تحليلات و آراء

مِنَ الأسر

الأسير المحرر أحمد أبو السعود
عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

التقى ممثل الأسرى مع مدير السجن وطالبه بتنفيذ وعده الذي قطعه بنقل أسرى لتخفيف الازدحام لكن المدير قال أن هناك ضغطاً عليه من قبل إدارة السجون بسبب وجود أسرى كثيرين، لا يوجد مكان لوضعهم فيه وعلى الأسرى أن يتفهموا ذلك، لم تفلح كل المحاولات لثني الإدارة عن تعنتها بإدخال الأسرى الجدد، الأمر الذي دفع لجنة التمثيل الاعتقالي لاتخاذ موقف حاسم برفض ادخالهم مهما أدى ذلك، وكانت الإدارة قد سمحت للأهالي بالزيارة، وقد صادف هذا يوم زياره للمعتقلين من قبل أهاليهم، لكنها على ضوء تسلمها رسالة من ممثل المعتقلين الذين يعلنون رفضهم فيها الموافقة على إدخال الأسرى، فاضطرت إدارة السجن إكمال زيارات الأهل، وما إن انتهت الزيارات حتى أقفلت الأقسام وأعلنت عن حالة طوارئ بالسجن، وشرعت بإبلاغ قيادة تنظيم فتح وكل قيادة تنظيم الجبهة الشعبية أي عشرة أسرى بمن فيهم ممثل المعتقل، وتم اخراجهم الى غرفة الانتظار للنقل من السجن معتبرين أنهم من اتخذوا القرار برفض استقبال الأسرى الجدد، وفعلاً تم اخراجهم واحداً واحد، بحدود الساعة الواحدة أو أقل انتهت زيارات الأهل وغادروا السجن ولم يعد هناك من يعرف شيئاً عما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع .
خلال الفترة التي كانت فيها الزيارات قائمه كانت إدارة السجن قد استدعت فرقاً من قوات القمع بالمئات وتمت محاصرة الأقسام وهي بطبيعة الحال مقفله، وحاولوا ادخال الأسرى الجدد بالقوة، إلا أن الأسرى كانوا قد تحصنوا وربطوا الأبواب بما تيسر لهم من أدوات في الغرف التي قدم إليها السجانين المدججين بالعصي وقنابل ومدافع الغاز لإدخالهم بالقوة، واجهوا صداً ورداً عنيفاً حيث لم يتمكنوا من فتح أية غرفه بسبب ما ألقاه عليهم الأسرى من كل الغرف من أغراض وأشياء وخاصة الماء الساخن، والصراخ وكيل الشتائم، والضرب على الأبواب فاضطروا للتراجع دون أن يتمكنوا من ادخال أي أسير، بذات الوقت فقد ألقوا الكثير من قنابل الغاز بكل قسم وخاصة على أبواب الغرف، ظناً منهم أنهم بالجولة التالية سوف يحققوا نتيجة، لكن جاءت المرة التالية أكثر شدةً وصراخاً وطرقاً على الأبواب، وهربوا مرةً أخرى، وألقوا المزيد من قنابل الغاز حتى باتت الغرف والأقسام تعبق بالغاز، وجاءت المحاولة الثالثة بعد أن أغرقوا الغرف بالماء والغاز، وهنا نشير الى أن الماء والغاز حين يلامس جسد الإنسان يكون أكثر حرقاً وأكثر إيلاماً ويهترئ الجلد ،عدا عما أصاب الكثيرين بأضرار بالعيون، وكان هناك أعداد من المرضى الذين تجرعوا الغاز وتم إخراجهم فيما بعد على النقالات لصعوبة أوضاعهم الصحية.
جولات وصولات السجان كانت بلا جدوى وتمكنت عدة غرف من كسر الأبواب والخروج إلى مردوانات الأقسام، وهذا جعل مدير السجن يفقد عقله ومعه قائد المنطقة ولفيف من ضباط إدارة السجون، فأخذ مدير السجن يصرخ على الأسرى عبر مكبر الصوت أن يدخلوا إلى الغرف وإلا فسوف يستخدموا الرصاص الحي، بالبداية لم يستجب الأسرى للتهديد، لكن جاءهم الأمر من أحد الأسرى بأن يدخلوا للغرف، وفعلاً دخلوا، لم يتمكن السجانون من تحقيق هدفهم بإدخال الأسرى الجدد عنوة، فما كان منهم إلا القاء المزيد من الغاز بعد أن أحضروا فرق أخرى من قوات القمع، وقد نجحوا بعد أن صبوا كميات كبيره من الغاز أفقدت الأسرى بالغرف المستهدفة وعيهم حينها فقط تمكنوا من فتح باب الغرفة وإدخال الأسير الجديد الذي لاقى من العذاب الكثير لأنه يتلقى الغاز ويتلقى الضرب من السجانين، فهم يعتقدوا أنهم غير مرغوب فيهم لذاتهم، فخافوا من الأسرى أن يفعلوا بهم شيئاً، ما أن استعاد الأسرى وعيهم ووجدوا الأسير الجديد حتى بات يشرح لهم أنه لم يفعل شيئاً ويبرر وجوده المفروض، فطمأنه الأسرى أنه مرحب به وأن مشكلة الأسرى مع إدارة السجن وليس معه، فالأسير الجديد مناضل عزيز ومرحب به من قبل الأسرى القدامى، لكن الوضع كان كارثياً جداً، الغرفة والملابس والفراش كلها مشبعة بالمياه من الخرطوم المستخدم للطوارئ كخرطوم الإطفاء تماماً، حالهم كان فظيعاً وهذا في أوج البرد في بداية عام 1992.
نعود إلى العشرة الذين أخرجوا من العاشرة صباحاً وبقوا في غرفة الانتظار حتى منتصف الليل محشورين بلا ماء ولا طعام ويتسرب الغاز إليهم، ولا يعرفون ما يدور بالسجن لأن غرفة الانتظار كانت بعيده نسبياً عن الأقسام، حين انتهت إدارة السجن من ادخال الأسرى وتحول السجن الى قلعة تتصاعد من أقسامه وغرفه الغازات الخانقة، فقد أعلنوا ليلتها بالأخبار عبر التلفاز عن هذا الحادث وأن السكان المجاورين للسجن قد قدموا شكوى للشرطة من آثار الغاز التي وصلت إلى بيوتهم، صاحبنا كان واحداً من العشرة وهذه المرة الثانية التي يواجه فيها عمليات القمع الجماعي بالغاز، هو واحد من القيادات المنوي نقلها.
وطبعاً رجال المخابرات بالسجن ينقبون بملفات الأسرى ويعرفون قضاياهم تفصيلاً وكلما كان الأسير صاحب عمليات أدت الى تصفية جنود أو مستوطنين يوضع الأسير محط قمع أشد وأكثر، ما إن انتهوا من الأقسام حتى حضرت فرقه القمع المدججة بالغاز والعصي ورؤوسهم مغطاه بالخوذ، بدوءا يخرجون الأسرى واحداً واحد، لكن بين الواحد والأخر بعض الوقت، وكلما تناقص العدد تصل أصوات الصراخ، يعني أنهم يفرغون حقدهم بالأسير الذي يخرجونه، بعد أن ينفردوا بهم واحداً تلو الأخر، تم اخراج الجميع وكان صاحبنا أخر من تبقى بالغرفة، فدخل عدة سجانين إليه ومارسوا حقدهم بالعصي وما تيسر لهم من أدوات قمع، وهو يحاول أن يتجنب الضرب دون جدوى، يحمل أغراضه كي يخرج من الغرفة، أخيراً اخرجوه فما إن وصل لباب المدخل المؤدي للغرفة حتى تلقى لكمة قوية على فمه ما جعل الدماء تتدفق غزيرة من فمه وأنحاء وجهه، وبعد أن حظي بالنصيب الأكبر من الضرب حملوه بعد أن اسقطوه أرضاً هو وأغراضه وألقوه بأرضية سيارة جيب عسكريه وجاء فوق اثنين من زملائه، والسجانين الذي جلسوا على الكراسي على حافتي الجيب وجدوا لهم تسلية ممتعه فأخذوا بشتم الأسرى والقيادات الفلسطينية، تمرغت العصي بدماء الأسرى، وحرقوا أجسادهم بالسجائر ونكلوا بهم شر تنكيل.
أنها مسافة ساعة سفر بين سجن عسقلان وسجن بئر السبع، وفي داخل السجن بمدخل قسم زنازين العزل في ساعات الصباح الأولى ينتظر سجانو بئر السبع العطشى للانتقام وإفراغ الحقد الدفين لديهم، توقع صاحبنا أن يمسكوه من قدميه ويجروه كي يسقط كالكيس، فسارع بأن سحل سريعاً قبل أن يجروه ففوت عليهم الفرصة، لكن للأسف الأخوين الأخرين لم ينتبها فأسقطوهما على ظهورهما ما أوقع بهم أوجاعاً بالظهر امتدت لشهور، أدخلوا إلى مدخل القسم، وهناك حاول السجانون استكمال الضرب لكن الضابط نهرهم بأن يتوقفوا، تم تشخيصهم ومناداتهم بأسمائهم وصادروا كل الأغراض التي يحملونها وأدخلوا كل واحد إلى زنزانة منفرداً .
حصة صاحبنا زنزانة بمنتصف القسم لا يوجد فيها أي ضوء، ولا يوجد في بابها فتحة، إذ عادةً ما تكون فتحة لإدخال الطعام أو الماء أو الدواء، تحسس الجدران وقدر أن طول الزنزانة أكبر بعشرة أو خمسة عشر سنتيمتراً عن فرشة الإسفنج، تحسس الأرضية فوجد فرشة إسفنج لكنها مشبعة بالماء، وكذلك كل الأرضية مليئة بالماء لسبب بسيط أن أرضية الزنازين منخفضه عن رضية الصالون فكلما نظفوا الصالون أو كبوا فيه ماء تسرب إلى وسط الزنازين، ما العمل بوضع كهذا؟ خاصة أن أوجاعاً شديدة ونزيفاً من فمه وآلاماً حادة بصدره، حاول مناداة السجان فتلقى سيلاً من الشتائم وتهديداً بإخراجه وضربه، حاول أن يمشي فلم يستطع من شدة الألم، حاول أن يقف نفس الشيء، رفع الفرشة وأوقفها على جانب الحائط، وأخذ يتمشى لكنه لم يستطع فجلس قبالة الفرشة وأسند ظهره للحائط، يتحسس الدماء التي تنزف من فمه، كان يلبس سطرة فخلعها، وبمنتهى الصعوبة خلع ملابسه العلوية ليصل إلى الشباح فخلعه وأعاد ارتداء ملابسه رغم شدة البرد، الهدف من وراء ذلك أن يوقف نزف الدم من فمه وفعلاً بوضع اللباس الداخلي العلوي على الجرح بشفته العلوية تمكن من إيقاف النزيف بعد بعض الوقت، لكن ألم شديد يضرب برأسه وكل أنحاء جسده وخاصة أسنانه التي تعرضت للكمة القوية، وكان أحد أسنانه يتحرك فاعتقد بأنه سيفقده، كيف مضى الوقت الله أعلم.
لكن جاء الصباح وجاء عدد الصباح ففتحوا الباب وعده طاقم العدد وأعادوا قفل الباب، بقي على حاله حتى التاسعة صباحاً تقريباً، فإذا بالباب يفتح وكان ممرض يقف بالباب، داخل الزنزانة المعتمة فطلب منه أن يخرج لعند الباب، وما إن خرج صاحبنا للضوء وشاهده الممرض حتى صرخ ما هذا، أعاده للزنزانة وطلب من السجان أن يعيد اغلاقها، وخرج من القسم مسرعاً، لم يفهم صاحبنا شيئاً، ولم يرجع الممرض.
حضر بعد حوالي ساعه السجان وطلب منه الخروج فكان بانتظاره سجان أخر ساقه إلى مكان ليس بعيداً عن قسم الزنازين، يسمى عيادة السجن، أُدخل إلى غرفة الطبيب فتبين أن عيونه مقفله من الورم ويتفشى فيها الدم ووجهه ملون بالأزرق والأحمر، قام الطبيب بفحص عيونه وأحاله الى طبيب العيون لإجراء فحص لعيونه بمشفى خارج السجن، طلب صاحبنا من الطبيب أن يعطيه دواء لتخفيف ألم الأسنان ويعالج فمه فقال له بعدين، المهم أعادوه الى الزنزانة، بدون أية علاجات ولا دواء رغم آلام الصدر فهو للمرة الثانية يتم كسر أضلاعه من قبل السجانين، بالمساء حضر ضابط الأمن في السجن ومعه فريق من السجانين، اصطحبوه بعد أن قيدوه بالأرجل وبالأيدي وبيد سجان يلازمه بالسير، أخذوه بسيارة السجن إلى المشفى ليعرضوه على طبيب العيون ويعملوا له فحصاً عبر جهاز للعيون فتبين أن ما أصابها شيء خارجي وأن عيونه 6 على 6 ما أغاظ الضابط وأخذ يشتمه ويقول له لديك فرصه للهرب أهرب، طبعاً يقصد حاول أن تهرب لإعطائهم فرصة لقتله.
كانت رحلة مريره، لكنها أغاظتهم، أعيد الى الزنزانة وأمضى هناك أسبوعين محروم من كل شيء سوى طعام بائس وسيء، وأعيد له بعض أغراضه واستبدلت الفرشة بأخرى ناشفه، ثم بعد أسبوعين تم اخراجه إلى أحد الأقسام بالسجن، وزملائه تم توزيعهم على الأقسام، كان هو أكثر من تعرضوا للضرب وإلحاق الأذى، غير أنه عصي على الكسر وتحمل الأوجاع وشفي مما أصابه وعاد بكامل قوته كما كل الأسرى الذين يتعرضوا للتنكيل والعنف الاجرامي الصهيوني.
يتبع….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى