تحليلات و آراء

من الأسر

الأسير المحرر أحمد أبو السعود
عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

بعد أن تمكن الاحتلال من اغتيال الشهيد يحيى عياش الذي قاد العمل العسكري لحماس وأفقدهم عقلهم بعد أن فشلوا مراراً باغتياله، تمكن من تحت أعينهم أن ينتقل من الضفة الفلسطينية التي كان يجوبها متخفياً إلى قطاع غزه مروراً من قلب فلسطين، من شمالها إلى جنوبها، وقد ساعدهم أحد العملاء باغتياله عبر تفخيخ جهاز التلفون، كان اغتياله ضربة قاسيه للعمل الفدائي في الأراضي الفلسطينية، لكن اخوانه المجاهدين ومن تتلمذوا على تجاربه وتعاليمه قد نفذوا في مناطق فلسطين المحتلة عام 1948عدة أهداف بعمليات استشهاديه، وهذا أعطى ذريعة لليمين الصهيوني أن ينتخب ممثليه للحكومة وهم أساساً ضد أية اتفاقات مع الفلسطينيين مهما كانت مجحفة بحق الفلسطينيين، وبالتالي هذه العمليات شكلت دافعاً لرفض ما وقعت عليه الحكومة الصهيونية، وسمي اتفاق أوسلو والتفوا على كل ذلك بخبث وتنصل وذرائع أوصلتهم إلى الإعلان عن عقم الاتفاقات مع الطرف الفلسطيني، فانتخاباتهم المتلاحقة في كل دورة تأتي بمن هم أكثر تشدداً وتطرفاً ورفضاً لكل ما هو فلسطيني، وتعطلت الاتفاقات عدة سنوات في ظل حكم اليمين، علماً أن تقدماً حصل على صعيد إعادة الانتشار في مدينة الخليل والتي أعيد تقسيمها بعد تسلم بنيامين نتنياهو رئاسة الحكومة، وبعد وقت استعاد حزب العمل الصهيوني الحكم وكان حينها رئيس الحكومة أيهود باراك هذا المجرم القاتل الملوث بدماء الفلسطينيين، أجرى مفاوضات كان المفروض أن تسفر عن إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس وحق اللاجئين بالعودة، أي قضايا الوضع النهائي بعد مرور خمسة أعوام على توقيع اتفاق أوسلو بمرحلته الأولى، فشلت المفاوضات التي رعتها أمريكياً من خلال رفضهم لإقامة دولة فلسطينية ورفضهم التسليم بالقدس عاصمة لها وطبعاً هم لم يقروا يوماً بحق العودة سوى من عادوا من رجالات المنظمة المتفقين مع أوسلو، وعددهم لم يصل إلى نصف مليون وما يزال وضعهم غير ثابت أو مستقر على أرض وطنهم، ففشلت مفاوضات كامب ديفيد الثانية لأن الأولى تلك التي وقعها السادات وعقد من خلالها صلحاً مع الكيان الصهيون وأخرج نفسه من حلبة الصراع العربي الصهيوني، هذه النتائج للمفاوضات شحنت الأجواء جداً واقفلت الطريق بين فريق أوسلو والحكومة الصهيونية، مع الأخذ بالاعتبار أن الأعمال الفدائية المقاومة للاحتلال لم تتوقف وإن خفت حدتها، حيث مارس الاحتلال عمليات الاعتقال وطلب من السلطة الفلسطينية وفقاً للاتفاق أن تعتقل من هم في نطاق مسؤوليتها الأمنية وفعلاً زجت بالعشرات من أبناء شعبنا بسجون السلطة فيما الآلاف بسجون العدو، وبدأ دور السلطة ينكشف لأبناء شعبنا أنها متواطئة مع الاحتلال وبعض أفرادها لم يتذرعوا عن إطلاق الرصاص على المتظاهرين من أبناء جلدتهم، وعن الاعتقالات حدث ولا حرج لم يتركوا أحداً إلا زجوه بالسجون خاصة القيادات، معظم قيادات حركتي حماس والجهاد، والعديد من الرفاق وفي طليعتهم الأمين العام أحمد سعدات والذي اختطفته القوات الصهيونية من أحد سجون السلطة ومعه رفاق وأخوه وما يزالون بالاعتقال حتى كتابة هذه السطور.
في هذه الأجواء التي تابعها الأسرى في سجون الاحتلال وقبلها حين كان الاعتقاد بإمكانية التوصل لاتفاق وإقامة دولة فلسطينية وتحرير كافة الأسيرات والأسرى، جدير الإشارة إلى أن عدد الأسيرات كان بعد تحرير بعضهن قرابة سبعة عشر أسيرة، يقبعن في سجون الاحتلال، أبدى استعداداً لإطلاق سراحهن باستثناء أربعة أسيرات قالوا أن أياديهن ملطخه بدماء اليهود، فأخذن كل الأسيرات موقفاً مميزاً حظي على الاحترام من قبل كل أبناء شعبنا، إن رفضن الإفراج إلا إذا شملهن جميعاً، حاولوا اخراجهن بالقوة من الغرف بلا فائدة، حيث كن يغلقن الأبواب أمام السجانات والسجانين ويضعن كل محتويات الغرف خلف الباب، استمر رفضهن لأكثر من عام ونصف حتى أذعن الاحتلال وأطلق سراحهن جميعاً دفعة واحدة، وكان هذا حدثاً مشرفاً تمنى الأسرى لو يستطيعوا اتخاذ موقف مثيل له.
كان قد سبق أيضاً مفاوضات كامب ديفيد الاتفاق على تحرير عدد من الأسرى بمواصفات لو تم تطبيقها لتحرر غالبية الأسرى الذين تم تصنيفهم بذوي الملفات الحمراء أي (أياديهم ملطخة بالدماء)، أي ذوي الأحكام المؤبدة، فكأن المناضل الذي يتسلح بحق أقر عالمياً (حق الشعوب في مقاومة الاحتلال)، هو عمل إجرامي، مع أن العالم لو يقاضي الاحتلال الصهيوني سيحكم عليه بالإعدام لكثرة جرائمه بحق شعبنا وأمتنا، أسفرت تلك المفاوضات بما يتعلق بالأسرى إن اتفقوا على إطلاق سراح من تبقوا من أسرى أحكامهم مؤبدة وأقدموا على تصفية عملاء أو محكومون بعشرات السنوات، ومنهم الأسرى العرب أو من كان يتم تعريفهم بأسرى الدوريات، وتم الإفراج عنهم في 9/9/1999، وهذا يقود للحديث عن أسرى الدوريات، بعضهم من سوريا وآخرون من لبنان وبلاد عربية أخرى، امضوا سنوات طويلة بالسجون الصهيونية، كانوا خلالها محرومون من زيارة ذويهم، اقتصرت صلتهم بأهاليهم عبر الرسائل كل عدة شهور مرة واحدة، فما كان من رفاقهم الأسرى إلا أن شاركوهم زيارات أمهاتهم، وفعلاً تعرفوا على الأهالي وخاصة أمهات الأسرى وانتظموا بزياراتهم، حتى وصل الأمر أن قمن بتبنيهم، من نماذج الأمهات أم جبر وشاح، وأم إبراهيم بارود، ووالدة سعدي عمار، وأم نمر شعبان، ووالدة سامر المحروم.. وغيرهن ممن تفانين اتجاههم ولم تفرقن أياً منهن بين ابنها التي انجبته وبين ابنها المتبنى، لم يتوقف هذا حتى تحريرهم بل استمر بعد الإفراج عن الأسرى وحتى وفاة بعضهن، وأطال الله بعمر الباقيات، لقد ضربن مثلاً لا سابق له بمثل هذا الشكل الجماعي من قبل، وفي مضمونه تعبير عن الوطنية وحب التضحية والفداء من الأم وابنها.
ما قبل فشل اتفاق كامب ديفيد أيضاً، تسجل موقف أو مشهد لم يسبقه ولم يأتِ مثله لغاية الآن، وهو عقد قران الرفيق وليد دقه على المناضلة سناء سلامة، كتتويج لعلاقة حب استمرت عدة سنوات، حيث أن صاحبنا الذي تربطه علاقة وثيقة بوليد، والأخير كان يطلعه على علاقته مع سناء التي كانت تقدم مساعدات لكل من يحتاج من الأسرى سواء بزيارة ذوي هذا أو ذاك، أو أي شيء يتصل بقضية أي أسير، وفي إحدى الفورات تناقشا حول جدوى هذه العلاقة وماّلها، ولأن وليد يمتلك قدرات اقناعيه ليس لرفاقه وحسب، وإنما يمارسها على الأعداء أيضاً، فامتد تأثيره على نائب مدير السجن، الأمر الذي سهل إمكانية تحقيق ما عمل لأجله وليد طوال الفترات الماضية، فقدم طلباً لإدارة السجون بعمل حفلة عقد قرانه داخل السجن، واستغرق هذا وقتاً، وقابل مدير السجن ونائبه مراراً، ثم جاءه أحد ضباط إدارة السجون ليستوضح الأمر منه، ويجد أن الطلب لا يتخالف مع سياسة إدارة السجون، علماً أن الأسرى اليهود يعطونهم حق الزواج وليس فقط عقد القران، بالإضافة إلى حقهم بالخروج للبيت يوم أو يومين، وكثيرون ممن تزوجوا من أسرى اليهود أنجبوا أطفالاً.
وبعد عدة لقاءات ورسائل تمت الموافقة وترتيب شكل وتفاصيل عمل الحفلة، من حيث التاريخ والمكان الذي تقرر أن يكون في نادي الضباط بالسجن، وسماح إدارة السجن بإدخال طقم (بدلة) للعريس يلبسه فترة الحفلة ويتصور به مع عروسه ومع الأهل والأسرى والأقارب وكل الحضور، كان تقدم وليد بقائمة أسماء من الأسرى للمشاركة، مؤلفة من ثلاثين اسماً، تمت الموافقة على خمسة عشر فقط منها، والموافقة على خمسة عشر من أهله وخمسة عشر من أهل العروس، بالإضافة إلى المأذون الذي كتب الكتاب، صاحبنا كان واحداً ممن حضروا العرس (كتب الكتاب)، يوم الحفلة وصل أهل العريس والعروس في باص أقلهم، بينما جاءت العروس بلباس العرس بسيارة خاصة مزينة تماماً بزينة الأعراس، تحضر وليد ولبس لباس العريس وتزين، اصطحبه سجان إلى باب السجن الخارجي بلباسه والتقى العروس على باب السجن من الداخل وكان يرافقهم مصور مع (كمرته)، التقط لهما العديد من الصور، وركبا السيارة ومن خلفهما كان الأهل يزفونهما حتى مكان الحفل، كان الأسرى الخمسة عشر باستقبال العرسان والأهل جميعاً، بعد أن تم ترتيب المكان المزين بالورود وتحويله لمكان يليق بحفلة عرس، تم ترتيب الكراسي والطاولات، وطاولات عليها أصناف من الحلويات والأطعمة، وشرعت الزغاريد تهز الأرجاء وتعلو حتى سمعها الأسرى في أقسام السجن، شيء لا يصدق التقاء الأهل مع الأسرى ولا يظهر السجانون بالحفلة أو مع قافلة العريسان وهما قادمان من بوابة السجن حتى موقع الحفل، كان هناك تعاون من قبل إدارة السجن، انقضت ساعتان هي كالحلم، التقطوا صوراً مع العرسان ومع الأهل وصوراً ثنائية وجماعية، وجلسوا يغنون ويدبكون، يذكر صاحبنا أنه جلس إلى جانب والدة وليد التي يعرفها وتعرفه، حيث قبل فترة قام عدد من أهل وليد ومعهم سناء بزيارة إلى بيت صاحبنا وأسرته، كان يغطي محيا والدة وليد بعض الحزن أو القلق التي يخاطبها صاحبنا بأمي (يما)، وهي تقريباً تعرف معظم الأسرى وليس صاحبنا فقط، جلست إلى جانبه، بارك لها عرس وليد، فقالت له: (يا خالتي بالك رح يصير حقيقي هذا العرس، ولا فقط زيارات من وراء الشبك؟)، قال لها: ليشجعها ويجعلها تفرح، ولو خلال هذه الحفلة ولا يدعها تفكر بأمور أخرى، إن هذا حقيقي وما هو إلا مقدمة للفرح الكبير بتحرير وليد وزفافه، في بيته ووسطكم جميعاً، قد يحتاج في أحسن الأحوال سنة ونصف، ويكون وليد محرراً ويستكمل مع زوجته العرس في البيت، تنهدت أم وليد وقالت: يا رب يكون كلامك صحيح، انتهى وقت العرس وودع الأسرى، أولاً الأهل والعروس بصورة كل أسير مع العروسين، وعادوا إلى أقسام السجن كأنهم كانوا في حلم، وودع وليد أهله وزوجته وعاد للقسم، ووزع الحلوى على كل الأقسام، فشاركه كل الأسرى فرحته أو فرحتهم، بعد أسبوعين تقريباً أحضر أهل وليد أشرطة الفيديو، وتم بثها على شاشات التلفزيون بكل الغرف، والكل فرح لوليد وسناء.
مضى عشرين عاماً على عقد قران وليد وسناء حتى اكتملت علاقتهما بإنجاب سناء لطفلتهما ميلاد عبر نطفة مهربة، واكتملت فرحتهما بميلاد التي بثت إشعاعاً من الفرح لدى كل من عرف وليد وسناء، وكل من يتعاطف مع الأسرى في سجون العدو، وها هي ميلاد تكبر وتزور والدها الذي قال بأول تعليق بعد ولادتها: أصبح أسمي جملة مفيدة (ميلاد وليد دقه)، وليد منذ أكثر من عام يعاني من مرض السرطان، ويكافح بكل صلابته للانتصار على المرض مثلما انتصر على السجان بصموده وذكائه، الآن يعاني وليد من الحقد الصهيوني الذي يحاولون حرمانه من العلاج والدواء، لكن الإيمان قوي بأن يتحرر وليد بأقرب فرصة، وبأول صفقة ليعانق ميلاد وسناء ووالدته التي أصيبت بمرض الزهايمر ولم تعد تعرف إلا القليل.
يتبع….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى