معركة أوكرانيا.. وتدشين عالم متعدد الأقطاب

سليم يونس   

إذا كان صحيحا القول أن لقرار روسيا الاعتراف بجمهوريتي لوغانيسك ودونيتسك والتعهد بحمايتهما يوم 22/2/2022 هو متغير مفصلي في المشهد السياسي الدولي، يفصل بين مرحلة ما قبل 22 فبراير ومرحلة ما بعدها، فإن دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا بهدف تنفيذ هذا التعهد بحماية الجمهوريتين يوم 24/2/2022، هو في الواقع تعميد عملي لذلك الفصل بين حقبتين.

ومع أن تبرير روسيا لخطوة دخول قواتها إلى أوكرانيا هي في الشكل لحماية سكان الجمهوريتين إلا أنها في الجوهر أبعد من ذلك، فهي موجهة إلى الغرب ممثلا في الولايات المتحدة وذراعها العسكري الناتو وملحقاتها من الدول الغربية، التي رفضت إعطاء ضمانات إلى موسكو تتعلق بأمن روسيا القومي، المتمثل في عدم نشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى في مدى إطلاق نيران الصواريخ من كلا الطرفين، والتخلي عن توسع الناتو شرقاً، بما في ذلك تقديم العضوية في الحلف لجمهوريات سوفيتية سابقة. وأن يقدم لها الناتو ضمانات بعدم حصول أوكرانيا على عضوية الحلف.

ونظرا لحساسية موضوع الأمن بالنسبة لموسكو وسوء نوايا الغرب بعد تجربة ذلك، فإن روسيا اعتبرت تلك الضمانات خطوطا حمراء لا يمكن التساهل فيها وأن تجاوزها يعادل الحرب، ولأن ممارسات الولايات المتحدة والناتو في تجاهل أخذ هواجس ومصالح روسيا الأمنية بعين الاعتبار، كون تلك الدول لم تعرها اهتماما، ليأتي الرئيس الأوكراني ليزيد الطين بلة عندما أعلن عن نواياه امتلاك أوكرانيا للسلاح النووي، ولا يختلف اثنان أن رسالة الرئيس الأوكراني زيلينسكي العودة لامتلاك السلاح النووي أراد منها ترهيب روسيا، فجاءت بنتائج عكسية لجهة تأكيد مخاوف روسيا من دور أوكرانيا التي يسيطر عليها المتطرفون القوميون المعادون للروس، وربما كان هذا التوجه هي النقطة التي أفاضت الكأس الروسي، في ظل رفض الناتو وواشنطن الموافقة على الضمانات الأمنية التي تطالب بها روسيا، في الوقت الذي يقوم فيه الناتو والدول الأوروبية بتقديم الدعم العسكري المتواصل لكييف، بتزويدها بالسلاح والذخيرة والعتاد وحتى التدريب ونخبة من المقاتلين.

ومن ثم لا يمكن لأي قراءة موضوعية للوقائع تصَوُر قبول روسيا باستمرار حالة إدارة الظهر والاستخفاف بمطالبها التي لها علاقة بأمنها القومي ووجودها، الذي بات  في مواجهة  تهديد حقيقيي دون أن تتخذ موقفا حاسما في مواجهة هذا التحدي الوجودي الذي يمكن أن تمثله أوكرانيا كأداة وظيفية في يد الغرب، بأن تأخذ خطوة استباقية بالسيطرة العسكرية على مفاصل أوكرانيا لفترة محددة من أجل قطع الطريق على الناتو وأوكرانيا استهداف روسيا، بعد زيادة وتيرة درجة الحماس الأوكراني على خلفية الدعم العسكري والمالي والسياسي والدعاوي من قبل الغرب.

وإنه لتقدير موقف يفتقد إلى كفاءة القراءة العلمية، لقدرة ومدى صبر القيادة الروسية، على استمرار استفزازها، والمراهنة على رضوخها لحالة التهديد المتنامي والمتصاعد من قبل أوكرانيا بدعم وتشجيع الناتو والدول الغربية بزيادة مساحة الاستعداء لموسكو، التي لم تقف عند حد موقف أوكرانيا العدائي بتنكره لاتفاقات مينسك لحل مشكلة لوغانيسك ودونيتسك، وإنما بطلب الانضمام إلى الناتو، وتلويح الناتو باستهدافها من خلال المناورات الواسعة البحرية والجوية لحلف الناتو ومحاكاة لاستخدام السلاح النووي في حملة ترهيب لموسكو، وهو ما جعل الرئيس يقول إنه “لم يعد بإمكاننا الصمت”. التي قال إنها بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها سياسة احتواء لروسيا، لكنها بالنسبة  لروسيا تهديد حقيقي لوجود الدولة.

هذا التهديد الحقيقي حسب بوتين ما كان من الممكن الانتظار عليه أكثر من ذلك  ولهذا كان قرار روسيا  تحييد هذا التهديد الوجودي بدخول أوكرانيا رغم التداعيات التي يمكن أن تترتب على ذلك، مع أن الدخول العسكري الروسي جاء كإجابة ونتيجة  لممارسات الناتو ومؤسسة الحكم الأوكراني بعد انقلاب 2014، وهي من ثم ليست ترجمة لرغبة ذاتية من طرف معين وهو هنا روسيا، وإنما هو تظهير لنضج جملة العوامل الذاتية والموضوعية، كونها كانت عملية تراكمية مستمرة منذ سنوات، لم تحسن كييف قراءتها اعتمادا على وعود الناتو وأمريكا وأوروبا بالوقوف معها في مواجهة روسيا. لذلك كان الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي يعتقد وهو يرفض حل مشكلة إقليم الدونباس واستعداء روسيا بل ويستفزها بطلب دخول الناتو أنه في حماية الغرب، الذي ببساطة تخلى عنه، ما جعله يقول إنهم نكثوا بوعودهم وتركوه وحده، وحسب زيلينسكي، فإن أوكرانيا تركت وشأنها، والقوى العالمية تراقب الوضع من بعيد.

وعندما قررت القيادة الروسية الدخول العسكري إلى أوكرانيا، في ظل هذا التهويل الغربي العسكري واستعراض الناتو للقوة والتهديد المباشر من بعض الدول لروسيا مثال ذلك ما قاله وزير الدفاع البريطاني للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من أن المملكة المتحدة قادرة على “ركل” روسيا.

لذلك جاء جواب الرئيس على توعد بريطانيا على “ركل” روسيا بوعيد غير مسبوق لبريطانيا وأي دولة تجرؤ  على التعدي على روسيا  أو تفكر بالتدخل ضد القوات الروسية في أوكرانيا، برد فعل سريع وقوي، وغير مسبوق في التاريخ، عندما قال إن “أي طرف سيحاول إيقاف، أو تهديد روسيا أو شعبها، يجب أن يعلم بأن ردنا سيكون فورياً، وسيؤدي إلى عواقب غير مسبوقة ولم تشهدوها في تاريخكم” وأضاف ” نحن مستعدون لأي رد فعل”.

إن أي قراءة لهذا الوعيد الروسي لا يمكن عزلها عن دخول روسيا العسكري إلى سوريا عام 2015، لمواجهة قوى الإرهاب المدعومة إقليميا وعالميا، وفي تدخله المباشر لحل النزاع بين أرمينيا وأذربيجان , ثم مسارعته للتدخل لصالح النظام  في أوزبكستان الذي واجه حالة من الفوضى استهدفت تغييره. ولا يمكن والحال عزل مسارعة روسيا للتدخل في تلك الدول  بمعزل عن خطاب بوتين غير المسبوق أثناء دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا، فهو ليس موجها إلى أوكرانيا، وإنما هو في الجوهر موجه من روسيا إلى كل دول الناتو ولكل دولة  تفكر باستهداف روسيا، وهو يعني أن حالة الارتخاء الروسية السابقة لم تعد قائمة، وهي بالضرورة أبعد من أن  يوجه  للوزير البريطاني، وإنما هي رسالة لكل العالم تفيد أن ساعة الدخول العسكري إلى أوكرانيا تؤسس لولادة ميزان قوي دولي جديد، وأن حقبة القطب الواحد (الأمريكي) قد انتهت، وأن عالما جديدا متعدد الأقطاب يولد الآن.

وهذا التعدد في الأقطاب هو بالتأكيد نتاج واقع موضوعي ليس له علاقة برغبة أو إرادة الولايات وملحقاتها من الدول، ومن ثم فإن ميزان القوى الثنائي القطبية الذي قرره المنتصران في الحرب العالمية الثانية آنذاك في يالطا، الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، وأنتج النظام الدولي الثنائي القطبية، الذي تحول بعد  انهيار الاتحاد السوفيتي وبقاء الولايات المتحدة إلى عالم أحادي القطب،  وها هي روسيا تدشن حالة من تعدد الأقطاب تنهي هيمنة استمرت ثلاثة عقود للولايات المتحدة الأمريكية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى