تحليلات و آراء

مِنَ الأسر

الأسير المحرر أحمد أبو السعود
عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

من أقسى الأشياء على الأسير انعدام الاستقرار، وهذا يترجمه السجان بعمليات النقل شبه المتكررة بشكل عام والكثيرة لبعض الأسرى الذين يعتقد أنهم محرضون، في فترات كانوا يحددوا ستة أشهر أو في بعض الأحيان ثلاثة أشهر لأسرى معينين، ليس هذا فقط وإنما هناك النقل بين الأقسام وبين الغرف، أما المجال الأخر والهام لعدم جعل الأسير يستقر فهو التفتيشات اليومية للأقسام والغرف، والعدد اليومي للأسرى ثلاثة مرات يومياً وبينهما مرتان يعتبرونه تعداد للأسرى وفحص للشبابيك والأبواب والأرضيات والجدران.

كانوا بالأوقات السابقة يفحصون بوجود الأسرى بالغرف، لكنهم منذ عقدين أكثر أصبحوا يخرجون الأسرى إلى الغرف التي تم فحصها، ما يتيح لهم إجراء تفتيش سريع لحاجيات هذا الأسير أو ذاك، باختصار لا يستطيع الأسير أن ينام بالنهار إلا إذا ما أراد ذلك، فعليه أن يتقبل إيقاذه من النوم للفحص أو التفتيش أو أي أمر أخر، هذه الأجواء اليومية تثير الأعصاب وتضغطها حد التوتر، فبعض الأسرى يفرغ توتره بضرب سجان أو شتمه أو حتى الوقوع بإشكال بينه وواحد من رفاقه أو أخوانه بالغرفة.

أن يقضي الأسير سنوات طويله في السجن، والبعض قضوا ويقضون عشرات السنين بهذه الأجواء يشكل ضغطا عصابياً، فيلجمها إلا في حالات الرد على إدارة السجن من خلال مواجهات بين جموع أسرى السجن والسجانين، حينها يفرغ ضغط أعصابه بالصراخ والشتائم وقذف ما يمكن أن يقذفه باتجاه السجان حتى لو كان ابريق ماء من خلال فتحات الباب، ثم إن ضبط الأعصاب يعوّد الأسير على قوة التحكم بها، فتجد أن معظم الأسرى الذين أمضوا سنوات يميلون للهدوء، لأنهم عودوا أعصابهم على الاستكانة.

عملية النقل للأسير من سجن لأخر ليست بالأمر البسيط، فتبدأ بإبلاغه مساءً أن يجهز أغراضه كاملة لأنه منقول غداً، والسؤال البديهي إلى أين؟ فيجيب السجان لا أعلم، وفي السنوات الأخيرة أصبحوا يطلبوا الأغراض بالمساء قبل النقل بيوم كي يقوم السجانون بفحصها، بعد العدد الصباحي يتم إخراج الأسير المنقول إلى غرفة الانتظار وهو لا يعرف إلى أين وجهته، فلماذا ما عادوا يخبروا الأسير عن السجن المنوي نقله إليه؟ السبب بسيط كي لا يحمل معه كبسولات أو أية أشياء للأسرى للسجن المنقول إليه، وبالتالي تحاول أن تعطل إدارة السجن مجال التواصل بين الهيئات القيادية في السجون، علماً أن الأسرى يبتكرون دائما حلولاً، لأن الحاجة هي أم الاختراع، ومسألة التواصل تعني خلق موقف أسير موحد لأي مجال عمل سواء بهدف إعلان خطوة موحده للأسرى ضد إدارة السجون أو حتى أي شيء أخر.

علم صديقنا بأنه منقول إلى سجن عسقلان وفرح عندما علم بذلك، لأنه سيعود إلى السجن الذي تم عزله منه، مورست عليه إجراءات التفتيش بالسجن الذي خرج منه وعملية انتظار حتى ساعات العصر بالسجن الذي حط فيه، إنه يوم شاق فعلاً لا يخفف من ثقله سوى اللقاء بالأخوة والرفاق زملائه وأصدقائه، حيث يتم الاستقبال بترحاب وبحفلة صغيره بالغرفة التي يحط فيها.

عاد الى سجن عسقلان، لكنه بعد عام على عزله وإبعاده عنه وجده سجن أخر بسوء المعاملة والتضييق وكأن الاضراب لم يغير شيئاً بعد أن مضى عليه شهور، بسبب تعنت مدير السجن الذي لم يتغير وبعهده حصلت المواجهات وعمليات القمع بالغاز، والاضراب التاريخي الذي قلب الأوضاع بالسجون للأفضل نسبياً.

استقبله الرفاق بكل محبه وانبساط ، فهم كانوا قد علموا ما تعرض له أثناء عملية نقله وقت القمعه في بداية العام الفائت، وما هي إلا أيام حتى ترتب وضع المنظمة الحزبية وأصبح مسؤولاً لقيادتها ليس بسبب كفاءته، وإنما بسبب ضعف الكادر في حينه بسبب عمليات النقل والعزل، وأكثر ما فاجأه عندما علم بما حصل مع أحد رفاقه، الذي بكل أسف أصيب بمرض نفسي جراء الضغوطات العصبية من داخل السجن ومن خارجه، حيث كان يقيم معه بنفس الغرفة، فنتيجة لإشكال بين زوجته وجيرانها التي أخبرته به خلال الزيارة وهذا قبل الاضراب وقبل القمعه الشهيرة للسجن، فعاد من الزيارة متوتراً جداً وطلب من صاحبنا باعتباره كان عضواً بقيادة المنظمة في حينه أن يساعده بحل المشكلة، سمع منه تفاصيل الإشكالية وكانت الزيارات قد انتهت ولم يكن هناك مجال لإخراج شيء عن المشكلة للرفاق بالخارج للمساعدة على حلها، فحاول أن يهدأ من روعه ووعده بأن تبذل قيادة المنظمة ما تستطيع لمعالجة المشكلة.

كان هذا الرفيق دمثاً واجتماعياً ومتفاعلاً مع واقع الأسر ينشط بالاجتماعات وهو ذو تجربه ومحبوب من الجميع، إذ لم تكن هذا المرة الأولى لاعتقاله، بعد عدة ساعات توجه مرة اخرى لصاحبنا وسأله ماذا عملتم بمشكلتي، فكان سؤاله موضع استغراب لكنه أشار إلى شيء لديه، فهو كما بدا يعاني بشده، أجابه يا رفيق نحتاج إلى أسبوع وأكثر لنرسل للرفاق وأسبوع أخر من الوقت لتلقي إجابه، طبعاً لم يعجبه، بسبب ضغط التفكير لديه، حاول تهدئته، وانفض اللقاء بينهما، بالليل توجه الرفيق الذي يعاني من المشكلة إلى مسؤوله المباشر وكان حينها الرفيق وليد دقه وأطلعه على ما يعانيه وطلب منه حلاً فورياً، حاول معه وليد كي يهدأ وينام، لم يتمكن ليلتها من النوم، وبدأت علامات التشنج على محياه، فقد غاب عنه الابتسام أو الحديث وبدأ يعيش بأوضاع مرضيه وتبدو عليه المعاناة، كل يوم يجلس معه الرفاق المقربون منه لمحالة تهدئته، لكنه كما يبدو دخل في حالة عصيه على الانتهاء بدون حلول لمشكلته، تم إعفائه من الجلسات ومن أي عمل بالغرفة، وملازمته بالغرفة والساحة كي لا يبقى يعاني ويفكر بالأمر دون أن يطرأ عليه أي تقدم، اتسعت مشاركة الرفاق الذين يحاولوا تهدئته، بعد أن ظهرت عليه بشكل واضح ملامح المرض النفسي أو العصبي.

عمل الرفاق على نقله غلى غرفة أخرى فقد يخفف عنه تغيير الجو، لكنه قبل أن يتم نقله وفي وقت كان الجميع ينتظر الخروج إلى الفوره، غاب عن الأنظار، بحث عنه صاحبنا وسأل الرفاق عنه فلم يجده بالغرفة، كان باب الحمام مغلقاً، دق عليه الباب ولم يتلقى رداً، سمع صاحبنا صوت ماء الدش ينزلق على أرضية الحمام، فاعتقد أن الرفيق المريض أصابه شيء ما، فأقدم على كسر الباب فوراً، وجده يحمل معلقة حديد، كان الرفاق قد سنوا أطرافها لاستعمالها سكيناً ، يضرب على صدره ناحية القلب مباشرة ، أي يريد أن ينتحر، صرخ على الرفاق ، فدخلوا وأمسكوا به، سحب السكين أو الملعقة من يده وألبسوه ثيابه واخرجوه من الحمام للغرفة، بعد وقت قصير فتح السجان باب الغرفة ليخرج الجميع للفوره، رافقه رفيقان وطلب من الأخرين الابتعاد عنه، ثم حضر رفاق أخرين من القسم الثاني الذي يخرج للفورة أيضاً ومنهم ممثل الرفاق أمام الإدارة، لكي يأخذوه إلى عيادة السجن لمعالجة الجرح الذي أصابه من السكين، طبعاً الإدارة تريد أن تعرف سبب الجرح، فأخبرهم الممثل بأنه يعاني من وضع نفسي صعب بسبب مشاكل خارجيه، سألوه عدة أسئلة وعادوا إلى ملفه ولم يجدوا أنه صاحب مشاكل حسب رأيهم فسمحوا بإعادته للغرفة، ووضع تحت المراقبة من قبل الرفاق، وبعد يومين تم نقله لغرفة أخرى.

بكل أسف تفاقم وضعه أكثر مع اشتداد الصراع بين الأسرى وإدارة السجن ، وقد حدثت المواجهات والقمعه وهو بوضعه الصعب في السجن، فاشتد مرضه النفسي، ولم يجد الاهتمام الكافي، وانقطعت الزيارات فتفاقم وضعه كثيراً، طلب في يوم قبل الاضراب الذهاب للعيادة، وكانت الإدارة قد أخبرت ممثل الرفاق أنهم يسهلون خروجه للعيادة باي وقت، وفعلاً جاءه سجان ليصطحبه للعيادة، في الطريق للعيادة قام رفيقنا بالقبض على رقبة السجان بيديه بكل قوته قاصداً خنقه، لكن السجان تمكن من الضغط على جهاز الإنذار المثبت على جانبه، فحضر سجانون مهمتهم التصرف السريع لأحداث كهذه، واستطاعوا أن ينقذوا السجان وأوقعوا بالأسير ضرباً مبرحاً جداً، ووضعوه بالزنازين، ويطعمونه ثلاثة وجبات من الضرب القاسي والقمعي جداً، حتى تدهور وضعه إلى أبعد حد ممكن.

بعد شهر من العزل في ذات السجن تم نقله إلى قسم عزل في بئر السبع وتواصل معه صاحبنا عبر الرسائل، فكان من المفروض أن يتم نقله إلى سجن نفحه، لكنه عصى ورفض الصعود إلى البوسطه، فتلقى ضرباً مبرحاً من قوة حرس الحدود المصاحبة للبوسطه جعلت جميع الأقسام تسمع صراخه دون معرفة من هو صاحب الصراخ هذا، بقي محجوزاً بالزنازين عدة أيام ثم نقلوه إلى عزل سجن الرملة وهناك بعد شهر تقريباً وبكل أسف قضى بعد أن شنق نفسه وانتحر، هذا بعض من المآسي في السجون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى