مِنَ الأسر
الأسير المحرر أحمد أبو السعود
عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
رحلة امتدت قرابة الشهر منذ انتقال صديقنا من نفحه مروراً بسجن الرمله كمعبر إلى سجن جنيد، و بعد أسبوعين تقريباً، إلى سجن عسقلان، كان الرفاق في سجن جنيد قد عمموا على السجون تفاصيل الاعتداء عليه، وما إن حط بعسقلان حتى جاءه ممثل الرفاق بصحبة ممثل المعتقل ليتعرفوا عليه وثم ليستمعوا لما حدث معه، بعد أن جرت الطقوس الاعتيادية بالاستقبال من خلال اصطفاف الأسرى على جوانب الساحة وهو يصافحهم واحداً واحداً، سرد القصة على مسامع الرفيق والأخ ممثل المعتقل، وما تزال بقايا آثار الضرب على وجهه، رحبوا فيه مرة أخرى وحمل أحد الرفاق العمال أغراضه واصطحبوه إلى غرفه رقم 13 وهي خاصه بالرفاق، هذه الغرفة تقع في قسم أرضي يطل مباشرة على ساحة الفوره، وحظي باستقبال وتعارف مع الرفاق حيث كان نصف سكان الغرفة من الرفاق السوريين من هضبة الجولان ما اتح له التعرف عليهم بعد أن كان قد سمع عنهم حين كان بنفحه، ومنذ تلك اللحظة ارتبط بعلاقات وطيده مع غالبيتهم ومنهم الشهداء (مدحت صالح أبو جولان، وهايل أبو زيد، وسيطان الولي، ومع الرفيق صدقي المقت) وأخرين، هؤلاء الرفاق السوريين دخل بعضهم السجن وهم دون الثامنة عشره من أعمارهم، كانوا قبل اعتقالهم قد شكلوا تنظيماً اسموه حركة المقاومة السرية، واستمروا لسنوات يحملون هذا الاسم إلى أن تحرروا، حيث كان لهم رفاق كثر ومؤيدين من أبناء الجولان، وهم امتداد لبطولات خاضها أهل الجولان بالدفاع عن أرضهم المحتلة، ما يزال الأحياء منهم يعتزون بانتمائهم إلى سوريا ويفخرون بوطنهم الأم سوريا ويناضلوا من أجل تحرير الأرض السورية المحتلة.
لم يمض وقت طويل حتى قام الرفاق بنقله إلى غرفة أخرى خاصه برفاق الجبهة، ولما كان يحمل مرتبة أكبر من الخلية بدرجه، تم ضمه إلى الهيئة المتناسبة مع مرتبته، واندمج بالعمل هناك، ففي كل يوم يتعرف أكثر على الرفاق الذين كان عددهم قرابة المائة والخمسين، ويشكلون التنظيم الثاني عددياً بالسجن، وهم موزعون على عدة أقسام، ولديهم برامج ثقافيه وعمل تنظيمي ومتابعات، بدت الحياه في سجن عسقلان أوسع وأكبر مما في سجن نفحه، فحين يخرج للفوره أسرى قسمين يعني قرابة المئتين من الأسرى، حجم التفاعل كبير ويتطلب وقتاً للتعرف على الرفاق وأخوه ومجاهدين.
بعد عدة أيام من استقراره بسجن عسقلان وعلى ضوء الطلب الذي تقدم به ممثل المعتقل وممثل الجبهة لمدير السجن بالتحقيق بالاعتداء الدموي الوحشي على صاحبنا، حضر ضابط برتبة كبيره من إدارة السجون وطلب صديقنا وسأله عن ما حصل معه بسجن جنيد، فسرد له كل ما جرى، والضابط يسأل عن اسماء وتفاصيل وصاحبنا يقدم ما يعرف من معلومات وخاصة الاسماء، فكان يعطي أوصاف من لم يعرف اسمه، والكل يعلم أنه مجرد تحقيق وتوثيق للحدث ليس إلا، فلن تتم مساءلة أحد أو محاكمته أو عقابه لأن سياسة مصلحة السجون هي قتل وإهانة الأسرى والتضييق عليهم بقدر ما يستطيعون ذلك، وما حصل ما هو انتقام لأعماله النضالية ضد الاحتلال.
الوقت زاخر بأحداث الانتفاضة فكان عام 1989 فيه حضور انتفاضي شعبي واسع حتى أن بعض المناطق أعلنت العصيان المدني وخاصة بيت ساحور، وبدأت بعض عمليات تصفية العملاء تظهر وكذلك بعض الأعمال المسلحة من مجموعات النسر الأحمر في مدينة نابلس التابعة للجبهة الشعبية، وكذلك مجموعة الفهد الأسود التابعة لفتح أيضاً بنابلس ثم انتشرت المجموعات في أرجاء الضفة وقطاع غزه، إلى جانب ظهور حركة حماس من خلال كتائب عز الدين القسام، ولم يمض وقت طويل حتى ألحق العدو بهم ضربة باعتقال قيادات الحركة وفي مقدمتهم الشيخ أحمد ياسين والزهار وصلاح شحاده والسنوار ….. الخ، وشكلت حماس حضوراً من خلال عمليات نوعيه لأبنائها أدمت الاحتلال، ما دفعه الى إبعاد حوالي 400 أسير من حماس والجهاد الاسلامي إلى جنوب لبنان في عام 1991وهذا مكن الحركتين من التواصل مع الخارج والتدرب على السلاح وغيره وتزايد حضورهما بقوة تكبر بشكل مضطرد، بينما القيادة المتنفذة في م.ت.ف تسارع لاستثمار الانتفاضة عبر حل سياسي، وللأسف تدريجياً أوصلتنا تلك القيادة إلى مفاوضات مدريد ومن بعدها مفاوضات أوسلو السرية واتفاق أوسلو سيء الصيت والذي شق م.ت.ف وشق الشعب الفلسطيني عمودياً وأفقياً ومن هناك بدأ الانقسام بالساحة الفلسطينية.
وسارت تلك القيادة خلف سراب لم يحقق شيئاً ولم يقربنا من تحقيق لو جزء من أهدافنا، ومن ينظر للحلم بداية التسعينات بإقامة دولة فلسطينية والواقع الراهن يحزن على ألاف الشهداء ومئات ألاف الأسرى وأعداد لا تحصى من الجرحى والمعانيات والإبعاد ومصادرات الاراضي … الخ، ويتوج دور السلطة بعمل تنسيق أمني مع الاحتلال وملاحقة أبناء شعبنا بالتصفية الجسدية والاعتقال، وتتسع سيطرة المستوطنين على الضفة الفلسطينية ويعملون على اقتلاع الفلسطينيين إما بالقتل أو بالطرد والتهجير. ما يؤكد أن استرداد الحقوق المغتصبة لا يتم إلا بالعنف الثوري وليس بالاستجداء.
في سجن عسقلان الذي كان تعداد الأسرى السياسيين فيه حينذاك أكثر من خمس مائة أسير، فيه حركة نقل شبه يوميه قادمون جدد ومنقولون لسجون أخرى، والمواجهات والصدامات مع السجانين لا تتوقف حيث تجري عمليات تفتيش للغرف وتفتيش لكل أسير قادم للسجن أو يخرج منه، فلم تخلو زنازين العقاب من تواجد أسرى فيها، ولما دفعت قوات الاحتلال بأعداد من المعتقلين إلى معسكر للجيش في صحراء النقب ويضعونهم بخيام وحولها أسلاك شائكه، وازدياد الاعتقالات فاقم من الازدحام بالسجون ما دفع إلى عمليات نقل لمن تبقى لهم أحكام خفيفة إلى المعتقل الجديد في النقب والذي أصله كما ذكرنا معسكرا للجيش تم توسيعه ليتسع الآن لألفي أسير فلسطيني وعربي وربما أكثر، برزت ظاهرة الازدحام بالغرف، فالغرفة التي تتسع لعشرة أسرى يوضع فيها خمسة عشر والتي تتسع أصلاً لثمانية عشر فيها على الأقل 25، طبعاً ليست هذه المشكلة الوحيدة بل هناك الكثير من المطالب والمشاكل التي تؤدي إلى صدامات يوميه وكان الأبرز عمليات التفتيش المذل والمرفوض، فلطالما تعرضوا للضرب جراء رفضهم للتفتيش، تخيلوا صاحبنا بأحد المرات اصطحبوه الى المحكمة لأنه رفع شكوى ضدهم، وتم ربط الكلبشه بيده وطرفها الثاني بيد سجان وفي أرجله كلبشات، وحين عاد من المحكمة أصروا على تفتيشه بإنزال بنطلونه فرفض، وقال لهم السجان المربوط معه بذات الكلبشه ليس معه شيء لم أفارقه لحظه وهو مربوط معي، طلبوا منه ألا يتدخل بعملهم، فتعرض صاحبنا للضرب وخلعوا بنطاله بالقوة، حيث يوجد في السجن قوة قمع مخصصه لهكذا مواقف، رغم ذلك شعر صديقنا بارتياح في سجن عسقلان لأنه أقرب من سجن نفحه بسير ساعة بالباص وهذا يخفف على ذويه أثناء قدومهم لزيارته، وكذلك مجتمع الأسرى واسع ومتعدد بينما في نفحه الغالبية الساحقة من الأسرى من قطاع غزه، فقد أتيح له أيضاً التعرف إلى أسرى قدموا لتنفيذ عمليات من خارج فلسطين وكان من بينهم علي جمعه أبو أمجد الذي كان اسمه المستعار أمجد وحين تحرر من الأسر وعاد لوطنه تزوج من شقيقة رفيقه محمود الكردي وكان اسمه الحركي أو المستعار فهد.
وكذلك تعرف على رفاق أسرى الحزب الشيوعي اللبناني وأولهم أنور ياسين الذي تربطني به صداقة عميقه وأخرين من أسرى حزب الله ودوريات من فصائل أخرى من دول عربيه مختلفة كالعراق وليبيا والسودان وطبعا أعداد من الفلسطينيين من سوريا ولبنان والأردن، وأسرى أكراد كانوا ينتمون للقيادة العامة وغيرهم، معلوم أن العلاقات التي تنشأ في السجن فيها عوامل مشتركه تعمقها المعاناة المشتركة والآمال والطموحات المشتركة، فهي صداقات تدوم طوال العمر ولا ينتهي الحديث كلما حصلت لقاءات عن أيام السجون.
يتبع