تحليلات و آراء

مِنَ الأسر

الأسير المحرر أحمد أبو السعود
عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

في شهر رمضان عادةً ما تقدم إدارة السجن بعض التسهيلات الطفيفة، مثلاً تسمح بجمع وجبتي الغداء والعشاء معاً، والفطور يقدمونه مساءً لكي يتناوله الأسرى على الفطور، بالإضافة إلى بعض المشتريات الخاصة برمضان، من خلال قائمة أشياء يقدمها الأسرى للإدارة فتحضر ما توافق عليه وبالكمية التي توافق عليها، كالسماح بشراء دجاج لوجبه إضافية كل أسبوع، ووجبه من اللحم ووجبة سمك، إلى جانب كميات من الخضار والفواكه بمقدار كيلو بالشهر لكل أسير، ولأن الاستخدام يكون جماعياً تغطي هذه الكميات احتياجات الأسرى نسبياً، غالبا ما تكون كميات الطعام برمضان أفضل من الأيام الأخرى، كذلك تسمح إدارة السجون بتأخر الفوره لوقت إضافي، ففي عام 2003 كان الأسرى يتأخرون بالساحة وخاصة العمال لغاية التاسعة مساءً تقريباً، ففي تلك الفترة لم يتم انتقاص فترة الفوره فكانت تقريباً ساعتين قبل الظهر وساعتين بعد الظهر، وتجيء فورة العمال بعد ذلك، بنفس الوقت كانت الإدارة تسمح لمن هم قدامى من الأسرى بالخروج بأي وقت يشاؤون تحديداً في أوقات الفورات بما فيها فورة العمال، ولأن سجن عسقلان فيه ساحة تتوسط خمسة أقسام ويخرجون بترتيب متفق عليه مع الإدارة الصهيونية، فإن كافة الأسرى يستطيعون رؤية بعضهم بعضاً من خلال شبابيك الغرف المطلة على الساحة إن لم يكن وقت فورتهم، وبجانب الساحة يوجد المطبخ وبجانبه مكان غسل الملابس (الغسالة) وفيها مكان مخصص للمخيطة.

كما يبدو كان هناك اثنان من أسرى حماس فكروا منذ قبل رمضان بخطة للهروب من السجن، وذلك من خلال قص قضيب من الحديد المستدير الشكل في برندة تطل على الجهة الغربية من السجن في الطابق الثاني، ولا يوجد أي ما يحجب الرؤيا عن الأسرى من البرنده، فهم بكل أوقات مرورهم من تلك البرنده وهي طولية الشكل تمتد أمام اربعة غرف كبيره، تشكل هذه الغرف ما يعرف بقسم (د) بالسجن، إن قص قضيب الحديد يتطلب وقتاً لأنه مبروم ودائريته أكبر من الأصبع الكبير باليد، هذا يعني أنهم يحتاجون لأكثر من منشاره أي نصله منشار حديد، لقص القضيب بهدف خروج الأسير من بين قضيبي الحديد بعد ثني القضيب المقصوص، الخطوة التالية أنهم بحاجه إلى حبال ليتم شبكها بين قضبان الحديد والأسلاك الشائكة عل السور الذي يضاهي ارتفاعه مستوى البرنده تقريباً، ولأن أحدهم يعمل خياطاً وجد إن قص حبائل حقائب الملابس وحياكتها ببعضها البعض تصلح أن تكون الحبل المطلوب، فعلاً جهزوا حبالهم ومنشارهم وجهزوا قضباناً حديديه رفيعة نسبياً تناسب قوتها لحمل شخص أو شخصين حين يتم رميها وتشبك بالأسلاك الشائكة على ظهر السور، كيف حصلوا عليها الله أعلم، علماً أن السور يبعد ما لا يقل عن أربعين متراً عن القضبان الحديدية في واجهة السجن، وما ساعدهم على تحقيق غايتهم وجود مبنى للمخابرات أي مركز للتحقيق سطحه دون مستوى البرنده، لأنه مبني حديثاً، بينما سجن عسقلان مبني من أيام الإنجليز، وارتفاع الغرف لا يقل أربعة أمتار إن لم يكن أكثر.

وعليه عندما حددوا ساعة الصفر للتنفيذ، كان الوقت المحدد في الثامنة مساءً أي يكون الظلام قد حل إلى حد معين فالوقت كان صيفاً، بمساعدة أسرى أخرين قصوا قضيب الحديد وأبقوه جاهزا لثنيه للأعلى وخلال وقت قصير نجحوا في ثني القضيب ليصبح متسعاً لخروجهما، من يتواجد من الأسرى في البرنده ليغطوا عليهم وهذا ضمن ترتيب معهم بأن يعيدوا قضيب الحديد حيثما كان، هذا وتم ربط الحبل من طرفه بالقضبان الحديدية والطرف الأخر تم إلقائه إلى السور ليشبك بالأسلاك الشائكة، نجحوا بذلك من الرمية الأولى وكان الرمي من على ظهر سطح مبنى المخابرات، قفز الأول على الحبل وشرع بالزحف ولحقه المجاهد الأخر، وما إن وصل الاول إلى السور وبدأ بقص الأسلاك الشائكة وحتما لديهم مقص حديد، والثاني بمنتصف الحبل حتى صادف مرور سجان، فشاهد المنظر وضرب زر جهاز الإنذار على جانبه، وريثما تجمع السجانون وانجلى الأمر أمامهم كان الأسيران طليقان، فقد قفزا عن السور وهربا، حسب ما جرى من حديث أنهما اتفاقا مع مساعدين من الخارج لينتظروهما بسيارة، لكنهما لسوء حظهما لم يجدا السيارة، فهربا ما بين البيارات وفي الشوارع يتخفون، حتى وصلوا لشاطئ البحر، مكثوا ليلتهم هناك حتى وجدوا أنفسهم محاطين بالجنود والشرطة فألقوا القبض عليهما، وتم إعادتهم إلى التحقيق .

بعد انكشاف أمر عملية الهرب أعلنت حالة الاستنفار بالسجن وأدخل كل من هم في ساحات الفوره، وأقفلوا الغرف، وأعلموا كل الأجهزة الأمنية الصهيونية بعملية الهرب، التي قامت بإعادة اعتقالهما واعادتهما إلى التحقيق ومن ثم للعزل، حيث مكثوا أكثر من سنة بالعزل، وقدموهما للمحكمة التي أضافت لحكم كل واحد منها ثلاثة سنوات، كانت عمليه فيها كثير من المغامرة، وكل عمليات الهروب من السجن مغامرة، ما حققه المجاهدان هو أن تنفسا هواءً نقياً وسهرا ليلةً على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، كانت تجربة أضيفت إلى تجارب الهروب الفاشلة للأسف.

كان صاحبنا ممن متاح لهم الخروج للفوره بأي وقت طوال فترة الفورات، لكنه لم يكن بالأقسام التي حصلت منها عملية الهروب، إنما كان في قسم خارجي غالبيته الساحقة من المعتقلين الجدد، وكان يتواجد بساحه الفوره لحظة حدوث الهرب لكنه كغيره لم يكن على علم بها، وأسف الجميع على فشلها، بعد أن استغرقت وقتاً طويلاً للتحضير والعمل تحت أنظار السجانين والكاميرات.

صبيحة اليوم التالي كان السجن مقفل وفي حالة استنفار وهذا يظهر من خلال ارتداء السجانين والضباط الدروع والعصي ومدافع الغاز …إلخ، بعد عدد الصباح بدؤا بإخراج الأسرى من القسم الأول وعملوا تفتيشاً صارماً ودقيقاً، يصادرون من خلاله كافة الأجهزة الكهربائية كالتلفاز والراديو والهوايات والأقراص الكهربائية التي كانت تستعمل للطبخ وكثير من الأشياء الأخرى من ملابس أو أحذية من كل الغرف، فكان القصد معاقبة كل الأسرى بالسجن، وأجروا تفتيشاً للغرف وفحصاً دقيق للجدران والأبواب والشبابيك، وكل غرفه ينتهون منها يجرون تفتيشاً عارياً أو شبه عارٍ للأسرى مما أحدث مشاكل أدت إلى عزل كثيرين للزنازين الانفرادية، انقضى النهار كله حتى أكملوا تفتيش كافة الأقسام والأسرى، طبعاً أثناء حالة الاستنفار لا طعام ولا شراب للأسرى، مع ذلك كان الأسرى مسرورين لأن من حاولا الهرب تمكنوا من كسروا أمن إدارة السجن وكسروا وسجلوا فشلاً على كل طاقم الإدارة.

كذلك لحق السجن عقاباً بتقليص زمن الفوره وعدم إبقاء الأسرى إلا للساعة الرابعة عصراً في الساحات، وبدأت سياسة التشدد أكثر فأكثر، وهي بشكل عام سياسة إدارة السجون بعد كل حادث كهذا أو مشابه يتشددون، لكنهم لا يستطيعوا الاستمرار بوضع الأسرى تحت الضغط لوقت طويل كي لا تنفجر الأوضاع، وإلا ستحدث كل ساعه مشكله على شكل ضرب سجان بآلة حاده أو رشقه بالماء الساخن، حتى أن حالة التوتر تضغط على السجانين أنفسهم فيضطرون للبقاء بالسجن لفترات طويله، مع ذلك طالت فترة الضغط ولم تجد الرسائل لإدارة السجون أو الأحاديث مع مدير السجن وضباطه أذناً صاغيه لإعادة الحياة كما كانت عليه قبل عمليه الهرب، واعتبروا أن عملية الهرب هذه تستهدفهم، فمن نتائجها معاقبة المدير وضابط الأمن والضباط المناوبين، ويصل الأمر إلى تخفيض رتب بعضهم، زادت عمليات التفتيشات اليومية من قبل السجانين للغرف وللأسير الذي يخرج من غرفته لأي سبب كان، كان هناك قبل عملية الهرب زيارات بين الأقسام تم ايقافها، وتم التشديد على الأهل لاعتقادهم أنهم من ادخلوا نصلة المنشار وغيرها في مساعدة من حاولوا الهرب، وأخذ الأمر وقتاً حتى بدأت إدارة السجن تخفف من تشددها وعقوباتها.

صاحبنا كان ممن واصلوا ممارسة الرياضة وأصبح مدرباً لفريق من الأسرى الجدد، لكن يبدو أن استمرار الرياضة دون غذاء نوعي يؤثر على العظام، فبعد أن أصبح مدمناً على ممارسة الرياضة، أصبح يعاني من أوجاع بالمفاصل والأقدام لكنه لم يعر الأمر اهتماماً، بل بقي مستمراً حتى تفاقم عليه الألم وبات يتخلف عن الركض الصباحي، لكنه كان يعوض بدلاً من ذلك بالمشي طوال وقت الفوره، إلى أن لم يعد قادراً المشي تماماً، وبات يعجز عن الوصول إلى الحمام ويستعين بأحد الرفاق ليوصله إلى الحمام، فتوجه للعيادة لمقابلة الطبيب، أعطاه بعض الحبوب ولكن بلا نتيجة، وعاد مرة ثانية وثالثه، حتى وجد الطبيب أنه لا مفر من تحويله إلى طبيب مختص في مشفى خارج السجن، وفعلاً أرسلوه للطبيب بعد شهر على الأقل، وهناك فحصه الطبيب وأجروا له الصور والفحوصات، وفي مشوار أخر حقنوا مفصل رجله اليمنى بسائل لا يعرف عنه شيئاً.

في رحلته الأخيرة للمشفى كان موثوقاً بالأصفاد مع سجان بيديه وبيد السجان، لإضافةً للكلبشات بقدميه، كانوا ينتظرون بالممر للدخول إلى الطبيب وبجانبهم مدنين يهود، فصرخ أحد اليهود بالسجانين ما بكم هل باتت وظيفتكم حراسة المخربين ومعالجتهم أيضاً اتركوهم ليموتوا، طبعاً لفظها بالعبرية وصاحبنا فهمها تماماً، لكن لا هو ولا السجانين علقوا بحرف على قول ذاك العنصري الصهيوني، عادوا به إلى السجن، وبعد أسبوعين من تلك الإبرة بدأ يستطيع المشي قليلاً، وشيئاً فشيئاً عاد للمشي بشكل تدريجي، لكنه أوقف ممارسة الرياضة، وبقي يعوض عنها بالمشي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى