آخر الأخبارتحليلات و آراء

مِنَ الأسر

الأسير المحرر أحمد أبو السعود
عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

بعد فشل عملية الهروب من السجن في عسقلان، تفاقمت الأوضاع سوءاً وبات السجن والأسرى في وضع قاس جداً، ففي ذاك الوقت لا زيارات للغالبية الساحقة من الأسرى من قبل ذويهم، ولا الحقوق التي كانوا يتمتعون بها بقيت موجودة، فهذه كانت الأجواء النموذجية للاشتباك بين الأسرى والسجانين، ففي يوم وأخر نسمع عن أحد الأسرى قد حاول طعن ضابط أو رشقه بماء يغلي عند العدد، فيتم عزل الأسير ومعاقبة الأسرى بالغرفة وزيادة التشدد بالقسم، أما في الغرف الأخرى فقد كان عقاب الأسرى فيها أخف من تلك التي ضرب فيها السجان.
هكذا استمر الوضع شهوراً، تخللها إرجاع وجبات الطعام معظم أيام الأسبوع كنوع من الاحتجاج على سياسة الإدارة، لكن الشيء الوحيد الذي كان يخفف عن الأسرى وجود عدة جوالات في الأقسام تجعلهم ينفسون عن الضغوطات التي تلازمهم جراء السياسة الاستفزازية من قبل السجانين، رغم كل هذا فإن البرنامج الداخلي للرفاق ظل مستمراً (أي الجلسات بكل أنواعها من تنظيميه وسياسيه واعتقاليه ..الخ).
انتقل صاحبنا من الأقسام الخارجي إلى الداخلية وحط في قسم (ج) غرفه (13)، هذا القسم يفتح مباشرة على ساحة السجن الكبيرة، وكان فيها منذ أن تم افتتاح السجن نخلة تتوسط الساحة وارتفاعها يقارب العشرين متراً، وشجرة ثانيه على بعد أمتار من النخلة تظلل في فصل الصيف فتجد العديد من الأسرى يستظلون تحتها، يقابل قسم (ج) من جهة الشرق قسم (ألف) وكلاهما بذات التفصيل، أي بعدد الغرف والمساحة والتقسيم، وكان يفصل المردوان أو الممر عن الساحة قضبان حديديه سميكة ودائريه كالتي قصها من حاولا الهرب في القسم العلوي (د)، في هذا القسم كان لكل تنظيم فيه غرفه، غرفه (13) كانت في حينه مشتركه بين رفاق الجبهتين، فيها بتلك الفترة هاتفي خليوي، الأمر الذي مكن صاحبنا من أن يتواصل مع أسرته بشكل شبه يومي حسب الوضع الأمني بالسجن، ولأن القسم مختلط من الفصائل الأساسية كان الخروج إلى الفوره يتم بخروج نصفه مع قسم أخر والنصف الثاني مع قسم غير تلك التي تم إخراجها، مأخوذاً بالحسبان أن يخرج المجاهدين مع إخوانهم، ويخرج الرفاق مع رفاقهم وكذلك أسرى فتح.
وكان هناك اتفاق غير مكتوب بين الأسرى وإدارة السجن بأن يتم تفتيش الغرف التي تريد إدارة السجن تفتيشها حينما يكون سكان الغرفة بالفوره، في يوم جاء ضابط ومعه مجموعة سجانين إلى غرفه رقم (12) المجاورة لغرفة صاحبنا لتفيتشها، فرفض الأسرى وقالوا عندما نخرج للفوره تعالوا فتشوا كما تشاؤون، كان متبقي لفورتهم قرابة النصف ساعه، ولكن أصر السجانون على إجراء التفتيش فوراً، وبين أخذٍ ورد وتدخل ضباط أخرين ونقاشات، لم يصلوا لأي نتيجة، فماطل الأسرى بالرد حتى جاء وقت فورتهم، فوافقوا وفعلاً خرجوا وعبث السجانون بالغرفة بشكل استفزازي، وأسرى غرفه (12) أبعدوهم لمكان خارج الساحة، وبعد أن انتهوا من تفتيش الغرفة، انتقلوا للغرفة (13) التي يتواجد فيها الرفاق، وطلبوا منهم الخروج للتفتيش، علماً أن هذا ليس وقت فورة من هم في الغرفة، فرفضوا وقالوا لن نخرج إلا بوقت فورتنا وفق الاتفاق، أي تكرر الأمر كما الغرفة السابقة، ودارت جدالات بلا نتيجة، فأعلنت إدارة السجن حالة الطوارئ، بعد أن ضربوا جهاز الإنذار بكل السجن.
مضى وقت يقارب الساعتين وقد انتهى الوقت المحدد للفورات، حتما ذهب السجانون لتحضير أنفسهم وجلب القوات المخصصة للقمع في إدارة السجون وكان مقرها في سجني الرملة وبئر السبع، بعد أن حضرت قواتهم المدججة بأدوات القمع، دخلوا للساحة من أبوابها المتعددة حيث فيها أكثر من مدخل ومخرج وهذا كاستجابة للحاجات الأمنية، وجاؤوا مقنعين يحملون أدوات القمع، وحاصروا الأقسام، وأحضروا خراطيم المياه الشبيه بخراطيم مياه الدفاع المدني، ووقفوا على أهبة الاستعداد.
أما الأسرى في الغرفة هم أيضا يعرفون ما عليهم عمله، فقد لبسوا أحذيتهم الرياضة واللباس الطويل وحضروا البصل حيث يوجد بالغرفة عدة بصلات، كذلك أخرجوا ألواح خشبيه من تحت الفرشات وهذه الأخيرة جاءت الموافقة على السماح بوجودها خلال إضراب العام 1992، والغاية منها منع تسرب البرد لجسم الأسير من حديد السرير، لأن سماكة الفرشة لا يتعدى الخمسة سنتيمتر، في الغرفة أربعة شبابيك وباب وضعوا على كل شباك لوح من الخشب وعلى الباب لوح وربطوا الباب بكابل كهربائي بأحد الأسرة، أما الحمام فله أيضاً شباك يحتاج إلى نصف لوح وبالصدفة كان بالغرفة نصف لوح، توزعوا وفق تقسيمة المهام، فمن سيقف على الباب هم ثلاثة رفاق لصد الهجوم وعلى كل الشباك رفيقان وصاحبنا جاءت حصته أن يحمي شباك الحمام، اختاروا له هذا المكان ربما لأنه الأكبر عمراً بالموجودين والأقدم في الأسر، مع أنه حاول أن يكون ضمن الفرقة المتصدية للهجوم، وتوزعوا كل في مكانه المخصص له بعد أن أخرجوا كل المعلبات والأشياء التي يمكن استخدامها لضرب السجانين دفاعاً عن النفس، لأنهم سيصابون دون أي شك.
حضر الضابط في مقدمة السجانين وخلفه حملة مدافع الغاز والدروع البلاستيك بأيديهم ومزودين بالهراوات الكهربائية والبلاستيكية، صرخ الضابط هيا أخرجوا لنجري التفتيش وجاءهم نفس الرد بالرفض، حاولوا فتح الباب فلم ينجحوا، فبدؤوا بإطلاق قنابل الغاز على الشبابيك والباب، بدأ يتسرب الغاز بشكل خفيف، وأحضروا أدوات حديديه لقص الباب وفتحه، لكنهم نجحوا بأن أطلقوا من مدفع الغاز قذيفة من الفتحة التي يستعملونها لإدخال أو إخراج أشياء صغيره كالصحن وغيره، طبعاً هم من يتحكم بإغلاق هذه الفتحة وفتحها فمساءً يتم قفالها وبعد عدد الصباح يتم فتحها، ألحقوا قذيفة الغاز بعدة قنابل غاز أخرى وهذه جعلت من فضاء الغرفة دخاناً كثيفاً من الغاز، بصعوبة يمكنك مشاهدة الأخر، الجميع ملثمون بالبشاكير لمنع أو للتخفيف من استنشاق الغاز، بدأ الصراخ بالغرفة والشتائم، ولحقت كل الغرف بالضرب على الأبواب والصراخ والتكبير، يمكن القول أنه مضى عشرة دقائق إلى ربع ساعه حتى تمكنوا من فتح الباب، وحين دخلوا واجههم الرفاق بالمعلبات وكل ما أتيح لهم من أدوات ألقوها على السجانين، وكان الأكثر شراسة بالمواجهة وتصدر الضرب هو الرفيق مخلص، فقد كان ملاكماً ورياضياً عنيفاَ، استطاع مع الرفاق الاخرين إصابة ثلاثة سجانين، مثلما تمكنوا هم من إصابة أربعة رفاق، أحدهم كان مخلص الذي تلقى ضربة على فكه ولحق به أذى، والأخرين من الرفاق أصيبوا بجراح. منهم من كانوا يحمون الشبابيك أسقطوهم على الأرض وكالوا الضرب لهم بالعصي حتى أدموهم، أما جو الغرفة فكانت تغطيه سحب كثيفة من الغاز، ولو لم يضربوا قنابل أكسجين لاستشهد كل الرفاق من شدة كثافة الغاز.
صاحبنا بقي مدافعاً عن شباك الحمام وهو من الجهة الغربية للغرفة، حاولوا مراراً إبعاد اللوح الخشبي فلم يتمكنوا، عندما اقتحم السجانون الغرفة حاول صاحبنا الخروج للمشاركة بالاشتباك، لكن رفيقين دخلا للحمام وضغطوا عليه ليبقى حيث هو، بعد أن سيطروا على الوضع، بدأ السجانون بإخراج الأسرى واحداً تلو الأخر مكبلي الأيدي، وكان الصراخ بالسجن على أشده، أخرجوا الأربعة رفاق المصابين ، وأبقوا الأخرين، معتبرين أن إبقائهم بالغرفة أقسى عقاب حيث كان التنفس صعباً جداً ولا مكان يمكن الجلوس فيه أو عليه من كثرة المياه التي اغرقت الغرفة، أقفلوا باب الغرفة وانسحبوا، بقي صاحبنا مع رفاقه بالغرفة التي كل ما فيها غاز، وهي بالمناسبة ليس فقط مليئة بالغاز وإنما بالماء أيضاً من خراطيم المياه المخصصة لهكذا مواقف، بقيت حالة الطوارئ بالسجن وعادوا بعد ساعتين تقريباً إلى غرفه (13) وأخرجوا من تبقوا فيها واحداً واحد مكبلين إلى ساحة قسم بعيد نسبياً وأبقوهم هناك ربما لأكثر من ثلاثة ساعات خلالها لم يتركوا سنتيمتر واحد لم يفحصوه بالغرفة، فعثروا على جهازي الخليوي، وعبثوا بكل أغراض الغرفة سحبوا كل الأجهزة وألواح الخشب والفرشات وتركوا لكل أسير بطانيه، وكانوا رموا كل ملابس الرفاق على سرير واحد، وأصبحت هناك مشكلة في تعرف كل أسير على ملابسه الداخلية، أما الرفاق الأربعة المصابون فقد أخذوهم للمشفى ومن هناك لزنازين العزل الانفرادي، من الرفاق الذين تصدروا المواجهة وطاله ما طاله من غاز الرفيق عصمت منصور، وقد كان عضواً في لجنة الحوار عن الجبهة الديمقراطية.
هذه حياة الأسرى طابعها العام مواجهات وعقوبات وتنقيل وتنغيص واستفزاز وحرمان وقيود، كل هذا كان يعمق الحقد على الاعداء والكراهية للصهاينة وداعميهم والمتعاونين معهم.
بعد هذه الحادثة قررت إدارة السجون إفراغ سجن عسقلان لكثرة الإشكالات فيه، فبدؤوا بعمليات النقل للسجون الأخرى حتى قلصوا العدد في السجن وأبقوا فقط ثلاثة أقسام من أصل سبعه، في ذات العام جاء صاحبنا خبر استشهاد ابن شقيقته ابن السادسة عشره من عمره الشهيد ازهر حنني من كتائب الشهيد أبو علي مصطفى، من خلال مشاركته ورفيق أخر من حزب الشعب باقتحام مستوطنة ألون موريه المقامة على أراضي قرية سالم المجاورة لبلدته، كان وقع ذلك ثقيلاً ليس لأنه ناضل واستشهد إنما لأن عمره كان صغيراً، وما اندفاعته إلا بشكل عاطفي، كان يمكن أن يتم تعميق ارتباطه بالوطن والنضال لأجل تحريره ليكون شهيداً بقناعة وإصرار على اختيار طريق الكفاح . إلى جانب حزنه الكبير عليه شعر بفخر كبير أن من كان بعمر صغير جداً حين اعتقل صاحبنا بات شاباً ومقاتلاً وشهيداً، وهذا يؤكد أن المقاومة والكفاح من أجل فلسطين لن تتوقف بل الأجيال المتلاحقة ستحمل البندقية حتى تحرير كامل تراب فلسطين من نهرها إلى بحرها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى