آخر الأخبارتحليلات و آراء

مِنَ الأسر

الأسير المحرر أحمد أبو السعود
عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

 

صحيح أن الأسير يفكر بأهله وأسرته وخاصة حينما يكون متزوجاً وله أبناء صغار فيتساءل كيف يتدبرون أمورهم واحتياجاتهم، تغمره مشاعر الحنين والشوق لهم، مثلما يفكر بوالديه وكل أفراد أسرته، علماً أن الأهل والأقارب والرفاق والأصدقاء وكل المحيطين يلتفتون إليهم باهتمام لأن أباهم لم يتم الزج به بالسجن إلا من أجل القضية والوطن وليس لجنحة أو لأهداف شخصيه أو خاصه، لكن الصحيح أيضاً أن البيئة التي يعيش فيها الأسير هي بيئة ثوريه، فمنذ أن تطأ قدماه عتبة السجن الأول يجد العناية به وبمتطلباته واحتياجاته، والكل يتقرب منه بمودة وتقدير ويحاول أن يقدم له ما يستطيع، حتى لو كانت كلمات طيبه أو تشجيع. فيخلق هذا في نفسه الفة وارتياحاً، يساعده بأيامه الأولى على كسر الحواجز ودمجه بالأجواء العامة، فيقضي معظم وقته بالعمل المكلّف به وببرنامجه الذي يراكم من خلاله الخبرة والمعرفة.
في سياق المعرفة كان وصل إلى عسقلان أحد الأسرى الذين تحرروا عام 1985 وهو الرفيق علي القطاوي أبو صالح، فقد كان يمتلك خبرات اعتقاليه وقدره على نسج العلاقات الفصائلية ووعي أمني، باختصار جاء ليعبئ فراغاً نسبياً، ليتم الاكتشاف بأنه يملك ثقافة وقدرات كتابيه وخط جميل، وقدره على شرح وتبسيط أي قضية معرفيه أو سياسيه، كذلك من خلال أسلوبه المرح اجتماعياً وفهمه العميق لطبيعة موازين القوى بين الفصائل، نجح بتحويل العلاقات الفصائلية إلى علاقات أخويه وتفاهم كبير بين مجموع القوى بالسجن، ومن خلال ذلك سادت أجواء طيبه وتزايدت الأنشطة الوطنية.
في ظل تلك الأجواء شبه المستقرة اقترح أحد الرفاق بعمل دورة فكريه يقدمها الرفيق أبو صالح حيث كان عدد الرفاق حوالي مائه وأربعين رفيقاً، وفعلاً تمت الموافقة وترتيب الغرفة الأكثر اتساعاً للعدد وهي غرفه 13قسم ج، اذا تتسع لثمانية عشر سريراً وفيها عدد إضافي ينامون على الأرض سته أو سبعه أحياناً بسبب الازدحام بالسجون، أي أكثر من عشرين رفيقاً، وتم تحديد كتابي “المادية الجدلية والمادية التاريخية” باعتبارهما مع الاقتصاد السياسي تشكلا الأساس للنظرية الماركسية اللينينيه، بواقع جلسه يومياً، تقام مساء من السابعة وحتى العاشرة، كل الرفاق بالغرفة يشاركون بالجلسة ويحضّرون عشرة صفحات، يتم تكليف أحد الرفاق ليشرحها في غضون نصف ساعه تقريباً، ثم يتم توجيه الأسئلة إليه من الرفاق ويجيب بما يستطيع، بعد ذلك أي بعد ساعة تقريباً أو أقل قليلاً يتسلم إدارة الأمر أبو صالح الذي يعيد شرح المادة بتفصيل مبسط وبأمثلة من الواقع كي يفهم الأقل وعياً من الرفاق، وقد امتدت تلك الدورة ثلاثة أشهر ويمكن القول أن كل الرفاق حققوا فائدة كبيره ولكن بتفاوت، تمكن العديد منهم من امتلاك بدايات الوعي الفلسفي وخاصة الذين يشتركون بنقاش هذه المادة لأول مره، لم يقتصر النشاط الثقافي على هذه المادة باليوم الواحد، إنما هناك جلسات أخرى خاصة التنظيمية والسياسية، كانت فترة هدوء جرى استثمارها جيداً.
في غضون ذلك انفجرت الأزمة بين العراق والكويت من خلال دخول الجيش العراقي للكويت واحتلالها، وكان ذلك حدثاً غير عادياً كان له صدى هام على كل المنطقة وبالذات علينا كفلسطينيين، اذ هدد الرئيس العراقي صدام حسين بضرب الكيان الصهيوني بالصواريخ إذا ما تدخلت أمريكيا، في حينه كنا نقول أخطأ الرئيس صدام الاتجاه فكأن على جيشه أن يدخل للقدس وكل فلسطين بدل الكويت.
لقد انعكست تلك الحرب على السجن خاصة بعد أن بات التدخل الأمريكي وتشكيل حلف دولي لإخراج الجيش العراقي واقعاً، جرى التحضير لإمكانية ضرب صواريخ كيماويه، بأن تم تشكيل لجنة طوارئ بالسجن من الأسرى، ولجان بالأقسام بشكل وطني أي من الفصائل، وأبلغت إدارة السجن بذلك، من جهتها إدارة السجن خصصت غرفة بكل قسم كي يتجمع فيها الأسرى العاملون بالمردوانات ومن هم بالساحة عندما يضرب جرس الإنذار بالسجن، الذي يعني أن هناك صواريخ سوف تسقط وغير معلوم أين، إضافة الى وضع النايلون على الشبابيك والأبواب وتوزيع كمامات للحماية من الغازات السامه.
سادت أجواء تحفز وانتظار ليس من قبل الأسرى، بل من قبل السجانين الذين ظهر الرعب عليهم، فسقط 39 صاروخاً وفي كل دفعه كان الأسرى يلتزمون بلبس الكمامات ويواكبوا الأخبار عبر شاشات التلفاز وشاهدوا كيف كان أبناء شعبنا يصعدون لأسطح المنازل ليحيوا الصاروخ المار من فوق رؤوسهم، بينما يشاهدوا الصهاينة مذعورين يهرعون إلى الملاجئ، وانتهت الحرب للأسف دون أن يمس الكيان الصهيوني أي خسائر مما كان متوقعاً، بل إن الجنرال الأمريكي الذي قاد حكومة الكيان طوال فترة الحرب ضبط الايقاع وطبق السياسة الأمريكية، ما دلل على أن هذا الكيان ما هو إلا جزء من الكيان الأمريكي أو الاستعماري بالمنطقة.
كانت فرحة كبرى والأسرى يشاهدون سقوط الصواريخ في قلب الكيان لأنها المرة الأولى التي يتعرض فيها لقصف كهذا، وطبعاً توالى القصف في الأعوام التالية من قبل حزب الله وثم من قبل المقاومة الفلسطينية وبالذات من حماس أولاً وتلتها الفصائل الأخرى.
لكن ظروف الانتفاضة ما تزال تخيم على الحياه بشكل عام، والصراعات والصدامات تتزايد مع إدارة السجون، وسجن عسقلان خاصه، فقد تم تغيير مدير السجن بجلب مدير أكثر تشدداً وحقداً، فشرع يصادر بحقوق الأسرى كل أسبوع تقريباً، قلص مواد التنظيف التي كانت تصرف شهرياً، وقلص فترة الفوره ولم يتجاوب بتقليص عدد الأسرى الذي يأتون بهم يومياً تقريباً حتى اكتظت الغرف بشكل كبير، وكان الوقت نهاية عام 1991 تقريباً، يمكن القول أن أربعة أيام من الأسبوع يتم ارجاع وجبات الطعام فيها كاحتجاج على سياسة إدارة السجن، وقدمت رسائل للمدير ولمدير السجون دون أدنى استجابة، حتى طفح الكيل بأن أحضروا دفعة من الأسرى قبل العدد المسائي كي لا يتاح الاحتجاج على ذلك، فتم الاحتجاج من قبل ممثل المعتقل ولجنة التمثيل الاعتقالي التي تضم ممثلين عن الفصائل كافه، وبعد وعود من ضباط الإدارة والمدير بأنهم سوف ينقلون مقابل هذا العدد بعد أسبوع، لكن بعد أسبوع بدل أن ينقلوا عدداً من الأسرى، أحضروا آخرين وكان هذا يوم الخميس وهو موعد لزيارة الأسرى من قبل ذويهم من عدة مناطق.
يتبع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى