كيف كسب بايدن كل هذا الزخم بعدما كادت حملته أن تفلس؟

قبل أيام قليلة من انطلاق أحد أكثر الانتخابات الرئاسية انفراداً عن غيرها في تاريخ الولايات المتحدة، وجد المرشح الديمقراطي، جو بايدن، نفسه وقد امتلأت خزائن حملته بأموال التبرعات، ويتقدم على دونالد ترامب في استطلاعات الرأي على مستوى الولايات وعلى مستوى البلاد عامةً، ويتفوق تفوقاً صريحاً على غريمه الجمهوري في بعض المناطق التي فاز بها الأخير في عام 2016 والتي لطالما منحته دعمها.

وبعد عام من جائحة اكتسحت البلاد وأزمة اقتصادية ضربت أركانها واضطراب لم تشهده في تاريخها، بات بايدن هو المرشح الأقرب، وفقاً لبعض المقاييس، للفوز بالانتخابات الرئاسية لعام 2020، لكي يصبح الرئيس رقم 46 في تاريخ الولايات المتحدة، بحسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.

معركته “لاستعادة روح الأمة”!

كانت رسالة بايدن دائماً واضحة: هذه الانتخابات “معركة من أجل استعادة روح الأمة [الأمريكية]”، كما أخبر الناخبين عندما أعلن ترشحه قبل 18 شهراً. ومع ذلك، فلم تكن حظوظه مشرقة وقتها على هذا النحو، ولم يكن مؤكداً بأي حال ما إذا كان سيصل إلى هذه اللحظة.

بعد فترة طويلة من المداولات، جاء بايدن ضمن أواخر المرشحين لدخول السباق التمهيدي المزدحم لاختيار مرشح الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية، وهو السباق الذي شارك فيه أكثر من 24 مرشحاً في ذروته.

لكن، وعلى الرغم من أنه تقدم في الاستطلاعات المبكرة وواقع أنه أحد أشهر السياسيين في أمريكا بعد أن خدم لثماني سنوات في منصب نائب الرئيس خلال فترة باراك أوباما، فإن ثمة أسئلة جدية ظلت حاضرة حول ما إذا كان الرجل متوسط القدرات البالغ من العمر 77 عاماً غير مواكب لواقع وتطلعات الحزب الذي يأمل لقيادته وتمثيله في الانتخابات الرئاسية.

بيد أنه وفي الوقت الذي أعلن فيه خصومه عن الخطط المتعلقة بسياساتهم وبذلوا الوعود بإحداث ثورة سياسية، أقام بايدن حملته على أساس شخصيته هو– نزاهته وتعاطفه وقابليته للانتخاب ضد رئيس يريد الديمقراطيون، قبل كل شيء، هزيمته.

ترامب وبايدن / عربي بوست

قال بايدن لاحقاً: “انظروا، أنا أترشح لأن ترامب هو الرئيس، وأنا أعتقد أن الديمقراطية الأمريكية معرضة للخطر حقاً. وحقيقة الأمر على ما يبدو هو أن كثيراً من الأمريكيين– ومنهم أولئك الذين يحبونني والذين لا يحبونني- ينظرون إليَّ على أنني نقيض ترامب، وأنا أعتقد أنني كذلك”.

هيمنت النقاشات المتعلقة بسياسة بايدن المنتظرة على الأيام الأولى من السباق التمهيدي. وبرز تأييد المقترحات التقدمية، مثل مشروع الرعاية الصحية الشاملة Medicare for All وتشريع “الصفقة الجديدة الخضراء” المقترح لاتخاذ إجراءات جوهرية فيما يتعلق بمعالجة التغير المناخي، بوصفه العامل الحاسم في اختيار مرشح الحزب. وسرعان ما استبعد نشطاء الحزب الديمقراطي أي مرشح يبدي بادرة ترددٍ في دعم أي منها، وقد كان بايدن من هؤلاء المستبعدين.

وبينما كان أكثر المرشحين المنافسين لبايدن ينظرون إلى طريقة جمع التبرعات الخاصة به على أنها طريقة عفى عليها الزمن ومشكوكٌ فيها من الناحية الأخلاقية لتأمين الدعم لحملة ما، فإنه اختار تجاهلهم والمضي في طريقه.

على إثر ذلك، كانت النتائج الأولى باهتة. وأكثر من مرة فاقت التبرعات المقدمة لحملات المرشحين الآخرين تلك المقدمة لبايدن. وانتعشت آمال الرمز التقدمي الديمقراطي، بيرني ساندرز، بعد أن كان بديلاً ليبرالياً ينطوي الرهان عليه على مخاطرة مرتفعة، ليصبح المرشح الأبرز والأوفر حظاً للفوز ببطاقة ترشيح الحزب الديمقراطي لمنافسة ترامب.

ومع ذلك، فقد كانت تلك ثالث حملات بايدن للترشح على منصب الرئاسة. وعلى مدار ما يقرب من خمسة عقود قضاها في أروقة السياسة الأمريكية، نجح بايدن في إقامة علاقات قوية مع مجتمع الأمريكيين الأفارقة. ومن ثم أصبح ذلك الأساس الذي يستند إليه التصور العام للحملة من أجل البقاء في السباق، وذلك على الرغم من الخسائر الفادحة التي مُني بها أول ثلاثة سباقات تمهيدية في ولايات أيوا ونيوهامبشاير ونيفادا.

كاد أن يلغي حملته الانتخابية

وبدأ مسؤولو حملة بايدن في اتخاذ خطوات جدية للشروع في إلغاء الحملة إذا تعرض نائب الرئيس السابق لخسارة محرجة أخرى، إذ لم يكن الأمر مقتصراً على إخفاقه في الفوز بأي من المنافسات السابقة فحسب، بل زاد على ذلك معاناة حملته انخفاضاً حاداً في حجم التبرعات المقدمة لها، بدرجة تُنذر بالعجز عن استكمالها.

لكن حملة بايدن أعلنت بإصرار أن ولاية كارولينا الجنوبية، وقاعدتها الضخمة من الناخبين الأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية، ستحيي حملة بايدن عندما يدلي ناخبوها بأصواتهم في فبراير/شباط. وبحلول ذلك الوقت، كان بعض قادة الحزب الديمقراطي قد بدأوا يشعرون بالخوف من أن ضعف التنافس بين المرشحين الديمقراطيين سيخلق مساراً مفتوحاً لساندرز لكي يفوز بترشيح الحزب، وتوقعوا أن ذلك يعني خسارة فادحة حتمية للحزب في أي انتخابات عامة ضد ترامب.

كل ذلك جعل من ولاية كارولينا الجنوبية الأملَ الأخير لبايدن.

غير أن نبوءة بايدن تبين أنها رؤيا صادقة، إذ لم يفز بايدن بمجمل الأصوات في الانتخابات التمهيدية لحزبه في الولاية فحسب، بل فاز بكل مقاطعة في الولاية وكل مجموعة ديموغرافية فيها تقريباً، وتبين أن 50% من الناخبين الديمقراطيين في الولاية يدعمونه على منافسيه الأربعة الآخرين الأقرب في المنافسة.

ساندرز وبايدن
ساندرز وبايدن

غيّر هذا الانتصار مسار السباق برمته. إذ لطالما نظر الديمقراطيون إلى الأمريكيين الأفارقة على أنهم جوهر قاعدة الحزب. كما أن أي مرشح يمكنه حشد تلك الكتلة الانتخابية الحاسمة كان ليصبح لديه حجة قوية في أي منافسة لتمثيل الحزب.

وفي هذا السياق، تقول أدريان شروبشاير، المدير التنفيذي للجنة BlackPAC، وهي مجموعة تقدمية معنية بحشد الناخبين الأمريكيين من ذوي الأصول الإفريقية: “لقد أنقذ الناخبون السود الحياةَ السياسية لجو بايدن. وهذا القرار قد يُنقذ الولايات المتحدة كلها”، وأضافت أن هناك “تفاهماً جماعياً” بأن بايدن هو المرشح الأكثر “استساغة وقبولاً من بقية البلاد”.

خلال الأشهر التي تلت عودته إلى مسار السباق، كان بايدن صريحاً بشأن الدور الحاسم للأمريكيين الأفارقة، ولا سيما النساء، ليس فقط في ترشيحه، لكن أيضاً في قيادة المقاومة الديمقراطية لترامب على مدى السنوات الأربع الماضية.

الزخم يحالف بايدن

أخذ زخم التأييد ينتقل إلى بايدن إلى حد كبير، وبحلول أبريل/نيسان، كانت فرص بيرني ساندرز قد تضاءلت إلى حد كبير، ومن ثم أوقف الأخير حملته الانتخابية لتجنب ردة فعل مضادة من مؤيديه وتفتيت الأصوات كما حدث مع هيلاري كلينتون في معركتها ضد ترامب قبل أربع سنوات. واستمال بايدن دعمَ ساندرز على الفور، ووافق على إنشاء فرق عمل مشتركة لوضع سياسات من شأنها أن تصبح حجر الأساس لبرنامج الحزب.

في هذه المرحلة، بدأت جائحة كورونا في التفشي في جميع أنحاء البلاد على نحو جدي، ما أدى إلى انقلاب في كل جانب من جوانب الحياة الأمريكية.

بات كلا المرشحين، الديمقراطي والجمهوري، مجبراً على الخروج عن المسار التقليدي للحملات الانتخابية ووضع تصور جديد بالكامل فيما يتعلق بالمؤتمرات الصيفية التي كانت تُعقد في جميع أنحاء ولايات البلاد، وهي فعاليات كانت تجتذب عادةً عشرات الآلاف من المؤيدين لتسمية مرشحهم الرئاسي رسمياً.

المرشح الديمقراطي جو بايدن/رويترز

شرع بايدن في إعادة صياغة تصوره المقدم عن المكانة التي ستحتلها رئاسته المحتملة في التاريخ الأمريكي، ووصف نفسه بأنه “جسر” لعبور جيل جديد من القادة. وقال في أبريل/نيسان: “أنا أعتبر نفسي مرشحاً انتقالياً”.

غير أنه بحلول عشية المناظرة الرئاسية الأولى في أواخر سبتمبر/أيلول، كان الجميع على موعدٍ مع أزمة أصبحت بعدها الانتخابات الرئاسية غير مسبوقة تاريخياً لأسباب شديدة الاختلاف عن قبل. فمع بدء عمليات الإغلاق في الولايات والمدن الأمريكية، كان عشرات الآلاف من الأشخاص قد توفوا بالفعل بسبب فيروس كورونا، علاوة على ملايين المصابين.

لقد أصبح تعامل ترامب مع الجائحة هو قضية الساعة التي ما لبثت تهيمن على النقاشات السياسية الأمريكية. فقد استمر الرئيس الأمريكي في التشكيك في كبار علماء البلاد، ورفض ارتداء القناع الطبي، وحرّض الولايات على إعادة فتح اقتصاداتها دون إجراء عدد كاف من الاختبارات أو تتبعٍ لسلاسل انتقال العدوى، ناهيك باقتراحه الشاذ باستخدام مساحيق التبييض والمنظفات كعلاجات محتملة للفيروس.

انهيار الثقة في ترامب

انهارت ثقة الجمهور بقدرة الرئيس الأمريكي على التعامل مع الوباء وتداعياته الاقتصادية، واحتشد أنصار منافسي بايدن، علاوة على شخصيات جمهورية بارزة، خلف نائب الرئيس السابق، على الرغم من أي خلافات سياسية مستمرة بينهم.

بدأت استطلاعات الرأي تُظهر أن بايدن قادر على المنافسة ليس فقط في الولايات الحاسمة التي تشهد عادةً منافسة محتدمة، لكن حتى في الولايات التي يفترض أنها مضمونة للجمهوريين.

يقول تيم ريان، عضو الكونغرس الديمقراطي عن ولاية أوهايو، إن “الناس وثقوا ببايدن في عالم لا يوجد فيه قدر كبير من الثقة”، وإن المآسي التي عاشها -من وفاة زوجته الأولى وابنته في حادث سيارة في عام 1972 إلى وفاة ابنه بسبب سرطان الدماغ في عام 2015- صقلت بايدن ومنحته سمات أصبحت ذات أهمية خاصة في وضع استثنائي، مثل الوباء، الذي أخذ ترامب يُهوّن فيه من شأن أعداد الوفيات وتأثير الجائحة في البلاد.

إيميلات تم تسريبها لعائلة بايدن /عربي بوست

حاول ترامب وصم بايدن، الذي يبلغ من العمر 74 عاماً، بأنه عجوز للغاية وضعيف ليترشح لمنصب كهذا، وأطلق عليه لقب “جو النائم”، ومع ذلك فليس من المعروف ما إذا كانت هذه الاستراتيجية نجحت في التأثير في الجماهير أم جاءت برد فعل عكسي.

وعلى الرغم من التقارير الاقتصادية الإيجابية خلال الأيام الأخيرة قبل الانتخابات، عزف ترامب عن جعل الاقتصاد محور حملته وحجج تأييده الختامية.

بدلاً من ذلك، تمسك ترامب باستراتيجية توجيه الانتقادات اللاذعة لبايدن وزعم أن المرشح الديمقراطي للرئاسة كان يختبئ في قبو منزله أثناء الوباء. كما أخذ يزعم بأن البلاد على مشارف “التغلب على” الوباء، حتى مع استمرار ارتفاع أعداد الإصابات والوفيات.

لم يساعد أياً من هذا ترامب على استعادة قوته، خاصة مع انتقال مجموعات رئيسية لطالما كانت مؤيدة لترامب إلى خصمه بايدن. فقد أخذ نائب الرئيس السابق يحظى بدعم متزايد بين سكان الضواحي والناخبين المعتدلين، خاصة النساء، وهي المجموعات التي ساعدت ترامب على الفوز في عام 2016.

شعار المرحلة الأخيرة

في الأسابيع الأخيرة، ومع شروع أعداد قياسية من الناخبين في الإدلاء بأصواتهم مبكراً، لم يعد بإمكان أي عامل أن يعيد تشكيل ديناميكيات السباق على نحو جذري. واتبعت حملة بايدن شعار: دع ترامب يكون ترامب [دعه يضر نفسه بنفسه]، إذ عادة ما تظهر استطلاعات الرأي أن العروض شبه المسرحية التي يقدمها ترامب لا تسبب سوى الضرر باحتمالات إعادة انتخابه.

وبينما ينطلق ترامب في جميع أنحاء البلاد لإقامة مسيراته الضخمة وتجمعاته الانتخابية الكبيرة، يعتقد الديمقراطيون أن استراتيجية بايدن الحذرة تسلّط مزيداً من الضوء على الاختلافات بين المرشحين.

وهو ما يلخصه تيم رايان،ب عضو الكونغرس الديمقراطي، بالقول إن “بايدن –بشخصيته ورزانته ونزاهته- يبرز تهور ترامب وسلوكه الفوضوي وافتقاره إلى التحلي بالمسؤولية”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى