مصائب قوم عند قوم فوائد.. قائمة الرابحين من الحرب الروسية الأوكرانية حتى الآن
وتسببت الأزمة الأوكرانية في تداعيات عميقة لدى روسيا والغرب على السواء، موسكو بدأت تتعرض لحصار فعلي، سيُلحق ضرراً كبيراً باقتصادها، كما أنها أصبحت تعاني حصاراً جوياً عبر منع تحليق طائراتها في أغلب الدول الغربية، وأصبحت التحويلات المالية مقيدةً بعد منع عدد من البنوك الروسية من استخدام نظام سويفت للتحويلات المصرفية.
في المقابل، الدول الغربية، لاسيما الأورويية تعاني بدورها، فلقد أدت الأزمة إلى ارتفاع كبير في أسعار الطاقة لديها، ولاسيما الغاز، والشتاء لم يرحل بعد من نصف الكرة الشمالي.
وأزمة الطاقة هذه مرشحة للتفاقم بشكل يشبه الأزمة التي وقعت إثر حظر العرب للنفط، خلال حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، إذا أوقفت روسيا ضخ الغاز لأوروبا أو قللت صادراتها من النفط.
كما هناك الضرر الناجم من قطع الروابط الاقتصادية بين الشركات الغربية وروسيا، إضافة إلى المشكلات التي قد تنجم من نقص مواد الخام التي تنتجها روسيا، وبعضها شديدة الأهمية وشديد الندرة.
قائمة المستفيدين من الأزمة الأوكرانية تتضمن قيادات الدول المتورطة
بوتين الرئيس الذي يتصدى للحصار الغربي
في مقابل تضرر الشعب الروسي وكثير من شعوب العالم، بما فيها الشعوب الغربية، فإن قيادة المحورين تبدو كأنها في مقدمة المستفيدين من الأزمة الأوكرانية.
فالشعوب لا تغير قيادتها أثناء الحرب، وهكذا يتوقع أن يلتف الشعب الروسي حول الرئيس فلاديمير بوتين، في ظل الحصار الذي تتعرض له بلاده، والذي سيقدمه كدليل على تآمر غربي ضد روسيا، وليس لخطأ في الحسابات لديه، وسيعزز قبضته على الدولة الروسية، ووأد أي معارضة، وسيحاول تعزيز الاكتفاء الذاتي لبلاده، وعزل مواطنيه إعلامياً عن تأثيرات الإعلام الغربي.
الرئيس الأوكراني من ممثل كوميدي لبطل المقاومة ضد الروس
وحتى الآن، فإن واحداً من أبرز المستفيدين من الأزمة الأوكرانية هو الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
فالرجل تحوّل من ممثل كوميدي إلى رئيس مرتبك يستجدي الدعم الغربي، ولكن الغزو والتغطية الإعلامية الغربية وارتباك أداء الروس حولوه لرمز المقاومة الأوكرانية، الذي يتبارى زعماء الغرب في الاتصال به تليفونياً.
وإذا نجت أوكرانيا كدولة من الأزمة من أيدي الروس عبر تسوية ما، واستمر نظامها الحالي، فإن الرجل سيتذكره الأوكرانيون والعالم كزعيم للمقاومة ضد الغزو الروسي، وليس جزءاً من تيار استفز موسكو بشكل غير مدروس، بسبب اللهاث وراء حلم الانضمام للناتو الذي لم يأخذه الحلف يوماً بجدية.
كما أن التيار المعادي لموسكو والثقافة الروسية داخل أوكرانيا سوف يكون قد فاز في معركة الصراع على هوية أوكرانيا، الحائرة بين الغرب وروسيا منذ قرون.
بايدن زعيم الغرب الذي فضح المؤامرة الروسية قبل وقوعها
على الجانب الآخر، فإن الرئيس الأمريكي جو بايدن قدم نفسه لشعبه والغرب على أنه القائد القوي الحكيم، الذي فضح المؤامرة الروسية قبل أن تقع، وفرض حصاراً محكماً حول روسيا، وأعاد تصليب التحالف الغربي ودعم مقاومة أوكرانيا دون التورط في حرب مع موسكو تفضي لصراع نووي، بل يقود ضدها حرباً بالوكالة، تكلفتها زهيدة تعتمد على إخراج صواريخ جافلين المضادة للدبابات، وستينغر المضادة للدبابات، من مخازن الجيش الأمريكي والجيوش الحليفة.
وسيصور ترامب كعميل لبوتين
كما أن بايدن سيستفيد من العلاقة المثيرة للجدل بين بوتين والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والتي وصلت لمدح الأخير للرئيس الروسي بعد اعترافه باستقلال الدونباس.
فعلى مدار التاريخ، كان الجمهوريون هم صقور التيار المعادي لروسيا في الولايات المتحدة، والديمقراطيون متهمون بالضعف إزاء موسكو، ولكن اليوم بسبب إشادة ترامب ببوتين وإعجاب بعض اليمين المتطرف المحسوب على الجمهوريين بالرئيس الروسي، وموقف بايدن القوي تجاه الهجوم الروسي على أوكرانيا، فإن الديمقراطيين يركبون موجة العداء لروسيا، بينما غريم بايدن ومنافسه المحتمل بالانتخابات القادمة ترامب متعاطف مشتبه به مع بوتين، ما يقوي فرص بايدن في الانتخابات القادمة إذا خاضها أمام ترامب، أو أي مرشح جمهوري آخر.
فالشعوب لا تختار مرشحين مشتبه في علاقتهم أو إعجابهم بالأعداء.
شولتز من ظل ميركل الباهت إلى الرجل الذي أصلح خطأها التاريخي
وفي ألمانيا، تحول المستشار الألماني أولاف شولتز من ظل باهت للمستشارة الألمانية الشهيرة أنجيلا ميركل، إلى الرجل الذي سوف يصلح خطأها التاريخي بالتهاون مع روسيا، خلال أزمة ضمها للقرم عام 2014، وسيحاول أن يحمي الألمان من خطئها الأكبر بتعزيز اعتماد برلين على موسكو، عبر توسيع أنابيب الغاز، الأمر الذي يهدد بتجمد ألمانيا من البرد إذا قطع القيصر بوتين الغاز عنها.
وعبر إعلانه التاريخي بالتحول عن سياسات ألمانيا السلمية وتزويد أوكرانيا بالسلاح، وتوسيع الإنفاق العسكري بشكل كبير، لا يدشن فقط شولتز زعامة ألمانية لأوروبا عسكرياً وسياسياً فقط، بل يخفي حقيقة أن حزبه الاشتراكي كان أكثر أحزاب ألمانيا تأييداً لتوثيق العلاقات مع روسيا، وأشدها حماساً لتدفق الغاز الروسي في شرايين اقتصاد ألمانيا.
ماكرون.. الغرب سينسى محاولته استرضاء موسكو
وماكرون بفضل مواقفه القوية المتأخرة، سيغطي على مشكلاته السياسية الداخلية، وعلاقته الوثيقة ببوتين، ورفضه السابق لاتخاذ أي مواقف صارمة ضد موسكو، وحديثه عن هوية أوروبية تجمع الروس والاتحاد الأوروبي، ومحاولته المهينة لاسترضاء موسكو، عبر اللقاء الشهير مع بوتين في موسكو قبل الغزو الروسي، والذي تسرب منه أنه تضمن إقرار ماكرون للروس بأن أوكرانيا لن تنضم أبداً للناتو، إضافة لمجمل مواقفه التي تقلل من الخطر الروسي، والتي أسهمت في تمادي بوتين في سياسته.
جونسون أعاد بلاده لصدارة الغرب بعدما نبذتها أوروبا
أما رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، فهو من أكبر الرابحين من الأزمة.
فالرجل الذي كان يعاني مشكلات داخلية آخرها اتهامه بكسر قيود كورونا، أصبح بمثابة الزعيم الغربي الأكثر جرأة ضد بوتين، والأعلى صوتاً في دعم أوكرانيا، وذلك منذ بداية الأزمة، ما أعاد بلاده إلى واجهة قيادة الغرب وأوروبا والناتو، بعدما انحسر دورها إثر خروجها من الاتحاد الأوروبي، وبدا أن أوروبا تتعامل معها باعتبارها طرفاً خارجياً مثل تركيا وروسيا.
وفي الوقت ذاته فإن الثمن الذي ستدفعه بريطانيا قليل، فهي محصنة بأسلحتها النووية وبأسطولها في جزرها البعيدة التي لا تستطيع يد روسيا أن تطالها، وهي لديها موارد هيدروكربونية كبيرة مقارنة بمعظم الدول الأوروبية الأخرى، كما أنها الأقل اعتماداً على استيراد الطاقة من روسيا.
الدول المستفيدة من الأزمة
الصين.. كثير من الفوائد وأيضاً الأضرار
ولكن قائمة المستفيدين من الأزمة الأوكرانية تتضمن عدداً من الدول وليس قيادات فقط.
نسبياً الصين قد تكون مستفيدة من الأزمة، بدءاً من أنها ستبعد اهتمام الغرب عنها بعد أن كان قادة الغرب ولاسيما الولايات المتحدة يرون فيها الخطر الأساسي وليس روسيا، (التي كانوا يرونها قوة اقتصادية متوسطة مزعجة أكثر منها خطيرة، بينما بكين تشكل خطراً مستقبلياً أشد).
وقد يقلل انشغال أمريكا بالحرب الأوكرانية مساعي واشنطن لاحتواء الصين، ويطلق يد الأخيرة في التعامل مع تايوان، وتعزيز نفوذها في آسيا والمحيط الهادئ، بعدما تسببت أزمة أوكرانيا في تغيير خطط أمريكا لجعل هذه المنطقة بؤرة اهتمامها الرئيسي.
كما أن الحصار الغربي على روسيا، ولاسيما إذ وصل لحظر استيراد النفط والغاز الروسي، من شأنه جعل موسكو أكثر حاجة لبكين، وبالتالي قد تيسر روسيا شروط أي صفقات بين الجانبين في مجال الطاقة والتسليح وغيرها.
ولكن في المقابل، فإن العقوبات الغربية على الصين لو تضمنت إلزاماً للشركات الصينية بأي شكل من أشكال المقاطعة لموسكو فسوف يمثل هذا مأزقاً لبكين، المنخرطة بقوة في التصدير للغرب، ففي النهاية أمريكا وليس روسيا هي أهم مستثمر في الصين، وأكبر مستورد لمنتجاتها.
تجربة الصين مع إيران تؤشر إلى أن بكين تعترض على الإجراءات الأحادية الأمريكية ضد أصدقائها “كلامياً”، ولكنها تطبقها على الأرض على الأقل جزئياً، مثلما حدث مع النفط الإيراني بعد العقوبات الأمريكية التي فرضها ترامب، حيث توقفت بكين بشكل كبير عن استيراده.
وقد تميل بكين لتقسيم شركاتها بين شركات تتعامل مع الغرب وأخرى مع روسيا، لتجنب تعرض شركاتها التي تتعامل مع الغرب لعقوبات.
وفي كل الأحوال فإن تجربة معاقبة شركة هواوي الصينية العملاقة للاتصالات تثبت قدرة أمريكا على إيذاء الشركات الصينية، دون رد فعل صيني يذكر.
كما أن التداعيات الاقتصادية للأزمة الأوكرانية على روسيا والغرب على السواء سوف تضر بالاقتصاد الصيني، وخاصة تداعيات ارتفاع أسعار الطاقة، وتراجع القدرات الشرائية للمستهلكين للمنتجات الصينية في روسيا والغرب ومجمل العالم.
والأهم أن الأزمة الأوكرانية تحفز اتجاهاً عاماً في الغرب لتقسيم العالم بين “من معنا ومن ضدنا”، ومحاولة عزل “من ضدنا”، وطبعاً الصين بالنسبة للغرب كانت موضوعة في قائمة “الضد” حتى قبل روسيا، إلى أن نشبت الأزمة الأوكرانية.
العرب.. مكاسب كبيرة لبعض الدول وخسائر هائلة لأخرى
تختلف انعكاسات الأزمة الأوكرانية على الدول العربية اختلافاً كبيراً، فالدول غير النفطية تضررت، وسوف تتضرر بشدة من الأزمة، خاصة أن المنطقة العربية من أكبر مستوردي الحبوب، فدولة مثل مصر (أكبر مستورد للقمح في العالم) تعتمد على روسيا وأوكرانيا كأهم مصدرين للحبوب، إضافة إلى اعتمادها على السياحة القادمة من روسيا وأوكرانيا بشكل كبير، كما أن ارتفاع أسعار الطاقة سوف يضر العديد من الدول العربية.
في المقابل، فإن ارتفاع أسعار النفط والغاز ومحاولات أوروبا إيجاد بديل للإمدادات الروسية، من شأنه أن يمثل فائدة كبيرة للدول العربية الغنية بالطاقة، لاسيما الدول التي تجمع بين إنتاج النفط والغاز مثل قطر والجزائر.
وقد تؤدي الأزمة إلى تحفيز توسيع إنتاج الغاز غير المستغل في المنطقة في دول مثل السعودية والعراق، وليبيا، والإمارات وسلطنة عمان.
كما أن الأزمة سوف تزيد من أهمية دور مصر كمنتج للغاز وبالأكثر، كونها مركزاً لتسييل الغاز، (مصر مستفيدة من ارتفاع أسعار الغاز ومتضررة من صعود النفط).
وقد تدفع أزمة الطاقة واشنطن لإحياء مشروعات إنتاج وتصدير غاز شرق المتوسط، بعيداً عن مشروع خط غاز شرق المتوسط الذي تخلت عنه واشنطن، لأنه مرفوض من قبل تركيا.
وقد يؤدي ذلك لتحفيز إنتاج الغاز في بلد مثل لبنان، رغم أنه سيدفع ثمناً لوجوده على خط المنافسة الروسية الإيرانية الغربية، إضافة لتضرره من ارتفاع أسعار القمح.
تركيا.. أضرار اقتصادية وفوائد سياسية
تعتبر تركيا واحدة من أكثر الدول تضرراً على المستوى الاقتصادي من الحرب الروسية على كييف، ولكنها قد تكون في مقدمة المستفيدين من الأزمة الأوكرانية سياسياً.
فتركيا تعتمد بشكل كبير على السياحة الروسية، وروسيا سوق كبير لمنتجاتها الصناعية والزراعية، وأي ضعف للاقتصاد الروسي، والحصار الغربي على موسكو من شأنه تقليل السياحة والتجارة الروسية مع أنقرة.
كما أن تركيا لديها علاقات وثيقة اقتصادياً وعسكرياً واستراتيجياً مع أوكرانيا، بما في ذلك تعاون مهم بالنسبة لأنقرة في مجال الصناعات العسكرية، حيث كانت أوكرانيا سوقاً مهماً للأسلحة التركية، وكانت أنقرة تعول على التعاون مع كييف في معالجة فجوات صناعاتها العسكرية عبر نقل التقنية الأوكرانية في مجالات مثل محركات الطائرات والدبابات، وهو أمر مهم بالنسبة لمشروع الطائرة التركية الشبحية والدبابة التركية الجديدة ألتاي، وكذلك في إنتاج محركات المروحيات والطائرات المسيرة، وهناك أيضاً التعاون بين البلدين في تصنيع الأقمار الصناعية، الذي تتميز فيه كييف.
وقد وصل هذا التعاون إلى شراء شركة تركية لربع أسهم الشركة المصنعة للمحركات الأوكرانية Motor Sich، إلى جانب شروط في الصفقة متعلقة بنقل المعرفة. وهو ما قد يفتح الباب لأنقرة للاستفادة منها في تطوير محرك للطائرات التركية الشبحية، في ظل الحصار الغربي على نقل هذه التكنولوجيا لأنقرة.
كما أن تركيا قد تتعرض لضغوط لقطع علاقتها تماماً مع روسيا، وهو ما قد يسبب مشاكل اقتصادية لها، إضافة إلى أن البلدين بينها تاريخ وحاضر معقد، ويتجاوران في البحر الأسود، وينسقان مع بعضهما في سوريا وليبيا والقوقاز، حيث دعم كل منهما أطرافاً متعارضة، ولكن توصلا لاتفاقات لحل أو معالجة الأزمات بطريقة لافتة قد تحتاج أوكرانيا والغرب لمحاكاتها لحل الأزمة مع روسيا.
في المقابل، فإن عوامل سياسية واستراتيجية قد تجعل تركيا في مقدمة قائمة المستفيدين من الأزمة الأوكرانية.
فلقد توترت علاقة تركيا مع أوروبا وأمريكا في السنوات الماضية، بشكل كبير، وبدا أن هناك اتجاهاً في الغرب يحاول تنصيب أنقرة عدواً، مع التقليل من الخطر الروسي، (قاد ماكرون هذا الاتجاه بشكل رئيسي)، رغم أن تركيا تريد فقط معاملتها بندية واحترام، مع تأكيدها على التزامها بالناتو، ورغبتها في الانضمام للاتحاد الأوروبي وليس كروسيا التي تريد تفكيكه (أفادت تقارير بأن موسكو حرضت الناخبين البريطانيين عبر الحرب السيبرانية على التصويت لصالح الانفصال عن الاتحاد الأوروبي خلال استفتاء البريكسيت).
ولكن الأزمة الحالية بالإضافة إلى أنها حولت المشاعر السلبية الغربية تجاه روسيا، فإنها تبرز وتجدد أهمية تركيا الجغرافية والعسكرية لاستراتيجية الغرب في احتواء روسيا.
فتركيا صاحبة ثاني أكبر جيش في الناتو، وبينما تحاط روسيا بعدد من حلفاء الغرب الضعاف مثل جمهوريات البلطيق وأوروبا الشرقية وفنلندا، فإن تركيا هي أقوى دولة في الناتو تجاور روسيا (عبر البحر الأسود) بل تمتلك المفاتيح التي تستطيع خنق موسكو وهي المضائق التركية.
تركيا لها حضور تاريخي في حدائق الكرملين الخلفية
إضافة إلى ذلك، هناك نفوذ أنقرة التاريخي والديني والسياسي وحتى الأمني في حدائق الكرملين الخلفية، وأقاليم روسيا الطرفية، التي توجد فيها أقليات مسلمة ترتبط تاريخياً وثقافياً بتركيا.
ففي جنوب القوقاز يوجد أذربيجان، حليفة تركيا وشقيقتها في الهوية التركية، وفي شمال القوقاز توجد جمهوريات الشيشان وداغستان وأنجوشيا، وسكانها من المسلمين غير الأتراك، ولكنهم مرتبطون تاريخياً بالدولة العثمانية، وفي جمهوريتي تتارستان وبشكيرستان بمنطقة الفولغا الاستراتيجية توجد أكبر أقلية مسلمة في روسيا، وهي الأقلية التتارية (التتار شعب تركي يتحدث لغة تشبه لغة تركيا)، وفي شبه جزيرة القرم يوجد تتار القرم، الذين قال الرئيس الأوكراني إن تركيا لديها مسؤولية تاريخية تجاههم.
وفي البلقان، حيث يوجد الصرب، أشد حلفاء روسيا في أوروبا ولاءً لبوتين، وأكثرهم خطورة واستعداداً للتهور، يوجد لتركيا دور بارز لموازنة تأثير موسكو عبر دعم مسلمي البوسنة وألبان كوسوفو المستقلين عن الصرب.
وتتزايد فاعلية هذا الدور بفضل العلاقات الوثيقة التي نسجتها أنقرة مع صربيا في السنوات الماضية، والتي تجعل الأخيرة تفكر مرتين قبل دعم صرب البوسنة في مساعيهم لتفجير الأوضاع بالبوسنة.
والأهم فإنه مع نجاح التدخل العسكري التركي المباشر وغير المباشر، في القوقاز وسوريا وليبيا، وظهور الطائرات المسيرة التركية كأداة عسكرية فعالة، فإنه يمكن لأنقرة بسهولة منحها لمسلمي البوسنة، الذين اعترف قادة الصرب بأن تركيا لديها مسؤولية تجاههم، ولذا بفضل دور أنقرة المتصاعد في البلقان فإن الصرب سوف يفكرون كثيراً في تكرار المذابح التي ألحقوها بالمسلمين في التسعينيات.
ويعني كل ما سبق أن تقوية تركيا ودورها في الناتو وأوروبا أداة مهمة لاحتواء روسيا، ولكن يتطلب الأمر أن يراعي الغرب، ولاسيما أمريكا، أن تركيا علاقتها معقدة بموسكو، ولذا لن تصل لنفس المدى في مواجهتها مع موسكو كباقي دول الغرب، كما أن هناك حاجة لمساعدة تركيا لإيجاد منافذ اقتصادية بديلة لروسيا، والأهم دعم مساعي تركيا لتقوية واستقلال جيشها، وهي المسألة التي كانت سبباً رئيسياً للخلاف بين واشنطن وأنقرة، كما حدث في صفقة شراء أنقرة لصواريخ إس 400 الروسية.
ولذا فإن الغرب بحاجة لإعادة النظر في حصاره غير المعلن في المجالات التقنية العسكرية لتركيا، وقد تكون أفضل السبل لتقوية تركيا إعادتها لمشروع الطائرة الأمريكية الشبحية إف 35، أو أن تمضي بريطانيا قدماً (بموافقة واشنطن) في تفعيل تعاونها المتعثر مع أنقرة في مشروع إنتاج الطائرة الشبحية التركية من الجيل الخامس، ولاسيما في مسألة المحركات.
فالأزمة الأوكرانية خير دليل للغرب أن تركيا ليست خصماً، ولن ترضى أن تكون تابعاً، بل يمكن أن تكون حليفاً يمكن الوصول معه لاتفاقات موثوقة.
فالتاريخ والجغرافيا خلقا حالة من الخصومة والعداء الثلاثي بين الغرب وروسيا والدولة العثمانية منذ قرون، ولكن صعود القوة الروسية وبطشها في نهاية عهد القياصرة، ثم السوفييت، وأخيراً بوتين، يجعل من المنطقي أن تركيا والغرب يحتاجان بعضهما لتجنب اليد الروسية الباطشة، ولكن كلٌّ بطريقته.