مِنَ الأسر
الأسير المحرر أحمد أبو السعود
عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
كان صاحبنا يعاني من أوجاع بالصدر بين فترة وأخرى، مما اضطره للسعي إلى الذهاب لعيادة الطبيب أكثر من مره، وقد تلقى أدوية خففت من أوجاعه دون أن تنهي وجودها، في تلك المرحلة كان من المدخنين وليس أقل من علبتين يومياً من سجائر العمر ( الثقيل )، وأثناء تواجده في سجن جنيد، وخلال إضراب عام 1995 الذي امتد لأسبوعين أصيب جراء الإضراب بأمراض باطنيه كالإمساك الشديد وتجمع الغازات المزعجة بأمعائه، فكما يبدو انعطب القولون العصبي، إذ ما يزال يعاني منه، فاضطر للذهاب للطبيب مراراً، وأعطوه كل أنواع الزيوت لمعالجة الإمساك دون فائدة، الأمر الذي دفعه لاحتساء نصف كيلو حليب صباحاً على الريق يومياً، وهذا كان يساعده بعض الشيء.
أمراضه لا تقارن بأمراض مئات الأسرى غيره، إلا أن غالبية الأسرى يهتمون للجانب الصحي كي يحمون بقائهم أحياء، كجزء من مسيرة النضال، لأن الوفاة داخل السجن فيها ألم كبير للأهل وموت للأحلام والأمل الذي كبر مع سنوات سجنه. بعد أن تم نقله مع باقي الأسرى لسجون الداخل وحط في سجن عسقلان، كانت تراوده فكرة العزوف عن التدخين كلما عادت إليه أوجاع الصدر، لكنه ينسى الفكرة حين تختفي أوجاعه، إلى أن حدثت سلسلة عمليات استشهاديه من قبل فدائيين في الباصات الصهيونية أو بالشوارع، ونجم عن ذلك انقطاع زيارات الأهل لعدة شهور، وقد كان الأهل مصدر تزويده بعشرة علب من السجائر كل أسبوعين، ومثلها يتم صرفها له من مالية التنظيم، ولا تكفيه هذه الكميه، مما يضطره إلى اقتراض علبة من هنا وأخرى من هناك خاصة من الرفاق الذين كمية تدخينهم خفيفة أو قليله، لأن الرفاق الذين لا يدخنون يسلمون ما يحضره ذويهم إلى المالية، ومن هنا فقد تناقصت كثيراً إمكانية إدخال أموال للكانتينا بعد العمليات الاستشهادية بسبب توقف زيارات الأهل، وهذا يعني أن المالية لن تستطيع توفير العشرة علب الأخرى، وبأحسن الأحوال يمكن أن توفرها بشهر وليس كل أسبوعين.
ازداد تفكير صاحبنا بضرورة أخذ قرار حازم وسريع بترك التدخين، ما ساعده على ذلك سؤال نفسه ألم يفكر مع العديد من الأسرى باستعداده لخوض اضراب استشهادي حتى الموت على الطريقة الايرلندية، فهل يعقل أن لديه الإرادة للاستشهاد ولا تتوفر لديه للإقلاع عن التدخين، فتجدى نفسه بأنه سيقلع عن التدخين وإلى الأبد ودفعة واحده، فكان هذا بتاريخ 26 /3 / 1996وكان قراراً نافذاً وبلا رجعه، اعتقد الرفاق أن قراره عباره عن ردة فعل، فحاولوا توفير العشرة علب له، لكنه صمم على رفضه ومحاولات ثنيه، أخبرهم أنه ترك التدخين إلى الأبد، وفعلا هذا ما حصل تماماً، بل أكثر من ذلك فقد ساعد عشرة رفاق وأكثر على ترك التدخين، فكثير من الأسرى وخاصة الذين مضى على وجودهم سنوات تركوا التدخين ومارسوا الرياضة، لأن السجن يولد الإرادة ويعمقها، عدا عن ازدياد عوامل التحدي لمواصلة الحياة على عكس ما يتمناه السجان بموت الأسرى .
كبديل عن السجائر أفضل طريق هي ممارسة الرياضة، فعلاً بدأ بالنزول إلى الساحة لممارسة الرياضة الصباحية، وأخذ يتمرن بشكل خفيف ويجري في طابور الرياضة في البداية دقائق قليله، لم تمض شهور حتى أصبح ممارساً نشطاً للرياضة، بعد تسعة أشهر تم عزله إلى سجن بئر السبع في قسم للعزل، في القسم حياة شبه جماعيه للأسرى المعزولين، ولأنه يعتبر من الأسرى القدماء بات شبه معروف من قبل كثيرين من الأسرى، باليوم التالي لوصوله استأنف الرياضة حيث كان الفصل شتاءً والأجواء باردة جداً، فعادت إليه أوجاع الصدر جهة القلب مباشرة، مما أجبره على الذهاب إلى طبيب العيادة، وتصادف أن يذهب خمسة أسرى كلهم ما فوق الأربعين عاماً، حين دخل للطبيب استفسر منه وأشار اليه على مكان الوجع، فعمل له تخطيط قلب، وفحص دم، ولم يخبره بأي شيء، عاد مع الأسرى إلى القسم، قبيل المساء حضر سجان ليطلبه للعيادة، وإذا بضابط الأمن وضباط أخرين يتواجدون بساحة العيادة، وعدد من الممرضين والطبيب يضعون حمالة على باب غرفة الطبيب، والأخير طلب من صاحبنا أن يستلقي على الحمالة، ويقول له لا تخاف مجرد فحوصات في المشفى خارج السجن، وفعلاً تم تقييد يديه وأرجله بالكلبشات، وحملوه إلى السيارة وجلس إلى جانبه ممرض كل لحظه يقول له لا تخاف، وهو يتساءل من ما سأخاف؟ وخطر بباله أنه نتيجة فحص الدم ظهر أنه مصاب بمرض خطير؟ بدى عليه التوتر والانفعال، والتساؤل الذي كان يدور بذهنه هل الوضع خطير إلى هذا الحد، أم أن هذا مقصود لإخافته، سارت السيارة بسرعة وبصوت زامورها العالي وكأن هناك حالة خطر شديد.
تم ادخاله للمشفى على الحمالة، مباشرةً إلى مكان خاص فيه جهاز فحص تخطيط القلب، وأجرى له الممرضون الفحص عدة مرات، اعتقد أنهم سوف يدخلونه على طبيب، لكنهم مددوه على سرير لينتظر وطلبوا منه أن لا يتحرك، وقريباً منه يقف أكثر من سجان، مربوط بيديه وأرجله وبالسرير، مرت ساعه فطلب الذهاب إلى الحمام وذهنه منشغل، بما وراء هذه الزيارة للمشفى بهذا الشكل علماً أن كل ما لديه أوجاع خفيفة لا تعيقه عن أي حركة أو عمل يمكن أن يقوم به، ثم مرت ساعة أخرى فسأل السجان شو القصة، أجابه لو هناك شيء خطير لاستدعاك الطبيب الذي شاهد وشخص نتائج الفحوصات، يبدو أن وضعك غير خطير، بعد وقت قصير أعيد عمل تخطيط من جديد وما هي إلا دقائق ليخرجوه من المشفى ماش على قدميه، أجلسوه على الكرسي بالسيارة، وإلى السجن ثم للقسم، حوالي ثلاث ساعات غاب عن القسم عاشها بتفكير بالموت والخطر وانشغل بكثير من التوجسات، وحين دخل من باب القسم وجد الحياة فيه على طبيعتها، لم يسأله أحد شيئاً، عاد لزنزانته مع رفيقه وبدأ يسرد له ما حصل معه حتى التخوفات، وضحكا معاً، صبيحة اليوم التالي عاود ممارسة الرياضة كالعادة، ولم تمض فترة حتى زالت الأوجاع التي يبدو أنها بقايا التهابات بالرئتين جراء التدخين.
بعد أن مضى على وجوده سنة تقريباً بالعزل تمت إعادته مرة أخرى إلى سجن عسقلان (هذا السجن الذي قضى فيه 14 عاما متقطعة منها سبع سنوات جولة واحده) وهناك يمكن القول إنه بات من الرياضيين أي ممارسي الرياضة يومياً حتى بأوقات هطول المطر، وغالبية الأيام يصطف في مقدمة طابور الركض، واستأنف العمل في المنظمة، وحياة الأسرى فيها رتابة وانتظاريه عالية، ارتباطاً بالأوضاع السياسية المعقدة، فحدث تراجع حاد بالانضباط الحزبي، وضرب لكثير من التقاليد الحزبية والأعراف الاعتقاليه.
وبعض المشكلات داخل الغرف، منها على سبيل المثال وقعت بإحدى غرفنا مشكلة بين رفيقين متجاورين بذات السرير المكون من طابقين، بالبداية كانت مشادة كلامية وبعض الشتائم، تلاها بالمساء أن أقدم أحدهم بضرب الأخر بكأس زجاجيه على رأسه فتحطمت الكأس على رأسه وسال دمه، تحديداً الضربة كانت خلف الأذن، أي كما يقال ضربة في مقتل، وفوراً تم إخراج الرفيق المضروب للعيادة والأخر خرج هاربا إلى إحدى غرف فتح، بعد أن علمت الإدارة من المعتدي قامت بسحبه إلى الزنازين، وفرضت عليه عقاب عزل لمدة شهرين، وبعد أن انتهت فترة عقابه من قبل الإدارة، تم نقله إلى سجن أخر في شمال فلسطين وهو سجن شطه، وأما الثاني فقد أعادته الإدارة إلى غرفته، وجاء دور التنظيم الذي أوقع إجراء الفصل بحق المعتدي وعدم قبول عودته للسجن، بعد نصف سنة أرجعته إدارة السجون إلى سجن عسقلان، فرفضت قيادة المنظمة قبول إدخاله منعاً لحدوث أو تجدد المشكلة، فتم نقله إلى سجن نفحه، حاول بعض الرفاق من أصدقائه إعادته للتنظيم أي تحت مسؤولية التنظيم فتم رفض هذا الطلب بعسقلان، لكنهم في سجن نفحه بعد فترة من الوقت أعادوه إلى صفوف المنظمة، ومكث فيها وقتاً، ثم أعيدت إليه عضويته، وهو بكل أسف أستشهد مع أسرته في معركة طوفان الاقصى أنه الشهيد عمر مسعود وكان شارك بأعمال انتفاضيه خلال الانتفاضة الأولى .