“يبيعون أوانيهم من أجل لتر حليب”.. لبنان يتجه لأسوأ مجاعة في تاريخه، واللاجئون في قلب الأزمة
أصبح اللبنانيون مهدَّدين بمجاعة حقيقية، بعد أن تأزمت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في البلاد، مع استمرار انهيار الليرة المحلية، وهو ما أثر على القدرة الشرائية لعدد من المواطنين، وأصبح يمس قوتهم اليومي، فيما باتت الوضعية أكثر صعوبة وتعقيداً لدى آلاف من اللاجئين، وهو الواقع الذي أصبح يعيشه محمد، أستاذ الاقتصاد السوري، اللاجئ في لبنان.
لاجئ سوري: لا يبدو محمد (30 عاماً)، مندهشاً عندما اهتز هاتفه بورود أخبار جديدة حول انخفاض قيمة الليرة اللبنانية، هز مدرس الاقتصاد رأسه وقال: “عظيم، صار راتبي الآن يعادل 60 دولاراً”.
وقف محمد في السوق الكائن داخل مخيم شاتيلا للاجئين، وكان يحاول أن يحسب كمية الطعام التي يستطيع تحمُّل ثمنها من أجله هو وزوجته وطفليه، وفي النهاية، قرر شراء البطاطس للعشاء: ثلاث ثمرات بطاطس مقطعة إلى شرائح، مع نصف ثمرة فلفل حمراء وبعض الخيار على الأطراف. سوف يكون هذا عشاء لأربعة أفراد.
قال محمد: “قبل أزمة الدولار، كان راتبي الشهري في وظيفة مساعد محاسب مستقل، يكفيني لـ 15 إلى 20 يوماً. والآن صار كافياً لخمسة أيام فقط. أعتقد أنهم ربما سوف يجعلوننا جميعاً نترك وظائفنا بنهاية يوليو/تموز… تجاوزت عائلتي بالفعل حد الكفاف الذي يمكننا مواصلة العيش به. نستدين من السوق كي نأكل بقية الشهر”.
ارتفاع مهول للأسعار: وفق تقرير لصحيفة The Telegraph البريطانية، الأربعاء 1 يوليو/تموز، فإن تقريراً حديثاً للأمم المتحدة، مع نهاية أبريل/نيسان، أكد أن أكثر من نصف البلاد سوف يعانون للحصول على الكفاف؛ نظراً إلى أن أسعار الطعام ارتفعت بنسبة 56% منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول. تُظهر النتائج الأولية أن أسعارها ارتفعت بنسبة 50% في المدة الواقعة بين منتصف مارس/آذار ومايو/أيار.
لما كانت الجائحة تسرع بهذا الانحدار، ارتفعت مستويات البطالة وانخفضت قيمة الأجور انخفاضاً شديداً، وتواصل الارتفاع الكبير في الأسعار. فضلاً عن أن لبنان يستضيف 1.5 مليون لاجئ، أي إنه يستضيف عدداً من اللاجئين أكثر من أي بلد آخر في العالم على أساس نصيب الفرد.
قال مارتن كيوليرتس، الأستاذ المساعد في برنامج أمن الغذاء لدى الجامعة الأمريكية في بيروت: “استطاع اللاجئون تحمُّل (شراء) بعض الطعام في الماضي، من خلال الإعانة الممنوحة من برنامج الأغذية العالمي”.
كما أضاف كيوليرتس: “كانوا قادرين على استهلاك بعض العدس واللبنة وما إلى ذلك، لكن الخضراوات كانت نادرة والفاكهة كانت صعبة، أما اللحوم فلم تكن واردة. ما يقلق بشدةٍ الآن هو أن أغلبية الشعب اللبناني يواجه مساراً مماثلاً”.
فهل يمكن أن يتجه لبنان نحو تكرار مجاعة 1915-1918، التي فُقد خلالها نصف تعداد السكان؟ أجاب كيوليرتس عن هذا السؤال قائلاً: “بكل تأكيد”.
أضاف أيضاً: “بحلول نهاية العام، سوف نشهد تحوُّل 75% من السكان للعيش على الصدقات الغذائية، لكن السؤال هو: هل سيكون هناك طعام للتصدق به؟!”.
قبل أن يتابع: “بكل تأكيد سوف نشهد خلال الأشهر القليلة القادمة سيناريو خطيراً للغاية، وفيه سوف يتضور الناس جوعاً وسوف يموتون من الجوع ومن التداعيات الحادة للمجاعة”.
من جانبه، قال عبدالله الوردات، مدير برنامج الأغذية العالمي بلبنان، في حديثه مع صحيفة The Telegraph، إن البرنامج يقدّر الآن أن 83% من السوريين المقيمين هنا، المقدر عددهم بـ1.5 مليون سوري، يعيشون بأقل من 2.90 دولار يومياً، وهو الحد الأدنى الضروري لبقائهم على قيد الحياة جسدياً ووضعٌ يتماشى مع الفقر المدقع.
ثمة زوج من الركائز الأولية لأمن الغذاء، حسبما يفسر المسؤول في برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة. أولاً: أن يكون هناك طعام كافٍ داخل البلاد، وثانياً: أن يملك الناس القوة الشرائية للوصول إليه.
يواجه لبنان ضربة مزدوجة تطال كلتا الركيزتين في الوقت نفسه.
أما هاني بوشالي، رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية والمنتجات الاستهلاكية والمشروبات، قثال إن الواردات انخفضت بالفعل بنحو 50% في العام الماضي.
تدخُّل وعملة أجنبية: ما يفاقم من معاناة مستوردي الغذاء أنهم الآن مجبرون على شراء 80% من العملة الأجنبية اللازمة لشراء الواردات بأسعار السوق السوداء الآخذة في الزيادة.
بحسب كيوليرتس، يحتاج لبنان نحو 500 مليون دولار سنوياً لواردات الغذاء، لا سيما نظراً إلى أن 13% فقط من أراضيه صالحة للزراعة.
أضاف الأستاذ بالجامعة الأمريكية في بيروت: “إذا حسبت الحسابات، فستجد أن لبنان يستطيع إطعام نحو 130 ألف شخص فقط سنوياً. تحتاج أزمة الغذاء تدخلاً أجنبياً؛ إذ إن إنقاذ هذا البلد أرخص بكثير من أن يُسمح بانهيار بلدٍ قدّم خدمة لأوروبا عن طريق استضافة اللاجئين”.
في كل ربوع البلد الصغير المطل على البحر الأبيض المتوسط، تصير الطبقة المتوسطة فقيرة وينزلق الفقراء نحو العوز، في ظل ارتفاع أسعار الغذاء لمستويات تتجاوز إمكانات أغلب الأشخاص.
كساد تجارة اللحوم: امتلك محمد كريم، البالغ من العمر 60 عاماً، محل جزارة في وسط بيروت لأكثر من 40 عاماً. قال كريم: “كنت أبلي بلاءً حسناً قبل الأزمة، وكنت أجني مليوناً أو مليوني ليرة. وكنت مشغولاً للغاية ولا أتوقف طوال اليوم”.
يدفع كريم 200 ألف ليرة يومياً من أمواله الخاصة؛ كي يحافظ على استمرار عمل جزارته. وأوضح قائلاً: “الأشخاص الذين اعتادوا شراء كيلوغرامات (من اللحم)، لم يعودوا قادرين على تحمُّل شرائه، لذا عندما يأتون يشترون بالغرامات”.
كان سعر كيلو اللحم في جزارة كريم يعادل 11 دولاراً، لكنه يبيع كيلو اللحم الآن بما يعادل 33 دولاراً، بعد أن أُجبر على رفع السعر بثلاثة أضعاف منذ أكتوبر/تشرين الأول.
وأردف قائلاً: “إذا استمرت الأزمة الاقتصادية، من يعرف، فربما لا أستطيع فتح الجزارة غداً. إنني أدفع كل يوم من أموالي كي أُبقي الجزارة مفتوحة، وسوف أصاب باكتئاب إذا بقيت في المنزل”.
ومثل كل شخص يعيش من مدخراته، يبدو كريم غير متأكد من المدة التي سوف يستطيع فيها مواصلة العيش بهذه الطريقة.
خبز: وبينما تخلو المطاعم من مرتاديها، امتدت الطوابير أمام المخابز في نهاية الأسبوع، وسط أنباء بأن الخبز لن يُوزع على المحال والأسواق التجارية، بسبب انهيار العملة.
صارت مشاهدة الأشخاص وهم يبحثون عن الطعام في القمامة والطوابير الطويلة من الأشخاص المنتظرين توزيع الإعانات، شيئاً مألوفاً في مدينة كانت منذ عهد ليس ببعيد مكاناً للأغنياء والمشهورين.
في ظل نفاد النقود واستمرار هبوط القوة الشرائية للبنانيين المتوسطين، يبرز نوع من اقتصاد المقايضة. وبينما تصل أسعار السلع إلى ثلاثة أضعاف أسعارها الأصلية، يمتلئ فيسبوك رويداً رويداً بمنشورات لأشخاص يحاولون مقايضة ممتلكاتهم الشخصية مقابل الضرورات الأساسية.
إذ كُتب أسفل إحدى الصور التي تُظهر مجموعة من كؤوس الشراب: “للمقايضة مقابل عبوة حفاضات وي وي، وعبوة حليب كليو”