من الأسر
الأسير المحرر أحمد أبو السعود
عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
النهار الأخير الذي أمضاه صاحبنا في أحد أقسام سجن النقب استعداداً للحرية، قضاها مع أصدقائه ورفاقه الذين لم يلتقيهم سنوات مضت، فكان لقاء على طريق الوداع الطويل، فكل سيمضي إلى بيته ومكان سكنه، وهوكان معتقداً بأنه سيتحرر ويعود إلى بيته، رغم أن ما يشغل باله هو الإضراب، حيث يطلبونه إلى لقاء هذا الضابط أو ذاك، وهو مضرب لا يتناول سوى الماء، كان يتمشى مع مجموعة من أصدقائه ومن بينهم أحد أسرى فتح، فبادره هذا الشاب من فتح ليقول له أنا الوحيد مبعد عن فتح، وأنت الوحيد مبعد عن الجبهة الشعبية، فرد عليه صاحبنا أنا لست مبعداً ولم يخبرني أحد بذلك، وتحولت نفسيته إلى امتعاض، ما هذا الهراء، كيف سيتم الإبعاد ولماذا؟ فسأل عن ابن مجموعته إن كان منوي إبعاده، قيل له، فقط أنت من أسرى الجبهة، عدا عن عدد من الرفاق مبعدون إلى قطاع غزة، ما هي إلا ساعة أو أكثر حتى حضر مندوبو الصليب الأحمر إلى ساحة القسم حيث يتجمع الأسرى، والتفوا حول مندوبي الصليب كل له استفساراته، كان صاحبنا ممن اقتربوا ليستفسر إن كان فعلاً سيتم إبعاده إلى خارج الوطن، لكن قبل أن يصله الدور بالسؤال نادى على اسمه مندوب الصليب، أجابه بنعم، فأخبره بأنك مبعد إلى خارج فلسطين، اهتز من وقع التأكيد وأستاء كثيراً، فأحلامه على مدى ربع قرن أن يعود إلى بيته وعائلته، لكن هكذا انتهى به الأمر، في الليل جاءه اتصال عبر ضباط الإدارة بأن عليه أن يتحدث إلى وائل، الذي أخبره بأن الرفاق أوقفوا الإضراب بناء على التفاهم الذي تم، وكان إلى جانب وائل الرفيق كميل فحياهم وحمّلهم السلامات إلى الرفاق، وأخبرهم عن الرفاق المحررين ومن هم مبعدون إلى غزة، وبأنه الوحيد المبعد من الرفاق إلى خارج فلسطين، أحضروا حليب للمضربين من الرفاق، وشرب كل واحد كأس حليب وكان منهم الرفاق علام، وحمزة، ولؤي، وسامر وغيرهم، بعد المساء بقليل بدأ ضباط الإدارة يطلبون الأسرى المنوي إبعادهم كل إلى خيمة لإجراء مقابلة، طلبوا ممن التقوهم أولاً للتوقيع على ورقة لم يعد صاحبنا يتذكر فحواها، فرفضوا وعادوا، ثم جرت اتصالات مع القاهرة، حتى تخلى الضباط عن التوقيع على الورقة، وحين وصل دور صاحبنا كانت الساعة تقارب الثانية صباحاً، دخل إلى الضابط والأخير بدأ يساله عن أسمه وعائلته ومعلومات اجتماعية وحين وصل السؤال هل لديك أولاد؟ فرد صاحبنا نعم عندي أولاد. فبادره الضابط، كذلك الضابط الذي قتلته له أولاد.. فما هو شعورك وأنت ستذهب لأسرتك وهو مات ولن يعود إلى أولاده؟ نظر صاحبنا إلى الضابط وقال: كم من أبناء شعبنا قتلتم وتقتلون يومياً، ومن يقتل منكم لا يدخل السجن، فهل سيعود من قتلتوهم إلى أبنائهم، ومنهم شقيقي شهيد حتى أنا لا أعرف شيئاً عن أولاده، صمت الضابط وأكمل تعبئة الاستمارة، وطلب إلى صاحبنا أن يعود إلى القسم.
بعد أن أنجزوا المقابلات لعموم الأسرى، طلبوا منهم تحضير أنفسهم للخروج، وفعلاً حضرت باصات صهيونية وحملت الأسرى وفق قوائم الأسماء، المبعدون إلى قطاع غزة أخرجوهم أولاً، ثم في الفجر خرج المنوي إبعادهم إلى خارج الوطن وهم لا يزيد عددهم عن حمل باص أي بحدود الأربعين أسيراً، وفي ساحة كبيرة تتجمع فيها الباصات، نزل المنوي إبعادهم ومنهم صاحبنا ونقلوهم إلى باص مصري، وفيه ضباط مخابرات مصريون، وهذه هي المرة الأولى يصعدون إلى باص بدون كلبشات أي بدون أصفاد بالأيدي والأرجل، إذن هي الخطوة الأولى نحو التحرر، كان صاحبنا منشغلاً طوال الوقت في فكرة أنه سيتم طرده خارج فلسطين، وبأنه لن يعود إليها، يتساءل: معقول أنه لن يعود إلى أرض وطنه.. إلى بيته.. وإلى أهله وأصدقائه؟ معقول لن يرى شوارع نابلس وحواري بلدته؟ من حوله كان الآخرون من الأسرى في غاية السعادة والفرح، كانوا أخبروا صاحبنا أن الدول التي سوف تستقبل الأسرى هي قطر وتركيا، وهذا زاد الضغط عليه أكثر، إذا اختار قطر فماذا سيفعل هناك؟ وإذا اختار تركيا هل هو بوضع يمكنه أن يتعلم لغة جديدة؟ باختصار كان منزعجاً ويعبر عن ذلك للمقربين إليه.
تحركت الباصات كل إلى وجهته، والباص الذاهب إلى خارج الوطن أخذ وجهة أخرى، بعد بعض الوقت وإذا بهم على الحدود المصرية، والجنود الصهاينة بوضع قبيح مستاؤون لأن الأسرى سيتحررون، فزادهم الأسرى بأن أطلقوا عليهم الشتائم والإشارات الاستفزازية، مع ذلك صاحبنا وهو يفكر هي لحظات وأغادر أرض الوطن، فهل حقاً لن أعود إلى أرض فلسطين واغادرها الآن إلى الأبد؟ حين سار الباص على الحدود ومن شدة الانفعال سالت دموعه على وجهه، فغطى وجهه وهو ينظر إلى خارج الباص كي لا يراه أحد، خاصة أنهم في قمة سعادتهم، سار الباص ساعات.. وساعات حتى قطع صحراء سيناء، وعلى أبواب القاهرة، توقف الباص وإذا بالأخوين الشهيدين صالح العاروري، ومحمد الجعبري يصعدان إلى الباص، فكان أول لقاء وهما معروفان لجميع الأسرى، تعانقوا وساروا حتى فندق قريب من مطار القاهرة، أخبروا هذين الشهيدين المحررين إصرار الاحتلال على رفض سعدات والبرغوثي، ومعلومات أخرى حول التفاوض والصفقة، حطوا جميعاً في الفندق وإذا بعدد من قيادة حماس ينتظرون، فعملوا مؤتمراً صحافياً في الفندق، وسلموا كل أسير جواز سفر فلسطيني صادر من رام الله، وأخبروهم أن ثلاثة دول استعدت لاستقبالهم أضيف إلى قطر وتركيا سوريا، فانفرجت أسارير صاحبنا، وقال: سجلوني إلى سوريا، وفعلاً كان اسمه الأول بالقائمة إلى سوريا، حيث كان في بداية سبعينات القرن الماضي قد حضر إلى سوريا وتلقى تدريبات عسكرية ويعرف جمال الشام وطيبة أهل سوريا، عدا عن أن له أقارب، وخاصة أبناء شقيقه الشهيد الذي لم يلتقيهم طوال حياته، والأكثر من ذلك أن الجبهة تتواجد في سوريا، بينما لا يمكن أن تتواجد في تركيا، أو قطر، طبعاً تكون الثورة والنضال أكثر حيثما تكون المخيمات، كل هذا وصاحبنا ما يزال مضرباً ولم يتناول أكثر من كأس حليب، في الفندق أحضروا للأسرى عشاء، لكن صاحبنا طلب حليب أو شوربة، ولم يقدموا له شيئاً، وانتقلوا إلى مطار القاهرة، ومن هناك إلى مطار دمشق الدولي، لم ينفعل صاحبنا من رؤية القاهرة على الأقل بالشوارع التي سلكها الباص، لم تترك لديه أي أثر، فكان يعتقد أنها أكثر تطوراً مما هي عليه، حطت الطائرة بمطار دمشق، وكان باستقبال المحررين أعداد من الناس، قيادات الفصائل، وجمهور وإعلام، كان الاستقبال حاراً، صاحبنا يحمل حقيبة صغيرة وكل ما كان يخشاه أن يسقط على درج الطائرة أمام الناس لأنه من أثر الإضراب، وعناء السفر غير قادر على التوازن، لكنه نزل ممسكاً بأطراف السلم ووصل حيث الاستقبال، والكل يسلم عليهم وكان له لقاء على التلفزيون السوري، ثم إلى الفندق المعد لاستقبالهم وهنا فاتني القول أن عدد من حضروا إلى سوريا ستة عشر محرراً، أمضوا عشرة أيام خلالها أصاب صاحبنا أوجاع شديدة جداً، مما اضطره للدخول إلى المشفى لبضعة أيام وذلك نتيجة للإضراب، حيث لا يتوفر الغذاء المناسب والعناية المناسبة لواحد مضرب لأكثر من 23 يوماً، وصلوا للفندق في ساعات الصباح الأولى، وجد في الغرفة تلفزيون فأشعله، وإذا بنشرة أخبار تظهر صور المحررين وهم ينزلون من على سلم الطائرة، فشاهد نفسه وفوجئ من ملامحه وعيونه التي تدخل في حفر، يكاد لم يتعرف إلى وجهه، فقام إلى الحمام لينظر بالمرآة حيث منذ قرابة الشهر لم يرى وجهه، تعجب من الأثر الكبير الذي خلفه عليه الإضراب، فقد كانت بالنسبة له معركة قاسية جداً، لكنه أدارها بجدارة ولم ينهزم أو يتراجع أمام أعدائه، في السادسة صباحاً خرج من الغرفة إلى باب الفندق ثم إلى الشارع، ليرى سيارات كثيرة تذهب باتجاهين متعاكسين، فسأل كيف أعرف إلى أين هذه ذاهبة وتلك من أين قادمة؟ ثم أجاب نفسه قائلاً: بعد سنة حتماً سأعرف من أين وإلى أين وعاد إلى غرفته.
رحلة ربع قرن وأكثر حملت ما حملته من عناء وحرمان وقهر وحقد على الأعداء، بالمقابل حب وشغف وأمل وتوق للحياة، نالها صاحبنا، وبكل ألم حُرِمَ منها ممن ارتقوا شهداء من الحركة الأسيرة، فكم هو موجع أن يحلم كثيراً جداً الأسير ويستشهد.. قبل أن يحقق شيئاً من أحلامه، لكن في نهاية المطاف من يختار طريق الكفاح والنضال يكون حسم أمره بالتضحية من أجل الوطن أرضاً وشعباً، فلا حرية لوطن بدون ضحايا وآلام وأوجاع، فالوطن يستحق منا التضحية والتسامي على الجراح والأحلام الصغيرة ولا حلم إلا تحرير الوطن من الأعداء، ها هو شعبنا جيلاً وراء جيل يقدم الطفل والشيخ والمرأة والبيت ويقضي عمره بالسجون لأجل حرية الوطن.