مِنَ الأسر
الأسير المحرر أحمد أبو السعود
عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
جراء الأوضاع المتفاقمة في السجون وتزايد مصادرة حقوق وإنجازات الأسرى، وسياسة التضييق عليهم تقدمت حركتي حماس والجهاد الإسلامي باقتراح لخوض إضراب مفتوح عن الطعام في عام 2000، وذلك بهدف تحسين شروط الحياة وإعادة المعزولين الذين تزايدت أعدادهم في زنازين العزل الانفرادي، دارت نقاشات مطوله استغرقت أياماً وأسابيع دون التوصل لتوافق وطني، فقد رفضت فصائل م، ت، ف الاقتراح بسبب وجود أمل بتحرير الأسرى فهم يرون أنه ما يزال قائماً، وإن الظروف غير مواتيه، دارت حوارات عديده دون فائدة، علماً أن مفاوضات كامب ديفيد كانت جاريه بين الطرفين الفلسطيني والصهيوني، برئاسة أبو عمار ورئيس حكومة العدو (إيهود براك)، ويقود المفاوضات الرئيس الأمريكي والوفد المرافق بهدف جسر الفجوات بين الطرفين، لكن المفاوضات فشلت رغم تدخلات كلينتون وتقديمه لاقتراحات وسطيه كما قيل، علماً أن الطرف الأمريكي بكل مواقفه ينحاز إلى الجانب الصهيوني.
كان طابع الإضراب مطلبي، أي الهدف منه استعادة الحقوق التي تم سحبها من قبل السجان، حسم الأمر بأن حركتي حماس والجهاد سيخوضون الإضراب وحددوا له موعداً وتركوا الباب مفتوحاً للفصائل الأخرى، كان صاحبنا يمثل أسرى الجبهة وكان مؤيداً بموقفه الداخلي للإضراب، لكن نتائج الاستفتاء الداخلي بين الرفاق أعطى نتيجة تفيد برفض المشاركة، مما اضطر صاحبنا أن يعلن موقفه أمام الرفاق بأنه لا يستطيع أن لا يشارك بإضراب يخوضه أخوة لنا على مقربة من غرفنا وربما هناك غرف مشتركه لنا معهم، صحيح أن إدارة السجن تفصل المضربين عن غير المضربين، وهناك عدد قليل من الفصائل الأخرى شاركت كذلك بالإضراب، لم يؤثر موقف صاحبنا على موقف الرفاق، وفعلاً دخل الإضراب من اللحظة الأولى، وتم نقله إلى غرف المضربين، جدير القول أن هناك موقف داخلي لفصائل م. ت . ف بأنهم سيلتحقون بالإضراب بعد مرور أسبوعين في حال لم يتوقف، وفعلاً بعد أسبوعين التحق أسرى م. ت. ف بالإضراب واستمر لمدة 25 يوماً، للحقيقة فإن إدارة السجن سمحت بتناول كأس من الحليب صباحاً وأخر مساءً، وهذا خفف على المضربين، انتهى الإضراب وحقق بعض المطالب، علماً أن التفاوض بين ممثلي حركة حماس ورجال المخابرات جرت في سجن هدريم، أعادوا بعضاً من الحقوق، واستجابوا لإخراج المعزولين، وتمت الموافقة المبدئية على الدراسة بالجامعات العربية، وإدخال جهاز التلفون الأرضي للأقسام، لكن هذين المطلبين لم يتم تنفيذهما أبداً، الإضراب حدث قبل تفجر الانتفاضة، أي أن أعداد الأسرى كانت قليله وكما تم ذكره لم يتعدى الألفين موزعين على عدة سجون ومعتقلات.
صاحبنا كان يخطط للالتحاق بالجامعة، لكنه يحتاج إلى زيادة معرفته باللغتين العبرية والإنجليزية، وشرع بتعلم الإنجليزية وقطع ربع الشوط فانفجرت الانتفاضة، وسالت الدماء، فالمشاهد في عمليات القتل والدمار والاعتقال جعلته يتراجع ويوقف تعلم الإنجليزية ويصرف النظر عن الجامعة، وعلى ضوء انتشار الأعمال الانتفاضية، بدأت أفواج المعتقلين تتوالى على السجون، فاستقبل سجن عسقلان أعداداً أكبر ممن كانوا فيه قبل اندلاع الانتفاضة، وفتحت أقسام كانت قد تحولت إلى سجناء جنائيين صهاينة، باختصار عادت الحركة النشطة للأسرى في السجون، رافق ذلك توقف لزيارات الأهل وانقطعت عن صاحبنا لمدة أربعة أعوام متتاليه.
استوحش السجانون فأعادوا ممارسة التشدد من قبل الضباط والسجانين، بعد أن كانت تراخت جراء اتفاق أوسلو، فحدثت العديد من المواجهات بين أسرى وسجانين نجمت عن ضرب وعزل، وتشدد بالتفتيش العاري وغيرها من الإجراءات الصارمة بالمعاملة وباستلاب الحقوق، لكن دخل أمر جديد هام وهو وصول جهاز الجوال ( الموبايل ) للأسرى، ما جعلهم يتواصلون بالأهل مباشرة، وكان رواد من أدخلوا هذا الجهاز هم أسرى حزب الله إلى سجن عسقلان، فكان لديهم ثلاثة أجهزه بغرفتهم ومكثت شهور، دون علم أي من الفصائل الأخرى، إلى أن داهمت إدارة السجن القسم الذي كانوا فيه وأجروا فيه تفتيشاً دقيقاً، فعثروا على الأجهزة، وسحبوا سكان الغرفة إلى الزنازين، كعقاب لهم، وباليوم التالي عملوا تفتيشاً واسعاً لكل أقسام وغرف السجن وصادروا كل الأجهزة الكهربائية وكل ما ارتؤوا وجوده لا يناسبهم سواء ملابس أو أشياء أخرى، بهدف التنغيص على الأسرى، خلق هذا حالة من التوتر بالسجن بين الأسرى وإدارة السجن، لكن ذلك فتح أعين بقية الأسرى على أهمية إدخال الجوالات، وما هي إلا شهور حتى أصبح الجوال منتشراً في كافة الأقسام.
إنها المرة الأولى عام 2001 يستخدم فيها صاحبنا الموبايل من نوع نوكيا، وأمام كل شيء جديد يقف المرء متسائلاً ومندهشاً، فتساءل كيف لجهاز صغير وهو يعمل أن يوصله مع ذويه ويتحدث إليهم، وهو معطل لا يساوي شيئاً، ما أكبر قيمة ما أحدثه على نفسية الأسرى إذ ربطهم بالعالم الخارجي، وخاصة بذويهم مما أشرك الأسير الأب بمتابعة أبنائه واحتياجاتهم حتى لو كان الاتصال مره بالأسبوع لربع ساعة أو حتى لعشرة دقائق.
تطور الأمر بعد انتشار الجوالات وخلق راحة نفسية لدى الأسرى، وفي نفس الوقت خلق حاله من التشدد من جانب إدارة السجون فكثرت التفتيشات بأشكالها المتعددة، والصدامات والمواجهات بين الأسرى والسجانين، فمن يخرج من باب غرفته لأي أمر يتعرض للتفتيش بالأيدي وبجهاز فاحص للمعادن، والأسرى عموماً قادرون على الإبداع في ايجاد المخابئ، وكلما وجد السجان مخبأ يجد الأسير غيره ومن الصعب اكتشافه إلا ربما بالصدفة أو نتيجة كشفه من قبل أحد المخبرين (العملاء).
بات الأسرى يتابعون الأوضاع خارج السجون وبدل أن يرسل الأسير رسالة عزاء لذوي الشهيد من منطقته عبر كبسولة صغيره، أصبح يقرأها مباشرة أثناء التشييع أو في صالة العزاء، أصبح الأسير يتواصل مع كل أفراد العائلة ومع أصدقائه وأقاربه، ويشارك بشؤون حياتهم نسبياً، حتى بعض الأسرى خاصةً ممن متبقي لهم فترة قصير للإفراج ارتبطوا بفتيات عبر خطبتهن، وخفف هذا من البعد عن الأهل قليلاً فكان يبلغهم بما يريده وما لا يريده، ويتابع قدوم أهله للزيارة ويطمئن عليهم بعد الزيارة وأشياء أخرى.
يمكن القول أن كل الفصائل أصبح لديهم أجهزة يستعملونها بشكل جماعي، وينقلون الجهاز من غرفة إلى أخرى مع إجراءات معقده كي لا يكتشفه السجان، باستثناء أسرى فتح وهم العدد الأكبر بالسجن، فكان كل أسير منهم يتمكن من إدخال جهاز عليه أن يعطي التنظيم الجهاز ساعات محدودة وباقي الوقت يتصرف به كما يشاء، عكس رفاقنا الذين رفضوا أن يتم التعامل مع الجهاز بشكل شخصي أو خاص، وإنما ملكيته جماعيه والتصرف به جماعي وبشكل عادل، كثيرا ما حدثت تفتيشات استفزازيه وعمليات عزل وعقوبات، حتى تطورت العقوبات إلى غرامات ماليه على الأسير أو حتى على أسرى الغرفة، إلى جانب الحرمان من زيارات الأهل والعزل الانفرادي وغيرها، وفي الاضرابات ما بعد الألفين أصبحت إدارة السجون تعاقب كل أسير مضرب بمبالغ كبيره فقط لأنه شارك بالإضراب، ومن ليس لديه مال بالكانتينا يسحبون من أي مبلغ يصله من ذويه، أو يسحبون المال من أموال التنظيمات، وقد طالب الأسرى منذ ذاك الوقت حتى أخر إضراب بالسماح لهم باستعمال الهاتف الأرضي والجوالات ضمن ضوابط لكن إدارة السجون لم توافق على ذلك.
انقلبت الأوضاع بعد اشتداد الانتفاضة وشمولها لكل أبناء شعبنا داخل فلسطين تقريباً، في كل يوم يرتقي الشهداء، وكل يوم يتم تقديم العزاء لشقيق شهيد من الأسرى أو قريب.
في شهر أيار من عام 2001 جاء بالأخبار أن استشهادياً قد اقتحم مستوطنة مقامه على أراضي بلدة صاحبنا وعلى أراضي القرى المجاورة، وتبين أن الفدائي الاستشهادي ما هو إلا ابن شقيق صاحبنا، الذي يبلغ من العمر سبعة عشر عاماً أي كان عمره ثلاثة أعوام حين اعتقل عمه، اقتحم المستوطنة لأنه كان يدخلها سراً مع أصدقائه قبل الانتفاضة، وكان يحمل بندقية كلاشنكوف، وهو مدرب عليها ومعه مخزنين، اختار مكان يتجمع فيه شبان من المستوطنة يلعبون كرة السلة، كانوا كما عرف فيما بعد أن الشبان الصهاينة بعمره تقريباً يحضرونهم للتجنيد، قفز من على ظهر سور الملعب ودخل فاتحاً رشاشه عليهم فأردى خمسة وأصاب أكثر من هذا العدد، إلى أن جاء الجيش وحراس المستوطنة ليشتبكوا معه ويستشهد على الفور، قوات الاحتلال طلبوا والده باليوم التالي ليتعرف إليه وأكد لهم أنه ابنه واسمه حبش، سماه صاحبنا بهذا الاسم تيمناً بجورج حبش، لأن والد حبش كان حينها أسيراً في سجون الاحتلال.
وفعلا كان ناشطاً بلجنة العمل التطوعي بالقرية، ومتميزاً بالدراسة ولاعب كرة قدم متفوق إلى جانب مشاركاته الفنية بالدبكة، وكان قد طلب من رفاقنا أن يساعدوه لينفذ عملية استشهاديه لكن من طلب منهم رفضوا ذلك لصغر سنه ولم يساعدوه، فاضطر للجوء إلى كتائب شهداء الأقصى ويتدرب عندهم وينفذ العملية باسمهم، سارع الرفاق والأسرى بتقديم العزاء لصاحبنا الذي شعر بفخر كبير لأن ابن أخيه سار على درب النضال وارتقى شهيداً، وحزن كثيرا جداً لأنه لم يتاح له التعرف إليه إلا طفلاً صغيراً، لكن هكذا هي حياة الفلسطيني إما مناضلاً أو أسيراً أو شهيداً أو بالمنفى.