها لمدة أسبوع بعد تحرك ميقاتي ضد عون وقالت إنها تنتظر حلا طويل الأمد لحالة “الخلل” في القضاء، فيما لم تصدر المصارف اللبنانية تعليقا بعد على رسالة عويدات.
وتتابع القاضية عون التحقيقات في القطاع المالي اللبناني منذ انهياره في 2019 بعد عقود من الفساد الحكومي والإنفاق المسرف وسوء الإدارة المالية.
سلاح حكومي
وقال نزار صاغية من منظمة المفكرة القانونية للحقوق المدنية إن الخطوات أظهرت كيف تحولت أسس أصول الملاحقة القضائية إلى سلاح حكومي للتخلص من القضاء.
واشتكى أكبر قاض لبناني وأعضاء آخرون في القضاء في الماضي من التدخل السياسي في الإجراءات القضائية، بالإضافة إلى أن القضاء منقسم حول كيفية التعامل مع التحقيق في انفجار ميناء بيروت عام 2020.
وفي إطار تحقيقاتها المالية، جمدت غادة عون العام الماضي أصول خمسة بنوك كبرى وأعضاء مجالس إدارتها على الرغم من عدم توجيه اتهامات لهم بارتكاب أي مخالفات.
كما اتهمت حاكم البنك المركزي رياض سلامة العام الماضي بالإثراء غير المشروع في قضية تتعلق بتحقيقات فساد أوسع في لبنان وخمس دول أوروبية على الأقل، في مزاعم ينفيها سلامة الذي اتهمه قاض لبناني آخر قبل أيام بالإثراء غير المشروع.
ووجهت القاضية عون قبل أيام لبنك سوسيتيه جنرال في لبنان ورئيسه التنفيذي اتهام “غسل الأموال” كجزء من تحقيقها في المعاملات بين البنوك التجارية والبنك المركزي. ونفى بنك سوسيتيه الاتهامات وقال إنه لم يرتكب أي مخالفات.
وكانت غادة عون قد وجهت الاتهام نفسه في 13 فبراير/شباط الجاري لبنك عودة وبعض مسؤوليه التنفيذيين، فيما رد الأخير، قائلا إن البنك يحترم جميع قوانين البنوك في لبنان والخارج.
اتهام سلامة
وكانت السلطات القضائية في لبنان اتهمت في 23 فبراير/شباط الجاري حاكم المصرف المركزي رياض سلامة وشقيقه رجا ومساعدة له بغسل الأموال والاختلاس والإثراء غير المشروع بعد أشهر من التأخير في القضية.
لكن التطور أثار أيضا مخاوف من أن السلطات في لبنان، حيث لا يزال سلامة يتمتع بدعم سياسي على مستوى عال، قد تبطئ التعاون مع محققين أوروبيين يفحصون نفس الاتهامات ضد سلامة.
ويشكك المنتقدون فيما إذا كان نظام القضاء اللبناني، الذي تعتمد التعيينات فيه إلى حد كبير على الدعم السياسي، سيحقق بجدية في اتهامات ترتبط بشخصية تتمتع بمثل مكانة سلامة الذي يحظى بدعم سياسي على مستوى عال.
صعوبات أمام القضاء
ولا ينكر القضاء وجود الصعوبات؛ فقال أعلى قاض في لبنان في نوفمبر/تشرين الثاني في تعليق عام إن التدخل السياسي في العمل القضائي أدى إلى وضع فوضوي يتطلب “ثورة في المقاربات” لحله.
وواجه القاضي جان طنوس، المكلف بقيادة التحقيق الأولي، عقبات من بينها، بحسب تقارير، تدخل رئيس الوزراء نجيب ميقاتي لمنعه من الوصول إلى بيانات من البنوك. ونفى ميقاتي هذه التقارير.
ومنع النائب العام التمييزي غسان عويدات القاضي طنوس من حضور اجتماع في باريس العام الماضي مع المدعين الأوروبيين الذين يحققون بشأن سلامة، بحسب “رويترز”.
وفي يونيو/حزيران 2022، أمر عويدات أحد ممثلي الادعاء بتوجيه اتهامات رسمية لسلامة بارتكاب جرائم من بينها غسل الأموال والإثراء غير المشروع والتزوير والتهرب الضريبي. لكن المدعي رفض وطلب إعفاءه من القضية العام الماضي.
ووجه المحامي العام الاستئنافي في بيروت القاضي رجا حاموش المكلف حديثا بالقضية اتهامات قبل أيام لسلامة بغسل الأموال والاختلاس والإثراء غير المشروع.
ضرب قرارات القضاء
وسبق أن قاد تحقيق منفصل أجرته المدعية العامة في جبل لبنان القاضية غادة عون إلى اتهام سلامة في مارس/آذار 2022 بالإثراء غير المشروع في قضية تتعلق بشراء شقق في باريس وتأجيرها، بعضها من جانب البنك المركزي، إلا أن سلامة ينفي المزاعم ويقول إن دوافع الادعاء سياسية.
وقد أحيلت القضية إلى قاضي تحقيق إلا أن سلامة الذي لم يحضر أي جلسة، يواصل ممارسة صلاحيات واسعة خلال التحقيقات، ويحظى بدعم شخصيات بارزة منها رئيس مجلس النواب نبيه بري وميقاتي.
وقد كان سلامة حجر زاوية في نظام مالي خدم المصالح الراسخة للتيارات الرئيسية في لبنان بعد الحرب الأهلية التي دارت من 1975 إلى 1990. ويقول كثير من المراقبين إن هذه الأطراف تخشى أن يكون لسقوطه تداعيات عليها.
وتنتهي الولاية الحالية لسلامة، ومدتها ست سنوات، في يوليو/تموز المقبل، فيما يقول سلامة إنه لا يريد الاستمرار في هذا المنصب. لكن الأطراف اللبنانية الأكثر نفوذا لم تعلن بعد عن أي خلفاء محتملين له. وقال وزير المالية هذا الشهر إن استبداله سيكون صعبا وأرجع هذا إلى التعقيدات السياسية في لبنان.
انفجار بيروت
أزمة أخرى كشفت كيف تتغول المؤسسات السياسية على قرار القضاء في تونس؛ فالقاضي الذي يحقق في انفجار مرفأ بيروت الذي وقع في أغسطس/آب 2020 إنه أرجأ استجواب كبار المسؤولين الحاليين والسابقين الذي كان من المقرر أن يبدأ في النصف الأول من الشهر الجاري، لحين التوصل إلى تسوية قانونية بشأن نطاق سلطاته.
وكان القاضي طارق البيطار قد استأنف الشهر الماضي تحقيقاته في الانفجار الذي أودى بحياة أكثر من 220 شخصا بعد تعليق دام 13 شهرا بسبب مشاحنات قانونية وضغوط سياسية عالية المستوى.
ووجه تهما إلى أشخاص أقوياء في البلاد بما في ذلك المدعي العام التمييزي غسان عويدات، الذي قدم بدوره اتهامات ضد البيطار بتهمة تجاوز سلطاته وأمر قوات الأمن بعدم الانصياع لأوامره.
وكان البيطار الذي ينفي التهم الموجهة إليه قد حدد جلسات استجواب لنحو 12 من المسؤولين الحاليين والسابقين في فبراير/شباط، بدءا بالوزيرين السابقين غازي زعيتر ونهاد المشنوق، إلا أنه قال لـ”رويترز”: “أرجأت الجلسات لعدم وجود تبليغات ولأن هناك إشكالية في التعاون بين المحقق العدلي والنيابة العامة التمييزية يجب حلها كي يسير التحقيق بشكل سليم بأسرع وقت”.
وأضاف: “النيابة العامة التمييزية ادعت علي باغتصاب السلطة وهذه الإشكالية يجب حلها بالأطر القانونية فإذا كنت مغتصب سلطة أحاكم وإذا لم أكن مغتصب سلطة أعود إلى التحقيق”
تحقيقات بيطار
ودعا نحو 40 نائبا وجماعة تمثل القضاة والمحامين عويدات إلى التراجع عن قراراته والسماح لبيطار باستئناف تحقيقه، في الوقت نفسه تلقى عويدات الدعم من المسؤولين السياسيين بما في ذلك جماعة حزب الله، والتي عارضت بشدة تحقيق بيطار واتهمته بالانحياز.
وفي محاولة من الدول الغربية، لتحريك المياه الراكدة في انفجار بيروت، حثت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والنرويج وسويسرا في 10 فبراير/شباط الجاري، الأطراف اللبنانية على السماح بإجراء تحقيق “نزيه وشفاف” في انفجار مرفأ بيروت والامتناع عن “كل أعمال التدخل”.
وعبرت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والبعثتان السويسرية والنرويجية في بيان مشترك عن قلقها البالغ إزاء الوضع الحالي في لبنان.
وأضافت “ندعو مجلس النواب إلى الإسراع في انتخاب رئيس يوحد الشعب اللبناني من أجل المصلحة الوطنية كخطوة أولى صوب استعادة قدرة مؤسسات الدولة اللبنانية على اتخاذ القرارات على المستويين الإداري والسياسي”.
ولم تترك الأزمة القضائية سوى القليل من الأمل في تحقيق العدالة بشأن الانفجار مما أثار القلق من أن القضية ستلقى نفس مصير الانفجارات والاغتيالات الكثيرة السابقة في بلد لطالما شكل الإفلات من العقاب القاعدة فيه