من الآسر..
الأسير المحرر أحمد أبو السعود
عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين .
صحيح أن رفاق الجبهة الشعبية كانوا خطوا كتاباً اسمه “فلسفة المواجهة” هو عبارة عن خلاصة تجارب من خاضوا معارك التحقيق، يسلط هذا الكتاب الضوء على أساليب التحقيق وكيفية مواجهتها، لكن الصحيح أيضاً أن عدونا يجدد بأساليبه، ووجد بعد أكثر من عشرين عاماً أن أسلوب العنف وحده لا يكفي، فطوروا أساليب إلى الضغط من خلال الأساليب النفسية والمعنوية إلى جانب الأساليب الجسدية، وصديقنا الذي مر باعتقالين قبل هذا الاعتقال ومرتين تحقيق قاسي، ارتأوا أن يركزوا على العوامل النفسية فعداكم عن حرمانه من الطعام لأيام عديدة، ولنقل أنه ومن في وضعه لا يرغب بالطعام جراء الحالة التي يعيشها، أما أن تتراكم السوائل بجسمه ومحروم من إفراغها في الحمام فهذا أسلوب جديد عليه، فكيف السبيل إلى حل هذه المشكلة الضاغطة عليه، طلب من السجان مراراً وتكراراً، والإجابات إما بالركل على جسمه حتى لا ينادي أو يصرخ عليه مرة أخرى، هذه المرة جلوساً على البلاط ومربوط بيديه خلف ظهره ومربوطة الكلبشات بحديد بالحائط وعلى رأسه ثلاثة أكياس من القماش السميك ليختنق، وعلى ذكر الأكياس كان بعض المعتقلين يقضمها بأسنانه حتى يفتح فيها ثقباً كي يرى ولو جزءاً يسيراً من الضوء من حوله، يكاد أن يختنق وهو يضغط على جسده من شدة الألم وضغط البول في مثانته، فقال سأحاول بعد أن تم تغيير العسكري عله يكون أرحم قليلاً، لكن تبين أنه أشد شراسة من سابقه، ما دفعه لأن يبول بملابسه وعلى الأرض، وبقي هكذا، لكنه شعر بارتياح كبير ولام نفسه على عدم فعلها من قبل، ولأنه مراقب بالكاميرات والعسكري المتواجد بالساحة بين المشبوحين جاء إليه ضابط التحقيق وأظهر دهشة ماذا فعلت؟ لماذا لم تطلب الدخول للحمام؟ ولأن صديقنا يعلم أنه يحاول أن يظهر بمظهر الإنساني فوت عليه الفرصة وقال له: هنا أفضل لشو يتغلب العسكري ويفك ويربط، وعرض عليه المحقق أن يدخل للحمام فرفض، وقال: انتهى الأمر لا حاجة لي للحمام. وهو بهذه الحالة أفشل محاولتهم، وعاد إلى الصراع مع السجان على لحظات من النوم يقابلها ضربة بعصا أو رفسة بقدم.
بعد أربعة أيام على هذا الحال أدخلوه للتحقيق وكان يتواجد أربع إلى خمسة محققين وذكروا أمامه أسماءهم وكأنهم في حفلة تعارف، وهو بقي صامتاً مع أنه يعرف بعضهم وسمع بأسماء البعض الآخر، يعمل المحققون على تقسيم أنفسهم جزء يمثل دور الطيب الذي يريد إنهاء الموضوع بدون عنف (يعني الصديق)، والثاني العنيف (يعني العدو)، الأول يسعى لانتزاع الاعتراف باللطافة والحوار وطول النفس، والثاني بالضرب والتهديد وهكذا، بدأ من قال أنه مسؤول التحقيق بأن يعترف ليريح نفسه من هذا العذاب، بعدها يمكن أن يتناول الطعام وأن ينام ثم يمكن للمحامي أن يزوره، ويتمكن أهله من زيارته، وأن لا يتم حكمه حكماً عالياً، رد صديقنا أنا لا أعرف شيئاً وإنكم مخطئون، تضيعون وقتكم لأنني لست من تبحثون عنه، حاولوا طرح سؤال عن المسدس أين هو؟ ومن كان معك وأمور أخرى ذات صلة بالموضوع؟ ولكن ما تلقوه كان نفس الجواب، فقام ثلاثة طرحوه أرضاً وشرعوا بجولة من الضرب بأرجلهم على كل أنحاء جسده حتى تعبوا وتصاعدت أنفاسهم من التعب، وفي الجولة الثانية بعد أن ارتاحوا قليلاً جاء أحدهم وبدأ يشد على رقبته محاولاً خنقه، والثاني يضغط على أعضائه التناسلية، والثالث يضرب بأرجله بكل مكان من جسده متاح له، وصديقنا لأنه مقيد اليدين للخلف لا يقدر إلا أن يصرخ بشتائم من ما خطرت بباله، انتهت الجولة بمدة ربع إلى نصف ساعة، فجاء الرابع الذي كان خارج الغرفة كما يبدو لأنه فتح الباب وبدأ يصرخ عليهم، لا يحتاج الأمر إلى الضرب والعنف طبعاً بالعبري، وأجلسه على الكرسي وأخرجهم من الغرفة، وعاد يشرح له أن الطريق طويل ويمكنك اختصارها بأن تقدم اعترافاً ولو صغيراً، وتغلق القضية وهذه المرة أنقذتك منهم، لكن بالمرة القادمة لا أعلم فقد تموت بين أيديهم كما كثيرون قبلك ماتوا أو قتلوا، الأفضل أن تعترف وتنهي القصة. هزأ منه صديقنا في نفسه، وقال له لو عندي شيء لقلته من اليوم الأول، لكنني لا أعرف شيئاً، وإذا بالمحققين الثلاثة يقتحمون الغرفة ويطلبوا من المحقق الذي يلعب دور الصديق بالخروج، وكانت جولة حامية ضرب وصراخ وشتائم، ثم أوقفوه بدأ أحدهم بهزه من الكتفين بشكل متواصل حتى شعر أن رأسه يكاد يفلت من جسده، انتهت الجولة بعد أن رموه على الأرض وخرجوا، وجاء العسكري وسحبه من أرجله إلى ساحة الشبح، وأعاد ربطه إلى الحائط خائر القوى تماماً، لكنه يشعر بانتصار عليهم في هذه الجولات، فشعر بارتياح نفسي رغم الألم الجسدي.
فاتني القول أن المحققين يشيعون عن مركز التحقيق في العاصمة بأن أحداً لم يصل من المعتقلين إلا اعترف أو تم قتله، وبالفعل استشهد عدد من المعتقلين أثناء التحقيق، لكن ليس صحيحاً أن الباقي اعترفوا فكثيرون لم يعترفوا وانتصروا على المحققين، هذا المركز فيه أقسام من الزنازين بعضها يتسع لاثنين وبعضها لواحد فقط وهي مقسمة إلى مربعات كل عدة زنازين لوحدها ليسهل وضع عدد من المعتقلين كل واحد في زنزانة وفي بعضها عميل، لكي يعتقد المعتقلين أنهم بعيدون عن التحقيق فيشرعوا بالكلام والحديث مع بعضهم، وخاصة إذا كان أثنان أو ثلاثة من مجموعة واحدة وعلى ذات القضية، والعميل شريكهم، إما بالحديث أو بالاستماع، وقد يضاف إلى ذلك وضع أجهزة تنصت عند أبواب الزنازين، يعني أن المعتقل ملاحق منذ لحظة اعتقاله وحتى وهو بالسجن لالتقاط معلومات عنه حتى لو كان قد حكم بالمؤبد.
من جانب آخر يوجد سماعات ضخمة بقسم التحقيق تبث صخباً مزعجاً إلى أبعد الحدود، وفي أحيان كثيرة في ساعات الصباح الأولى يضعون تسجيلاً لأصوات من يتلقى ضرباً مبرحاً، فيها استغاثة وصراخ من الألم… الخ. كي يعيش باقي المعتقلين بالزنازين أجواء إرهاب وتخويف، خاصة بعد أن يكون المحقق سحب معتقلاً من هذه الزنزانة من هذا المربع، وذاك المربع وأخذهم للتحقيق ليظن الباقي أنهم من يتلقون كل الضرب ويصرخون بكل هذه الحدة، قد يكون هناك فعلاً تحقيق مع البعض وقد لا يكون، وما هذه إلا تسجيلات لخلق أجواء من الرعب والضغط على الأعصاب….