مِنَ الأسر
الأسير المحرر أحمد أبو السعود
عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
عود على مرحلة السجن منذ بداياتها، حيث التركيز على الجانب الثقافي والتربوي ونعني فيه التربية الوطنية لزرع الروح الوطنية عميقاً في نفوس المناضلين، والتربية السلوكية أي الأخلاقية، في الجانب الوطني كلنا كأسرى ننهل من نبع واحد وهو الوطن والوطنية بمفهومنا الاستعداد العالي للتضحية والفداء، ومن جانب أخر التعامل مع أبناء الفصائل الأخرى بأخوة ورفاقيه حضارية عالية، والابتعاد عن التعالي أو الفئويه، فكلنا في المقام الأول في خنادق المقاومة الأولى للاحتلال هدفنا تحرير الوطن من الاحتلال، بعد ذلك يأتي البعد الخاص بكل تنظيم من حيث الثقافة والفكر سواء كان قومياً أو دينياً أو ماركسياً، حينها أمامنا متسع كبير للخلاف والاستقطاب والتنظير لكننا الآن في وسط حرب لن تتوقف حتى كنس الاحتلال عن وطننا أو سحقنا وإزالتنا كشعب من الوجود، وهذا بنظرنا مستحيل لأن شعبنا تشتت في بقاع الأرض فلو تم مسح جزء منه تبقى الأجزاء الأخرى وتواصل المشوار، وكما قيل فإن الشعوب لا تنهزم بل تنتصر في نهاية المطاف وشعبنا ليس شاذاً عن هذه القاعدة، والتربية السلوكية اليومية، اذ يوجد لكل الأسرى في السجن نظام حياة وضوابط موحده تضبط إيقاع حركة الأسرى بما هو مسموح وما هو ممنوع، إضافة إلى لوائح خاصه بكل تنظيم، فمن يخالف أي منها يقع تحت طائلة المساءلة والمحاسبة، لأن أي تهاون مع سلوك مغاير ومخالف للقوانين قد يعطي إدارة السجن ذريعة للانقضاض على الأسرى ومصادرة حقوقهم أو انجازاتهم التي لم تأت إلا بالدماء وعبر اضرابات طويله نتج عنها شهداء ومن أصيبوا بأمراض وأوجاع يصعب وصفها، هذه اللوائح تشكل قاعدة للتربية والانضباط وتدريجياً يصبح السلوك الوطني المنضبط عادة وسلوكاً طبيعياً.
انتظم صديقنا بالحياة الاعتقاليه واعتاد ضوابط وحياة الأسر وتأقلم معها، حتى أنه بعد أكثر من عام تم انتخابه مسؤول لإحدى الغرف وحين جرى تقيمه أشاد الرفاق بسلوكه وانضباطه وجديته ومثابرته، لكن أشاروا الى نقص المستوى الثقافي لديه وحاجته لرفع مستواه، وحين جرت الانتخابات تم انتخابه مسؤولاً للغرفة أو للخلية، وهذا يعني أنه اندمج تماماً بالعمل والحياة التنظيمية والاعتقاليه بكل تفاصيلها، لم يمض وقت طويل حتى جرى افتتاح قسمين اخرين وإحضار عدد من الأسرى إليهم من سجون أخرى، فبعد أن كانت المنظمة تتشكل من خليتين أصبحت الآن أربعه بعد مضاعفة العدد، فالسنة الأولى أمضاها بالقراءة والمطالعة والجلسات لسد النقص لديه ثقافياً، وأكيد يحتاج لوقت أكثر، بينما في السنة الثانية أضيف إليه العمل التنظيمي، حيث أصبح جزء من مرتبة قياديه وسطى تستحوذ على جزء هام من وقته وعلى حساب زيادة معارفه ووعيه الثقافي والفكري، وما إن مضى على وجوده عامين بالسجن وبات لديه علاقات متينه مع رفاق وأخوة وأعمال ودراسة واكتساب خبرات تنظيميه ومعرفة بالعمل الاعتقالي ولو نسبياً حتى جاءه في مساء أحد الأيام السجان ونادى على اسمه ليخبره بأن عليه أن يحضر أغراضه جاهزاً صباحاً لأنه سينقل إلى سجن جنيد في نابلس، انزعج لأن انتقاله من واقع يشعر بارتياح فيه بعد أن أحاط نفسه بعلاقات طيبه مع الأخرين، لكن سجن جنيد في مدينته أي لا تبعد قريته عن المدينة أكثر من سبعة كيلو مترات، وهذا سيسهل على أسرته زياراتهم ويخفف عنهم عناء السفر الطويل والمرير، امتزجت مشاعره بين الانزعاج وعكسه، وبكل الأحوال سواء فرح أو زعل لن يفيده شيئا فهذا قرار من إدارة السجون ويصعب رده أو رفضه.
بعد أن انتهى العدد المسائي من قبل ثلة من السجانين في القسم، كعادة الرفاق يتجمعون للجلسة لكنها ليست ثقافيه وإنما وداعيه، فيقدم كل منهم تقيمه للرفيق وتحميله وصايا وسلامات، وحتى ينتقد بعض سلوكه في حال رأى فيه سلوكاً مخالفا، فكما الاستقبال يوضع البزر والكولا أو القهوة والشاي، ويحملونه رسائل صغيرة الحجم لأنها وسيلة التواصل الوحيدة بين التنظيمات، فعادةً ما تحمل أخر أخبار السجن والعلاقات الوطنية وأهم الأنشطة في السجن وكذلك حول طبيعة العلاقة مع إدارة السجن، وتحميلها أخبار الاسرى بشكل عام، وقد تكون رسائل ذات طابع تنظيمي خاص بين قيادات التنظيم نفسه، يحمل ليس لرفاقه فقط إنما لأي تنظيم، وفعلاً احضروا له صباحاً عدداً من الكبسولات وحملها بالطريقة السرية، وبعد وقت قصير وإذا بالسجان ينادي عليه، فحمل أغراضه وخرج وسار به السجان حتى غرفة الانتظار، ثم جيء بعدد من الأسرى، واحداً منهم فقط للسجن المسافر إليه.
إنها المرة الأولى التي يتم نقله فيها من سجن نفحه، وهذا السجن يقع في وسط صحراء النقب وعلى أعلى قمة فيها، كانت فكرة إنشائه ليشكل منفى لأعداد من الأسرى المزعجين وفق تقيم إدارة السجون وقد اسمتهم أصحاب الرؤوس الحاميه، وهم قيادات الأسرى في السجون، حيث تم تصميمه على شكل قسمين صغيرين تتسع الغرفة الواحدة لثمانية أسرى فقط وكل قسم فيه خمسة غرف، أي مجموع المقرر إبعادهم أو نفيهم إلى نفحه ثمانين أسيراً، اعتقاداً من إدارة السجون أنهم حين ينفوا أو يعزلوا القيادات الأولى لكل تنظيم سوف يبقى جسم التنظيم بلا رأس وحينها تسهل السيطرة عليه، لكن حساباتهم جاءت معكوسة تماماً حيث من تسلموا القيادة بعد من تم نفيهم جاءوا أكثر صلابة وتمرداً وعنفاً، نسوا أن عمل القيادات بالسجون يقوم على القيادة الجماعية، فمن جاءوا أشد بأساً وعنفواناً، ما يعني أن إدارة السجون وقعت في ورطتين، الأولى تجميع القيادات المتمرسة في سجن صغير واحد والثانية أنها تعجز عن التفاهم مع القيادات الجديدة التي لا تساوم وتظهر العنف في أسلوبها،
طبعا الأسرى في سجن نفحه الذين تم نفيهم في الاشهر الأولى من عام 1980 رتبوا أمورهم وحددوا الرابع عشر من شهر تموز موعداً للبدء بإضراب مفتوح عن الطعام لتحقيق قائمة طويله من المطالب، حيث أن الظروف التي وضعتها إدارة السجون لهم شديده وصارمه لعقابهم وجعلهم عبرة للأخرين، تواصل الاضراب حتى شهر ونصف صاحبته حركه جماهيرية فلسطينية من أهالي الأسرى، جعلت كثيرين يسمعون بالإضراب ويساندونه، كما وقفت السجون الأخرى بإضرابات جزئيه اسناداً لمطالب المضربين.
مارست إدارة السجون قمعا بحق المضربين من حيث عمليات تنقيلهم بين السجون وقضاء أوقات طويله بالبوسطات، وبعضهم تم عزلهم في زنازين بسجون شمال فلسطين، وتعرضوا للضرب وحاولت إدارة السجون كسر إضرابهم لكي لا يشكلوا نموذجاً لباقي السجون وليحققوا الهدف الذي أقاموا السجن لأجله، من الأساليب العنيفة التي استخدموها بمحاولاتهم كسر إضراب الأسرى الضرب والعزل واستعملوا ما يسمى بالزونده أي جهاز لإدخال الحليب من الفم أو من الأنف الى المعدة والأسرى رفضوا وقاوموا ذلك، وأثناء ادخال الحليب بالقوة للمعدة كان البعض يتعمد ادخال الحليب للرئتين ما أدى الى ارتقاء الشهداء (علي الجعفري وراسم حلاوه) مباشرةً ولحق بهم الشهيد (اسحق مراغه) بعد سنتين أو ثلاثة، حينما نقول إدارة السجون المجرمة فهو قول حق ويعبر فعلاً عن جرائم ارتكبها السجانون بقصد وتخطيط وليس بشكل عفوي، انتهى الإضراب برضوخ إدارة السجون لمطالب الأسرى بعد أن حضر وفد من أعضاء البرلمان الصهيوني واطلعوا على وضع السجن وتم سن قانون يجيز تناول الحليب من قبل الأسير المضرب بإرادته وهذا لا يكسر إضرابه وقضايا أخرى، رضخت إدارة السجون وأصبحت الظروف في سجن نفحه لفترة ليست قصيره الأفضل بين السجون .
يتبع