ليبيا.. “داعش كواقع”…بين الشرطين الذاتي والموضوعي

سليم يونس

في أي قراءة لوجود التنظيمات  الإرهابية  في ليبيا يحتل تنظيم “داعش” حيزا مهما، كونه يسعى لتَمثُل تجربته في العراق وسوريا في ليبيا، حيث كان التنظيم الأم قد أعلن عما سماها “دولة الخلافة في العراق والشام”، التي دغدغت مشاعر الكثير ممن هم مهيئون ذهنيا وثقافيا وسلوكيا في الكثير من الدول ومنها ليبيا بالطبع؛ للانتماء لهذا النموذج الأيديولوجي  المتعدي للأوطان.

ليبيا.. ونظرية الفراغ

وفي سياق هذه التجربة الدموية لهذا النموذج الفكري المفارق، كانت ليبيا وفق  أكثر المراقبين مهيأة ربما أكثر من غيرها من دول العالم لتكون قبلة الدواعش والجماعات الإرهابية الأخرى، وذلك بسبب الظروف التي تعيشها البلاد منذ عام 2011، وهي الظروف التي خلقت واقعا موضوعيا يسمح لتلك المجموعات التفكير؛ ثم العمل على أن تكون ليبيا أحد المناطق التي يجب بناء مشروعها الإرهابي فيها.

ووفق نظرية الفراغ، تصبح أي منطقة تعاني منه، منطقة جاذبة بامتياز لقوى الإرهاب ولكل طامع في تلك البلاد، ولأن ليبيا كانت وما تزال تعيش حالة فراغ في أجزاء منها؛ وخاصة الجنوب الليبي الشاسع المساحة بحدوده الخالية من أي سيطرة أمنية للدولة الليبية، وفي ظل انقسام سياسي، وغياب للدولة عن مناطق واسعة من البلاد، وحدود مفتوحة مع دول الجوار التي يعاني بعضها من توترات داخلية، فإن ليبيا شكلت هدفا للجماعات الأيديولوجية المصنفة إرهابية ومنها” داعش”.

الجنوب .. المنطقة الرخوة

هذا المناخ ( الفراغ)، (بالطبع قبل أن يبدأ الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر عمليته العسكرية بالسيطرة على الحدود مع دول الجوار)، أغرى قوى خارجية لمحاولة ملئه، وسمح لتسلل المجموعات الإرهابية وقوى أجنبية إليها، ومن بوابة الجنوب، كون الجنوب  يعتبر منطقة “رخوة أمنيا”، إضافة لضعف الكثافة السكانية في منطقة جغرافية واسعة بتضاريسها الصعبة من جبال وصحراء.

هذه الظروف الموضوعية، لبت إستراتيجية تنظيم «داعش» في اختيار مناطق تمركزه، التي تعتمد على عدد من المقومات، ذكرها القيادي الداعشي أبوبكر الناجي في كتابه “إدارة التوحش”، وهي: “وجود عمق جغرافي وتضاريس تسمح بإقامة مناطق تدار بنظام إدارة التوحش”، مثل الطبيعة الصحراوية المتوافرة في الجنوب الليبي، التي تسمح بوجود جيوب تختبئ فيها العناصر الإرهابية، وأماكن لإقامة معسكرات التدريب، إضافة إلى “ضعف النظام الحاكم وقواته المركزية على أطراف المدن” (1)

سقوط النموذج

ومن ثم فإن جملة هذه المعطيات الموضوعية مكنت تنظيم داعش من الوصول إلى منطقة سرت خاصرة ليبيا، على ساحل البحر الأبيض المتوسط، بكل ما يحمل هذا الموقع من دلالات تتعدى الجغرافيا الليبية وصولا إلى الشاطئ الآخر في أوروبا؛ حيث أقام ما سماها ولاية سرت.

وأعلن عن هذا الوجود في ليبيا عبر فيديو بالغ الدموية والتوحش عام 2015، بأن أظهر يومها عملية إعدام وذبح 21 قبطيا مصريا في مدينة سرت. (2 )

إلا أن نموذج “ولاية سرت ” في ليبيا لم يعمر طويلا، بعد أن تمكنت حكومة الوفاق في طرابلس عبر قوات عملية ” البنيان المرصوص” وبدعم جوي أميركي من تحرير المدينة في شهر ديسمبر2016، مما بعث أملا لدى البعض بأن المجموعات الإرهابية في ليبيا يمكن أن تنتهي.

تفاؤل مبكر          

هذه النظرة المتفائلة على أثر القضاء على الوجود العلني لداعش في سرت، لم تمنع المهتمين بقضايا الإرهاب، من التحفظ على مثل هذا القراءة المتفائلة، بطرح عدد من الأسئلة، تتعلق بوجود التنظيم الإرهابي؛ ومستقبل عمله في ليبيا من نوع: هل انتهى تنظيم داعش؛ ومن ثم مشروعه

في ليبيا؟ وأين ذهبت عناصر داعش التي فرت من سرت وهم بالمئات؟  وهل انتهت الظروف الموضوعية التي سهلت تواجده في ليبيا؟

المعطيات تقول أنه رغم عدم تمكن التنظيم في عام 2017 من تنفيذ سوى  أربع عمليات فقط، غير أنه في أقل من خمسة أشهر في عام 2018 تمكن من القيام بعشر هجمات على الأقل، وهي تشير حسب المراقبين إلى أن «داعش» لا يزال قوة لا يستهان بها.(3)

ولعل ما يفسر ذلك؛ هي تلك المعلومات التي قدمتها المصادر الأمنية التابعة لـ” البنيان المرصوص”، التي أكدت” أن ” فلول داعش لا تزال تنتقل جنوب وجنوب غرب وشرق مدينة سرت بحرية تامة، مستفيدة من الامتداد الصحراوي وأحزمة جبلية في المنطقة كستار لتنقلاتها، كما أن مناطق في الجنوب الليبي تعد معقلا جديدا لداعش، ربما لتنظيم صفوفها مجددا”(4)، وهي معلومات تقدم بعض الأجوبة على مسألة وجود “داعش في ليبيا بعد هزيمته في سرت.

وتشير التقديرات أن تعداد مقاتلي داعش في ليبيا  حاليا يتراوح ما بين 600 إلى 800 عنصر، مع ملاحظة أنه يتزايد بسرعة، كما أنه يقوم بتجنيد المقاتلين من منطقة الساحل في أفريقيا، إضافة إلى أنه يجذب المقاتلين إلى الصراعات في سورية والعراق، كما قال المسؤول الأمني النمساوي السابق الذي يقدم النصح للشركات العاملة في ليبيا. وفي الوقت الحالي أصبحت ليبياً معرضاً لجذب المتطرفين الذين يبحثون عن القتال، (5) فيما يقدر المتحدث باسم أفريكوم أن عدد مقاتلي داعش في ليبيا حاليًا يتراوح بين 400 و750 .(6)

تأكيد الوجود

وفي إطار ما يمكن القول أنها أكثر من محاولة لإعادة التوازن للتنظيم، كان هذا النشاط الإرهابي المتزايد، الذي يمكن التدليل عليه بكم وكيف العمليات الإرهابية الدموية التي نفذها التنظيم عقب عملية تحرير سرت، وهي العمليات التي توجب بالضرورة أهمية تقدير الموقف ارتباطا بنشاطه الإرهابي خلال العام 2018، حيث لم يكتف بنشاطه الدموي في الجنوب والوسط، وإنما وصل العاصمة طرابلس، بأن طالت عملياته مواقع بالغة الحساسية والرمزية، بكل الدلالات التي يحملها هذا  الاختراق الأمني.

فقد شهد عام 2018 تصعيدا لافتا من قبل التنظيم، وهو التصعيد الذي    شمل العاصمة طرابلس والجنوب والوسط، عندما قاد في الجنوب  هجمات عنيفة بعشرات الآليات المسلحة على عدة مناطق، مستهدفاً مراكز شرطة وتجمعات للمدنيين والعسكريين، وقام التنظيم بعمليات تصفية جسدية، كما شنّ حملات اعتقال واختطاف واسعة للمواطنين.

هذا النشاط الإرهابي الواسع، جعل جيف بورتر المتخصص في شمال أفريقيا في مركز مكافحة الإرهاب في الأكاديمية العسكرية الأميركية، يرى أن داعش ينمو بسرعة في ليبيا، التي يرى فيها قاعدة محتملة لعملياته الإقليمية.

وأن التنظيم حسب بورتر يعيد بناء نفسه في ظروف جديدة ، وأضاف: “لقد تمكنوا من ترميم قدراتهم وينوون استخدامها”.(7)

الأرهاب ..ليس قدرا

هذا التحرك الدموي النوعي الواسع للتنظيم بعد هزيمته في سرت ربما يجيب على سؤال إلى أين ذهبت فلوله المهزومة؟ ذلك أن المعلومات تشير إلى أن قسما من عناصره  توجه إلى الصحراء، من أجل إحياء التنظيم لاحقا، ولو عبر أسلوب الذئاب المنفردة، فيما فضل آخرون  التسلل واختراق المجتمع في المدن القريبة، وعلى الأغلب تم الاتجاه نحو المدن الغربية الأقرب، وعناصرها هم بالأساس من التونسيين والليبيين. (8)

وأخيرا لقد أكدت التجربة التاريخية أنه لا يوجد إرهاب لا يمكن هزيمته، والتجربة الحية الطازجة كانت في سرت، وصبراته والمناطق الشرقية من ليبيا؛ ثم في العراق وسوريا تؤكد ذلك، غير أن ذلك يتطلب إزالة الشروط الموضوعية التي ساهمت  في خلق مثل هذه المنظمات الإرهابية، وهو شرط يتعلق بالعامل الذاتي الليبي كمحدد حاسم من أجل هزيمة الإرهاب.

ولذلك يمكن القول أنه طالما استمر الانقسام وغياب الحل السياسي بما ينتجه من فوضى أمنية، بسبب استمرار غياب مؤسسات الدولة  الجامعة القادرة على السيطرة على حدود البلاد المترامية، فإن ذلك سيوفر فرصة سانحة لعناصر التنظيمات المتطرفة  على اختلاف مسمياتها سواء داعش أو القاعدة أو أي قوى إرهابية أخرى؛ داخلية أو خارجية لاستمرار العبث بمستقل ليبيا.

المصادر:

(1) جيش الصحراء».. فرع «داعش» في الجنوب الليبي الأحد 08/يوليه/2018 .

(2) داعش ليبيا، أو تعدّد نقاط الاستفهام حول تسييره وولاءاته… مركز أمية للبحوث والدراسات الإستراتيجية علي عبد اللطيف اللافي 07/08/2018.

(3) «داعش» ينبعث من جديد في ليبيا.. وينبئ بعودة الإرهاب. «ديلي بيست» بتاريخ 08 يوليو 2018.

(4) داعش ليبيا، أو تعدّد نقاط الاستفهام حول تسييره وولاءاته. مصدر سبق ذكره

(5) «داعش» ينبعث من جديد في ليبيا.. وينبئ بعودة الإرهاب. مصدر سبق ذكره

(6) داعش يعود إلى ليبيا بصورة أكثر عنفًا المصدر: إرم نيوز ، خالد أبو الخير.

(7) «داعش» ينبعث من جديد في ليبيا. مصدر سبق ذكره.

(8) داعش ليبيا، أو تعدّد نقاط الاستفهام حول تسييره وولاءاته. مصدر سبق ذكره

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى