لماذا زار عباس منزل وزير الدفاع الإسرائيلي ولم يلتقِ رئيس الوزراء؟ هذا هدفه الذي لم يتحقق!
الكثير من المراقبين أشاروا إلى أن عباس أراد أن يخترق جدار التجمد السياسي بينه وبين قادة إسرائيل منذ فترة طويلة، في الوقت نفسه أراد أن يلفت انتباه المهتمين بالوضع الفلسطيني أنه مازال قادراً على لعب دور سياسي، بعدما سحبت فصائل المقاومة البساط من تحت أقدامه.
لكن ما غفل عنه عباس، كما تقول صحيفة Haaretz الإسرائيلية، أن الحكومة الإسرائيلية الحالية لن تقدم له أي جديد، ولن تحقق له ما يريد؛ كونها حكومة غير منسجمة مع بعضها البعض، كما أنها تجمع بين أغلب التيارات السياسية الإسرائيلية، والتباين من السلطة الفلسطينية واضح في مواقفها المختلفة.
كانت الرسالة الظاهرة من عباس هي البحث عن نجاح اقتصادي أو إنساني من هذه الزيارة، لكن هذا أيضاً لن يتحقق كما ترى الصحيفة العبرية.
في الوقت نفسه يريد أبو مازن تهديد القيادة الإسرائيلية الجديدة بأن الفترة القادمة قد تشهد انفجاراً في الداخل الفلسطيني، لكن المشكلة في أنّ هذه الرسالة تتكرر على لسان عباس ورفاقه كل بضعة أشهر. وقد تَسبب تكرار تلك التحذيرات في توقف الرأي العام الفلسطيني عن التعامل معها بجدية، لذا فمن المرجح للغاية أن القيادة الفلسطينية تنظر إلى غانتس باعتباره العضو البارز الوحيد في الحكومة اليمينية الحالية، الذي قد يستمع إلى تلك التحذيرات.
تخمينات عن سبب الزيارة
ويُمكن ربط التخمينات حول جوهر الاجتماع باجتماعٍ آخر عُقِد داخل مكتب عباس في رام الله، الأسبوع الماضي، حيث وجّه الدعوة لمئات الأكاديميين من مفكرين، وكتاب، وصحفيين، وممثلين للمجتمع المدني الفلسطيني. وقد صرّح أحد المدعوين لصحيفة Haaretz بأن الجميع فوجئوا حين تحدث عباس مطولاً عن أصول اليهود الأشكناز، والفارق بينهم وبين المزراحيين. لكن عباس أكّد كذلك على أنّ الكيل قد فاض به من الجمود السياسي، وأنّ اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية سوف تجتمع خلال شهرين لاتخاذ قرارات حاسمة. ويوم الأحد الماضي 26 ديسمبر/كانون الأول، أكّد وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي هذا التعهد/التحذير في مقابلةٍ أجراها مع إذاعة صوت فلسطين.
وبعد يومٍ من المقابلة التقى المالكي بنظيريه الأردني والمصري في القاهرة، لمناقشة الجمود الذي أصاب العملية الدبلوماسية بين إسرائيل وفلسطين، وسبل التغلب عليه. وخرج إعلانٌ رسمي بنهاية اللقاء ينص على أنّهم “قد ناقشوا خيار فتح أفقٍ سياسي جديد، من شأنه التوصل إلى حلٍّ شامل وعادل… بناءً على حل الدولتين بحدود الرابع من يونيو/حزيران عام 1967”.
وليست مصادفةً أن مصطلح “الأفق السياسي” ظهر أيضاً في تغريدةٍ لحسين الشيخ، رئيس الهيئة العامة للشؤون المدنية الذي شارك في اجتماع القاهرة، والاجتماع الآخر الذي جرى داخل منزل غانتس. ورغم الطبيعة الغامضة والمنمقة لتلك التصريحات، فإنها تُؤكّد على الطبيعة الدبلوماسية-السياسية للاجتماع مع غانتس، من جانب الفلسطينيين على الأقل. حيث كتب الشيخ في تغريدة: “اللقاء هو تحدٍّ كبير، والفرصة الأخيرة قبل الانفجار والدخول في طريق مسدود، ومحاولة جدية جريئة لفتح مسار سياسي يرتكز على الشرعية الدولية، ويضع حداً للممارسات التصعيدية ضد الشعب الفلسطيني”.
وبعد الاجتماع، سمح المسؤولون الفلسطينيون لنظرائهم الإسرائيليين بنقل التقارير أولاً حول مبادرات تخفيف القيود، وأهمها منح الإقامة لستة آلاف عائلة فلسطينية من الضفة الغربية وقطاع غزة، وزيادة أعداد تراخيص السفر الممنوحة لرجال الأعمال والشخصيات المهمة في السلطة الفلسطينية. وبحلول يوم الأحد، أخبر وكيل هيئة الشؤون المدنية أيمن قنديل النشطاء بأنهم سيسمعون قائمةً مُطوّلة جديدة بأسماء الأشخاص الذين حصلوا على الإقامة نهاية الأسبوع الجاري. ما يُشير إلى وجود اتفاقات مسبقة بين الجانبين فيما يتعلّق بالقضايا التي تهم الفلسطينيين أكثر من غيرها.
حيث كشف استطلاعٌ أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، في ديسمبر/كانون الأول 2021، أنّه بالرغم من سوء صورة حركة فتح ومحمود عباس، فإن 60% من المشاركين أعربوا عن اهتمامهم بخطوات بناء الثقة مع إسرائيل، ما سينعكس على تحسين أوضاع المعيشة في الضفة الغربية وقطاع غزة. وبالتالي حتى لو كان هدف عباس من الاجتماع دبلوماسياً بحتاً، فإن المزايا الاقتصادية التي حصل على وعدٍ بها ستلعب -حال تحقيقها- دوراً أساسياً في بقاء قيادته الفلسطينية على رأس السلطة، بحسب الصحيفة العبرية.
سياسة إسرائيلية مرتبكة
لكن على الجانب الآخر، سنجد أنّ الاجتماع عكس السياسة المرتبكة للائتلاف الحاكم في إسرائيل تجاه الفلسطينيين.
إذ إنّ الاجتماع وتداعياته سلّطا الضوء على مدى عدم اتساق الحكومة الحالية فيما يتعلق بالعلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين.
وهناك تناقضاتٌ متأصلة في هذا الائتلاف بالطبع، فعلى مدار ثلاثة عقود على الأقل، كانت معالم السياسة الإسرائيلية تتحدّد بنسبةٍ كبيرة في المواقف من الصراع مع الفلسطينيين، ووضع الأرض بالضفة الغربية، لكن سبب الانقسام الرئيسي في الانتخابات الأخيرة كان يتعلّق أكثر بالمواقف تجاه رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بنيامين نتنياهو، وكل ما يمثله على الصعيد المحلي، لتتشكل في النهاية حكومة لها أفكارٌ مختلفة للغاية حول قضيةٍ سياسية هي الأكبر منذ زمنٍ بعيد.
لكن الائتلاف خرج بحلٍّ يكمن في محاولة تجاهل الصراع قدر الإمكان، وعدم تقديم تنازلات، وبناء الحد الأدنى من المستوطنات، مع محاولة إقامة علاقة اقتصادية إيجابية مع الفلسطينيين لمنفعة الجانبين.
لكن كل جزء من هذا الائتلاف فسّر هذا الحل بطريقةٍ مختلفة.
حيث التقى غانتس بعباس مرتين، لكنه قدّم تلك الاجتماعات باعتبارها تُركّز على التعاون الأمني والسلام الاقتصادي.
في حين أعاد وزير التعاون الإقليمي عيساوي فريج إحياء اللجنة الاقتصادية المشتركة، التي كانت جزءاً من بروتوكول باريس الملحق باتفاقيات أوسلو. وقد اجتمعت اللجنة في الصيف الماضي للمرة الأولى منذ 12 عاماً.
كما التقى كلٌّ من وزير الصحة نيتسان هورويتز، ووزير حماية البيئة تمار زاندبيرغ، ووزيرة الاقتصاد أورنا باربيفاي بنظرائهم الفلسطينيين.
بينما يمتلك وزير الخارجية يائير لابيد خطةً لتحسين الاقتصاد بالنسبة للفسلطينيين في غزة، مقابل موافقة حماس على نزع السلاح، لكنه لم يتحدث إلى الفلسطينيين حتى الآن.
على الجانب الآخر، لم يُظهر آخرون في الائتلاف الحاكم اهتماماً كبيراً بالفلسطينيين، إذ لم يذكر رئيس الوزراء نفتالي بينيت الأمر مطلقاً في خطابه أمام الأمم المتحدة العام الماضي، ما يعكس موقفه العام من المسألة، كما أنه لا يدعم حل الدولتين، وهو يعتقد أنّ القضية الفلسطينية تستقطع الكثير من وقت إسرائيل.
ماذا يريد بينيت؟
هذا هو السياق الذي عُقِدَ اجتماع عباس مع غانتس بناءً عليه، ولا شكّ أنّ بينيت كان يعلم بأمر الاجتماع مسبقاً، بحسب ما أكّدته المتحدثة باسمه، لكنه رفض التعليق. ومع ذلك قالت مصادر في الائتلاف إنّه قد أعرب عن عدم رضاه بالاجتماع.
في حين قال وزير البناء والإسكان زئيف إلكين: “لن أدعو إلى منزلي شخصاً يدفع أجور من يقتلون الإسرائيليين، ويرغب في محاكمة كبار ضباط جيش الدفاع في لاهاي وإيداعهم السجن، ومن بينهم المضيف نفسه”.
وقد أقر بينيت بأن إسرائيل تتعاون مع قوات أمن السلطة الفلسطينية، لكنه قال لإذاعة Army Radio: “الوسيلة الأساسية لضمان بقاء إسرائيل هي الحفاظ على مقاليد الأمن في أيدي إسرائيل وجيش الدفاع، نحن لا نحصل على الأمن من مصادر خارجية، ومن يفعل ذلك سيفشل”.
لكن غانتس على الجانب الآخر كان يُؤكد على أهمية التعاون الأمني مع الفلسطينيين.
أما الشيء الآخر الذي فعله غانتس، ويبدو متناقضاً تماماً مع رؤية بينيت للموقف، فهو إعلان أنه سيُفرج عن 100 مليون شيكل (32 مليون دولار) من أموال الضرائب، والتعريفات التي تجمعها إسرائيل للفلسطينيين.
وكان سبب تعليق إسرائيل لتلك الأموال في المقام الأول هو “قانون الدفع مقابل القتل”، الذي تُدفع بموجبه مبالغ مالية لأسر الشهداء. وقد ذكر مسؤولٌ دفاعي أن الاجتماع بين عباس وغانتس شهد مناقشة هذه المسألة، لكنه لم يذكر المزيد من التفاصيل.
وبسؤاله عن التناقض في تجميد الأموال لوقف ممارسة “الدفع مقابل القتل”، ثم الإفراج عنها لاحقاً قال المسؤول الدفاعي: “نحن ندعم تقديم بعض المساعدات الإنسانية للسلطة الفلسطينية وتقويتها اقتصادياً، لكننا نطالب في الوقت ذاته بعدم منح تلك الأموال للإرهابيين”، على حد وصفه.
كما شهد الاجتماع نقاش نقطةٍ أخرى، أظهرت مدى اختلاف المواقف داخل الائتلاف الحاكم، حيث تحدّث الشيخ في إحدى تغريداته عن “الأوضاع الميدانية المتوترة بسبب ممارسات المستوطنين”، بينما أكّد مصدرٌ دفاعي إسرائيلي أنّ عنف المستوطنين كان أحد مواضيع النقاش التي شهدها الاجتماع.
ويُعد هذا الموضوع من أكثر المواضيع إثارةً للجدل في الحكومة الحالية، منذ غرّد وزير الأمن العام عومر بارليف عن الأمر. حيث انتقدته وزيرة الداخلية أيليت شكد ووزير الاتصالات يوعز هندل، لأنه وصف نصف مليون شخص -مستوطن- بالعنف، في حين ذكرت مصادر مقربة من بينيت أنّه يشاركهما نفس وجهة النظر.
هل يمكن أن ينقذ بينت عباس؟
وكل هذه الخلافات تُقلل من تأثير اجتماع عباس مع غانتس، حتى وإن كان الأول من نوعه منذ سنوات، كما تقول صحيفة Jerusalem Pos الإسرائيلية.
فهذه حكومة لا تناغُم فيها بين اليمين واليسار والوسط حين يتعلّق الأمر بالفلسطينيين، لدرجة أن كل أطرافها يراقبون تحركات بعضهم البعض.
وحتى لو قدم غانتس مبادرات كبيرة فهي ستظل على الأرجح مجرد مبادرات.