من الأسر
الأسير المحرر أحمد أبو السعود
عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
تناقصت أعداد الأسرى عما كانت عليه قبل اتفاق أوسلو، ولم يعد هناك اعتقالات إلا نادراً جداً، وغالبيتها الساحقة من مناصري حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وهذا حال السجون حياة رتيبة مملة تراجعت فيها الحياة الثقافية والمواجهات مع السجان، وباتت الأيام تتوالى بدون أحداث أو أنشطة ما جعلها روتينية متكررة، اليوم كالأمس وغداً كاليوم، أبرز ما فيها من تغيير هو زيارات الأهل التي تحمل أخباراً عن تطورات السلطة ورتب فلان وامتيازات علان، فكان هناك هدنة غير معلنة، التركيز من قبل غالبية الأسرى على ملاحقة جولات المفاوضات بين الوفد الفلسطيني والصهيوني، بانتظار ما ستسفر عنه من افراجات، كان الأمل معقوداً على التوصل لاتفاق نهائي، حيث نصت مبادئه على أن المرحلة الأولى هي خمسة أعوام وهي المرحلة الانتقالية، تتوج بإقامة الدولة الفلسطينية عام 1999، وحين أعيد الانتشار بمدن الضفة الفلسطينية وخرج الجيش إلى تخومها، وتقسمت الضفة إلى مناطق (أ – ب – ج) ، مساحة (المنطقة ألف 18 بالمئة من مساحة الضفة)، وهذه المنطقة تحت السيطرة الفلسطينية أمنياً ومدنياً، و(المنطقة ب تقدر بـ18 بالمئة) تحت سيطرة السلطة مدنياً، بينما الباقي والذي أطلق عليه (منطقة ج) تحت السيطرة الأمنية والمدنية الصهيونية، أي لم يتوقف الاستيطان بهذه المنطقة التي مساحتها أكثر من (60 بالمئة) من الضفة، حين كان الجيش الصهيوني يخرج من مدينة رام الله شهد الأسرى منظراً فجرّ غضباً في صدورهم حين شاهدوا عبر شاشات التلفاز صبايا وشباب من أبناء شعبنا يضعون الورود على فوهات بنادق الجيش الصهيوني، وحتى في تلك الفترة، من يحمل من الأطفال حجراً ليلقيه باتجاه جيش الاحتلال كان يواجه بإطلاق الرصاص، فكيف فهم الجيش وضع الورود على فوهات بنادقهم سوى بسخرية واستهزاء لأن حكوماتهم شرحت لهم أن الاحتلال لن ينتهي ولن تقام دولة، وللأسف هذا ما حصل، عاش الأسرى خيبات أمل كبيرة.
في تلك الفترة كان الرفيق وليد دقة يواصل دراسته الجامعية ويعمل ممثلاً للرفاق أمام رجالات الإدارة، فالدراسة الجامعية كانت مطلباً للأسرى تحقق بإضراب عام 1992، ولما كان يتواجد عدد من الأسرى كبار السن الذين مضى على وجودهم بالسجن أكثر من عشرين عاماً، وظروفهم صعبة حيث أنهم يعانون من الأمراض جراء سنوات السجن الطويلة والعمر الكبير، فقرر أن يعمل بأي شكل للمطالبة بالإفراج عنهم، ووجد التوجه للمحكمة الصهيونية طريقاً ممكناً بعد استشارته لأحد المحامين من مناطق الـ48، كان في حينه أقدم الأسرى الرفيق محمد أحمد رجا نعيرات (أبو رفعت) من قرية ميثلون، بعد أن رفض الاحتلال تحريره في صفقة التبادل عام 1985 التي أبرمت بين تنظيم القيادة العامة والاحتلال وتحرر من خلالها 1150 أسيراً وأسيرة، عمر أبو رفعت قارب السبعين عاماً، وبعد أن تمت الموافقة على فتح ملفه، فتح ملفه بسبب المرض وكبر عمره، قبلت المحكمة إحالته إلى ما يسمى لجنة الثلث، (هذه لجنة تتشكل من قاض متقاعد وضابط من إدارة السجون وآخر من الشرطة، وآخر من المخابرات)، تنظر بالطلب المقدم لها بعد أن يكون قد أمضى ثلثي فترة حكمه، فتوجه أبو رفعت إلى هذه اللجنة والجميع يتمنى له نيل الحرية، تم رفض طلبه، وحين عاد للسجن، غير مبالٍ ولا متأُثراً (لأنه مر في تجربة أصعب في وقت التبادل كانت إدارة سجن جنيد قد أخبرته بأنه من الأسماء المنوي تحريرهم، كباقي الأسرى الذين تم إعلامهم بالتحرر، جهز نفسه ووزع أغراضه الشخصية كما باقي الأسرى المنوي تحريرهم، وعندما تم النداء على أسماء الأسرى حمل أغراضه التي هي عبارة عن ما يخص الإدارة من فرشة ومخدة وبطانيات وصحنين بلاستيك وبشكير، جمعها وربطها في بطانية وحملها على ظهره، وهو نازل على درج القسم يرافقه سجان، التقاه بالصدفة مدير السجن، فنظر إليه المدير وسأله إلى أين أنت ذاهب أبو رفعت، فقال له مروح على البيت فضحك المدير بكل تشفي، وقال له: ارجع أنت لست من المفرج عنهم، ولسوء الصدف فإن أسير آخر يحمل اسم محمد أحمد رجا بعيرات هو الوارد اسمه ضمن قائمة المنوي تحريرهم، عاد أبو رفعت وكأنه كان ذاهب إلى عيادة السجن أو لمقابلة ضابط السجن، مبتسماً ويرد على أسئلة الأسرى لماذا رجعت؟ فيقول: حرف الباء السبب، فاسم عائلتي نعيرات، والأسير الآخر بعيرات، عاد إلى غرفته واسترجع أغراضه وأهمها السجائر لأنه كان يدخن سجائر العمر وهو دخان ثقيل جداً)، تجدر الإشارة أن أبو رفعت مرضه الأبرز هو الزهايمر، فربما هذا ما كان يخفف عليه الصدمات.
لم ييأس وليد دقة وتواصل مع المحامي، بعد أن حضر لزيارته وشرح له قضية أبو رفعت، ولأن المحامي كان ذو مشاغل كثير كان يرسل له مساعدته التي هي سناء سلامة والتي تعمقت علاقة وليد بها فأحبا بعضهما البعض من خلف شبك الزيارات ووصل الأمر إلى توثيق حبهما بعلاقة أبدية، سنأتي على ذلك بوقت لاحق، كان كل الأسرى يتعاطفون مع أبو رفعت يتابعون قضيته باهتمام كبير، وفعلاً المحامي رفع قضيته إلى المركزية ثم للمحكمة العليا بالقدس وذهب أبو رفعت جلسة وأخرى، ثم أعيد لمحكمة أخرى، ولم ييأس وليد فامتدت لأكثر من سنتين حتى جاء قرار المحكمة أخيراً بإطلاق سراحه في عام 1998 وكانت فرحة كبرى لدى كل الأسرى ولكل أهلنا في ميثلون، وكل من عرف أبا رفعت، وقبل أن يتم مجيء يوم تحريره الموعود كان وليد قد طلب من أهله أن يشتروا له طقماً وحطة بيضاء وعقال، ولبسهما يوم الإفراج عنه وتجمع غالبية الأسرى في ساحة سجن عسقلان لوداعه، وتحدث كثيرون بهذه المناسبة، ويتذكر صاحبنا بأنه بعد انتهاء الحفلة قال لأبو رفعت هيا نذهب للغرفة خلصت الحفلة (لأنه مصاب بالزهايمر ليرى أنه كان يتذكر بأنه ذاهب للبيت، ضحك بصوت عال وقال له: أنا مروح.. مروح ع البيت)، تحرر أبو رفعت بجهود وليد وسناء والمحامي، وكما سمع الأسرى فقد انتظره أبناء شعبنا وسارت ترافقه قافلة سيارات من الخليل، إلى القدس، فرام الله، وحتى نابلس، فقريته ميثلون في محافظة جينين، كان يوماً مفرحاً جداً لأن أبا رفعت عاد إلى بيته حتى لو كان مريضاً، وللأسف تفاقم لديه الزهايمر، ولم يمضِ أكثر من ثمانية سنوات في الحرية حتى توفي رحمه الله.
ما حققه وليد بمساعدة أبو رفعت بالإفراج عنه خلق أملاً لدى الأسرى كبار السن, فطلبوا من وليد أن يساعدهم عسى أن يحظوا بالحرية كما أبو رفعت، وكان التالي محمود السواركة أسير مصري من سيناء كان قد مضى على وجوده بالسجون 21 عاماً, وفعلاً استغرقت عملية المطاردة على المحاكم والعبء الكبير الذي وقع على المحامي وعلى سناء، ليكتشفوا أن هذا الأسير المصري في ملفه سبعة قرارات بالإبعاد إلى مصر، إلا أن المصريين رفضوا استقباله على مدى العشرين عاماً، كان التفسير الذي قدمه الأسرى أن السواركة كان واحداً من مجموعة أسرى مصريين قد تم تحريرهم، فكما يبدوا قدموا عنه معلومات للمخابرات المصرية أضرت به، وبسمعته ما جعل المخابرات يرفضوا إعادته لمصر، وقبل أن يتم الإفراج عنه كان هناك لقاء بين وزير الخارجية المصري، مع عزمي بشارة ، وكان حينذاك عضو (كنيست) فشرح له الأخير بناء على طلب من وليد الذي ربطته به علاقة قوية في حينه، عن ظروف السواركة الملقب بأبو سميرة، وهو فعلاً كانت عنده ابنة أسماها سميرة، جهود مقدرة لوليد وسناء أثمرت عن الإفراج عن أبا سميرة.
عاد أبا سميرة إلى مصر، وحظي باستقبال غير عادي فالتقاه السياسيين والفنانين، حتى بات مشهوراً، وأجريت معه لقاءات إعلاميه، فاعتقد أن ما سيقوله لن يصل لآذان الأسرى، فمما قاله أنه حين حققوا معه بداية اعتقاله من الأساليب أن ادخلوا على زنزانته كلباً كبير الحجم وشرساً، لكنه تمكن من السيطرة عليه تماماً وجعله يخرج من الزنزانة يعوي بذل، وقصص خرافية كثيره، يبدو أن المصريين كانوا يحتاجوا لواحد ليصنعوا منه بطلاً فكتبوا عن قصصه كتاباً وصل إلى السجن غالبيته أكاذيب واختلاقات بلا أساس, لكن الشيء المهم أنه عاد لأسرته وتحرر بفضل جهود وليد وسناء بشكل أساسي.
بعد أن تم التوقيع على اتفاق أوسلو والرسائل المتبادلة التي حملت الاعتراف بين (إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية)، الشعور الذي تولد لدى الأسرى الفلسطينيين من المناطق المحتلة عام 1948، أن المنظمة تخلت عنهم تماماً، إذ لم يطال أي منهم الإفراج ضمن دفعات أوسلو، هذا الأمر جعلهم يفكرون بالتجمع في سجن واحد ويطالبوا بحقوق مواطني (دولة إسرائيل)، وشرعوا بالتواصل عبر الرسائل، حيث أنهم موزعون على سجون عديدة، وفعلاً توافقوا دون أي تنكر للحركة الأسيرة، أو أنهم قد يتخلوا عن دورهم كأسرى فلسطينيين، وأكثر من هذا بقوا أعضاء وقيادات في فصائلهم، والواقع يدلل على هذا، شعروا بالخذلان من قيادة المنظمة، وذات الشعور ملازم لذوي الأحكام المؤبدة الذين صنفتهم حكومة الكيان بأنهم إرهابيون وأياديهم ملطخة بالدماء.
كل هذا وواقع الأسرى يزداد سوءً، من حيث معاملة السجان للأسرى، صحيح أن حدة المواجهات خفتت بشكل ملحوظ، لكن حياة الأسرى كانت قاسية بفعل التضييق عليهم وبفعل تجاهلهم من قبل السلطة، حتى بدأوا يبرقوا بالرسائل للإعلام بأنهم باتوا منسيون، فقد شاهدوا قيادات وعشرات إن لم يكن مئات آلاف يعودون والذين كانوا يعتبرون فدائيون، بينما الأسرى يبقون في سجون العدو.
في عام 1997 كان موعد فحص التوجيهي (البكالوريا)، وهو يتم بموعده وفق ما يتم تقديمه من قبل طلاب الضفة وغزة والقدس، كان صاحبنا الذي لم يدرس أعلى من الصف الثامن بمدرسة قريته، لديه توق كبير للحصول على شهادة الثانوية العامة، فكان منذ عام 1989 وهو يسجل اسمه ويخرج مع المتقدمين للامتحان، لكنه لم يتم قبوله في كل الأعوام بسبب أنه لم يكمل التاسع في المدرسة، وفي عام 1997 الأمر مختلف، إنها المرة الأولى التي سيقدم فيها الأسرى الامتحان في ظل وجود ومسؤولية السلطة الفلسطينية، فكانوا حددوا أن من عمره أكثر من 25 عام يمكنه أن يتقدم للامتحان ويتم قبوله، فقدم ونجح وحصل في ذاك العام على شهادة الثانوية العامة، لم يرغب أن يدرس بالجامعة العبرية، لأكثر من سبب، عدم حماسته للدراسة بجامعة عبرية، ولأنه سيضطر لتعلم اللغة العبرية وهذا يتطلب وقتاً، والأهم وقبل كل هذا لا يوجد لديه الوقت بسب انشغالاته بالعمل التنظيمي، وكان دوماً يقول يكفي كل أبنائي وبناتي تخرجوا من الجامعات.