لماذا تعامل الأمن الأمريكي بحزم مع احتجاجات حياة السود مهمة بينما كان ضعيفاً أمام اقتحام أنصار ترامب للكونغرس؟
تبدو استجابة الشرطة الأمريكية في مواجهة اقتحام الكونغرس من قبل أنصار الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب أضعف بكثير من رد فعلها على احتجاجات حركة حياة السود مهمة.
فعلى عكس استجابة الشرطة للاحتجاجات السلمية في الغالب لمناصري حركة حياة السود مهمة (Black Lives Matter) هذا الصيف، واجه مؤيديو ترامب خلال اقتحام الكونغرس مقاومة قليلة نسبياً من الشرطة، حسب وصف موقع Quartz الأمريكي.
إذ استطاعوا احتلال المبنى بسهولة -بينما بعضهم يحمل أعلام الكونفيدرالية التي تمثل الجنوب الانفصالي- رغم الخطر الواضح الذي يمثلونه على كل من في الداخل، ووصل الأمر إلى تحطيم النوافذ، وخربوا المجلس ونهبوا محتوياته في أعمال العنف التي أدت إلى مقتل 4 أشخاص.
والسؤال الذي تطرحه عملية اقتحام الكونغرس: ماذا لو كان مناهضو العنصرية أو اليساريون أو الديمقراطيون أو مجموعات سوداء أو مسلمة هي التي كانت نفذت هذا الاقتحام، هل كانت الشرطة ستستسلم أمامهم بهذه السهولة.
والسؤال الأهم لماذا لم يكن رد فعل النظام السياسي الأمريكي قوياً أمام ممارسات ترامب وأنصاره، حتى قبل فوزه بالرئاسة عام 2016، والتي حملت خليطاً من العنصرية وازدراء القانون والتبجح إلى درجة إشادة ترامب بتعديل الرئيس الصيني الدستور للبقاء في السلطة مدى الحياة.
اقتحام الكونغرس يكشف محاباة النظام للتطرف اليميني
وصفت صحيفة The Washington Post الأمريكية اقتحام الكونغرس، الأربعاء 6 يناير/كانون الثاني 2021، من اقتحام عشرات المؤيدين للرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمبنى الكابيتول، بأنه يشكل فشلاً أمنياً كارثياً، متسائلة: كيف يمكن أن يمكن أن يتمكن أناس لا يحملون إلا الأعلام والدروع والعصي من اقتحام مبنى يملك وحده قسم شرطة يضم ألفي ضابط، في مدينة ترتفع فيها درجة الاستنفار.
واستنكرت الصحيفة الأمريكية كيف أن وكالات إنفاذ القانون الفيدرالية والحرس الوطني الأمريكي ظلت بعيدة عن الأنظار في شوارع واشنطن، مستحضرة في ذاكرتها كيف كان حضورهم قوياً على نحو مخيف أثناء الاحتجاجات التي أعقبت وفاة جورج فلويد هذا الصيف.
أما في الكابيتول نفسه أثناء عملية اقتحام الكونغرس، فقد وضعت الشرطة حواجز ضعيفة، وارتدى أغلب الضباط الزي الاعتيادي وليس زي مكافحة الشغب. فيما قال مسؤولو إنفاذ القانون إن كل شيء كان معداً لقمع مظاهرة، ليس لردع هجوم.
حتى إن خبراء إنفاذ القانون ذُهلوا من الأساليب التي استخدمتها الشرطة بعد أن صارت الحشود داخل الكابيتول وتمت عملية اقتحام الكونغرس.
تقول الصحيفة الأمريكية: “لم يبدُ أن الشرطة تحاول اعتقال المشاغبين المتورطين في اقتحام الكونغرس، بل سمحت لهم بالمغادرة دون الوقوف في طريقهم، بل إن واحداً منهم مدّ يده لامرأة يساعدها على تسلق سلم الكابيتول”.
بعد وقت وجيز من إطلاق النار، تولّت شرطة العاصمة عملية إخلاء الحشود من مناطق الكابيتول. وقالت العمدة موريل بوزر (الديمقراطية) إن شرطة الكابيتول طلبت الدعم من ضباط شرطة العاصمة، للمساعدة في “استعادة النظام داخل الكابيتول”.
ولكن الواقع أن هذا لم يكن فشلاً أمنياً لحظياً، بل إنه نتاج ضعف باد للنظام السياسي الأمريكي أمام الاستقواء الجمهوري اليميني وضعف ردود فعل الديمقراطيين.
فبصرف النظر عن الأخطاء الأمنية الإجرائية، فإن رد فعل الشرطة الأمريكية والنظام السياسي الأمريكي برمته الضعيف أمام انتهاكات اليمين مقارنة بالصرامة النسبية أمام اليسار مسألة اجتماعية وسياسية بالأساس، تعود جذورها إلى نشأة أمريكا نفسها وطبيعة الحزبين الحاكمين في البلاد.
الحزب الحاكم
منذ تبلور نظام ثنائي الحزبية الأمريكي المتمثل في الهيمنة المتبادلة للحزبين الجمهوري والديمقراطي عام 1850، كان الحزب الجمهوري هو الحزب الحاكم في أمريكا بصورة أكبر.
وحتى عندما تطورت مواقف الحزبين ليتحول الحزب الديمقراطي من حزب الرجعية وكبار المزارعين المؤيد للعنصرية إلى الحزب التقدمي، وتحول الحزب الجمهوري من الحزب الأكثر ليبرالية حزب إبراهم لينكولن محرر العبيد إلى الحزب الذي يعرقل منح الحقوق للسود وغيرهم من الأقليات، ظل هذا الواقع قائماً
كان الحزب الجمهوري منذ نشأته، هو حزب السلطة، حزب رجال الأعمال الشماليين، الأكثر تقدمية من الحزب الديمقراطي الذي كان حزب لوردات مزارع الجنوب التي يعمل فيها السود قبل وبعد تحريرهم.
واللافت أن الحزب الجمهوري الذي كان أول رئيس منه هو إبراهم لينكولن الذي فرض على ولايات الجنوب إنهاء العبودية حتى لو أدخل ذلك البلاد الحرب الأهلية، تحول في ستينيات القرن العشرين بعد حركة الحقوق المدنية التي منحت الأفارقة الأمريكييين في الجنوب حق التصويت، ليصبح حزباً محافظاً يستند بشكل كبير إلى البيض المناهضين لحقوق السود.
ومع استمرار التقدم في التوجهات الليبرالية التي بات يمثلها الحزب الديمقراطي، ترسخت أيديولوجية الحزب الجمهوري في القرن الحادي والعشرين كنزعة محافظة أمريكية، تضم كلاً من السياسات الاقتصادية والقيم الاجتماعية.
إذ يدعم الحزب الجمهوري خفض الضرائب، ورأسمالية السوق الحرة، والقيود على الهجرة، وزيادة الإنفاق العسكري، وحقوق السلاح، والقيود على الإجهاض، وإلغاء القيود على النقابات العمالية.
ومع أن الانتخابات في السنوات الماضية ومنها انتخابات الرئاسة 2016، و2020 تظهر تراجع شعبيته وتركزها في أوساط السكان الريفيين والبيض البروتستانت المحافظين والفئات البيضاء الأقل تعليماً، إلا أن نظام المجمع الانتخابي الأمريكي والتركيبة الاجتماعية والسياسية للحزب وأعضائه تجعله أكثر هجومية من الديمقراطيين.
ينظر الحزب الجمهوري لنفسه وينظر له الأمريكيون باعتباره الحزب الحاكم فعلياً.
حزب البيض البروتستانت أصحاب البلد الأصليين، حزب الشركات الكبرى (حتى لو كان جزءاً مهماً من الشركات تؤيد الديمقراطيين).
الحزب الذي يدعم قيم الحرية الفردية الأمريكية، والنزعة العسكرية الأمريكية (والنزعة الانعزالية في الوقت ذاته) وكلاهما يحتقر العمل الدبلوماسي الدولي متعدد الأطراف.
حزب يعبر عن روح الأمريكيين الأوائل الذين نزعوا الأرض من الهنود الحمر وطردوهم وأحياناً قتلوهم ثم أقاموا فيما بينهم انتخابات ديمقراطية استبعدت بطبيعة الحال أصحاب الأرض، وهمشت الأقليات.
حزب يرى أعضاؤه حمل السلاح حتى في اللجان الانتخابية حقاً من حقوقهم.
مقابل الحزب الديمقراطي حزب المثقفين المائعين العلمانيين والأقليات المهاجرة الذين ليسوا أمريكيين أصليين.
هذه القيم التي يمثلها الحزب الجمهوري حالياً، جلبها بشكل فج الرئيس الديمقراطي أندرو جاسكون إلى البيت الأبيض في بداية القرن التاسع عشر.
ولكن بات الجمهوريون يحملون لواءها ووصلت إلى ذروة تبججها في عهد ترامب، الذي أطلق كل مكنونات قطاع من الجمهوريين التي شملت العداء للمسلمين والمسكيكيين والسود ونخبة واشنطن، وصولاً إلى التلويح بابتزاز السعودية ثم التحالف معها، والإعجاب بما فعلته الصين بالإيغور، ثم الانقلاب عليها، ومطالبة الحلفاء في آسيا وأوروبا بكل صراحة بدفع ثمن دفاع أمريكا عنهم بطريقة راعي بقر أمريكي يعيش في السهوب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
خليط من ثقافة شركات النفط في تكساس وسماسرة العقارات في نيويورك ورعاة البقر في الغرب الأمريكي، والمتعصبين دينياً وإثنياً في الجنوب.
ورغم أفول هذه الثقافة فعلياً حتى في الجنوب الأمريكي، فإن فوز باراك أوباما بالرئاسة وضعف الجمهوريين البراغماتيين، أعاد هذا التوجه للصدارة في الحزب الجمهوري على يد ترامب.
ولكن اللافت أنه رغم مؤشرات واضحة على تطرف هذه التوجهات حتى إن مكتب التحقيقات الفيدرالية حذر من أن مجموعات اليمين المتطرف البيضاء أخطر من اليسار المتطرف، وهي حقيقة بدت واضحة في اقتحام الكونغرس فإن رد فعل النظام الأمريكي ظل ضعيفاً أمامها.
لماذا يتساهل النظام الأمريكي مع اليمين المتطرف؟
يعود ذلك إلى عوامل عدة منها التركيبة النفسية للحزبيين، فالحزب الجمهوري هو حزب الفتوات الأمريكي، سواء فتوات المال أو القانون أو الواقع.
يتسم الجمهوريون عامة بالهجومية في تصرفاتهم، والتجرؤ، وأدى تزايد التطرف والبراغماتية داخل الحزب الجمهوري إلى تراجع التيار المحافظ التقليدي الذي يرى نفسه أميناً على القيم الأمريكية المتعلقة بالنزاهة والاحترام، مثل السيناتور الراحل جون ماكين، ما أدى إلى قلة الاهتمام بالعواقب الأخلاقية للسلوك السياسي من قبل كثير من الجمهوريين.
وأصبح الحزب الجمهوري يعمل في كثير من الأحيان على حافة القانون.
كما أن الجمهوريين المعتدلين يدفعون ثمن الاستقطاب بين صعود اليسار واليمين الأمريكي.
فخطابهم المعتدل لا يجد له عميلاً، فجزء من العملاء المفترضين ذهب للديمقراطيين، والعملاء الغاضبون من صعود اليسار لا يرضيهم عقلانية الجمهوريين المعتدلين.
مازال عقلاء الجمهوريين موجودين وهم في الأغلب بنزاهتهم هم الذين أنقذوا النظام السياسي الأمريكي من هذه أزمة ترامب، ولكنهم يُسحقون بين رحى الاستقطاب تدريجياً، وتراجع المسافة بينهم وبين الديمقراطيين المعتدلين ليس في صالحهم.
ضعف الحزب الديمقراطي وأيديولوجيا المؤسسات الأمريكية
ولكن اللافت أنه رغم أن الجمهوريين المتطرفين هم أقلية في المجتمع الأمريكي، فإنهم تظل لهم هيبة تمنع التعامل معهم، هيبة نابعة من قوة حزبهم ومن نفوذه، ومن حقيقة الطبيعة المخملية للحزب الديمقراطي المنافس، الذي يمثل معتدلوه نخبة ذات ياقات بيضاء، بينما رديكاليوه مازالوا أقلية متطرفة في نظر قطاع كبير من الأمريكيين.
ولكن الأهم هو موقف مؤسسات الدولة الأمريكية.
تقليدياً مؤسسات الدولة الأمريكية المركزية هي وسط بين الحزبين، ويساعد على ذلك أن تداول السلطة يسمح للطرفين بتبادل النفوذ.
ولكن تظل كثير من المؤسسات الدولة المركزية الأمريكية أقرب لليمين والجمهوريين، خاصة الأمنية والسياسية (قد تكون الأكاديمية والبيئية أقرب للديمقراطيين).
ويرجع ذلك لأسباب عدة، منها أن خطاب القوة والنظام والقانون الذي يمثله الحزب الجمهوري أقرب بطبيعته إلى تركيبة المؤسسات الأمنية والعسكرية التي مازل البيض يهيمنون عليها، بينما الخطاب الحقوقي الليبرالي ينفر مؤسسات الدولة، ويمثل عبئاً عليها، وهو أمر ظهر في مطالبة بعض نشطاء “حركة السود مهمة” وقف تمويل الشرطة، إضافة إلى حقيقة أن الحركة نشأت بسبب مقتل مواطن أسود على يد الشرطة.
كما أن مؤسسات الدولة الأمريكية حتى لو بدت غير مرتاحة لتطرف ترامب وأنصاره الفج، وسلوكياتهم التي خرقت الأعراف الأمريكية حتى الجمهورية، ولكن خليطاً من الميل اليميني للمؤسسات المركزية والنظر دوماً للحزب الجمهوري باعتباره الأقوى والأجدر بأن يخاف منه، يجعل المؤسسات تنصاع إلى إرادة ترامب الغربية (وقبل ذلك رغبة جورج بوش في الحرب ضد العراق)، بينما كانت مقاومتها لترامب (وبصورة أقل بوش) في الأغلب عبر التسريبات لفضحه أو التجاهل الخافت لأوامره إلى أن ينساها.
ولكن محاولة ترامب التمرد على نتائج الانتخابات وعملية اقتحام الكونغرس من قبل أنصاره غريبي الأطوار لم يكن أمراً يمكن السكوت عليه.
غير أنه حتى مع صدمة الأجهزة والمسؤولين المحيطين بترامب من اقتحام الكونغرس، يظل رد الفعل ضعيفاً للغاية وهو ما يظهر في قلة عدد المعتقلين في الأحداث.
إذ قال شاهد عيان إن عدداً قليلاً للغاية اعتُقل في ضوء أحداث اقتحام الكونغرس، لأن الشرطة لم تمتلك دعماً كافياً وقتها للإمساك بهم واحتجازهم.
حزب الرأسمالية والفقراء البيض
تبقى نقطة قوية تجعل الحزب الجمهوري أقوى من الديمقراطي.
وهو أن الحزب تحول إلى تحالف ضِرار بين النخب الرأسمالية التي ترفض زيادة الضرائب (ترفض اقتراب أمريكا من النموذج الأوروبي) لتوفير تمويل لتوسعة الخدمات العامة التي توجه للفقراء بالأساس، وبين فقراء البيض الذي لايأبهون كثيراً بهذه الخدمات، بينما تظل مساءل مثل الخوف من القيم الليبرالية وصعود الأقليات أهم لديهم من وجود مستشفى يوفر لهم علاجاً طبياً لائقاً.
أياً كانت نظرة الأمريكيين ومؤسساتهم للحزب الجمهوري، ومكانته التي لا تنكر في تاريخ السياسة الأمريكية، فإن التهاون مع تصرفات ترامب وأنصاره كانت سبباً رئيسياً لتماديهم وإيصال البلاد إلى هذا الموقف غير المسبوق في تاريخها، وتحطيم القيم الأمريكية الديمقراطية والجمهورية على السواء.
ولو مرت عملية اقتحام الكونغرس التي يمكن وصفها بغزوة الكونغرس مرور الكرام دون عقاب رادع لمنفذيها ومسؤوليها، فلا يمكن استبعاد تكرارها من اليمين أو اليسار على السواء.