80 ألف مسلم قُتلوا خلالها.. مَن المتسبب في عودة شبح الحرب الأهلية للبوسنة بعد ربع قرن من الهدوء؟

“تجلس البوسنية المسلمة دجيفا يساريفيتش مع أقارب الرجل الصربي الذي قتل زوجها”، لتحتسي القهوة وتحاول مثل جيرانها أن تنسى ما حدث قبل 26 عاماً في الحرب الأهلية البوسنية.

تدردش مع جيرانها الصرب، وهم أنفسهم مَن أمروها هي والبوسنيين الآخرين حين اندلع القتال عام 1992، بمغادرة منازلهم قرب مدينة بانيا لوكا، التي تُعَد الآن جزءاً من منطقة الحكم الذاتي لصرب البوسنة.

وعادت دجيفا بعد الحرب مع عائلتها وبقيت وهي عازمة على المضي قدماً، عادت وهي أفقر من أن تذهب إلى أي مكانٍ آخر.

وفي عموم البلاد، كان البوسنيون والصرب والكروات يقومون بالشيء نفسه: محاولة نسيان أعمال القتل والكراهية وانعدام الثقة، التي خلَّفت أكثر من 100 ألف قتيل، معظمهم من البوسنيين (البوشناق)، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Times البريطانية.

لكنَّ تحركاً الآن من جانب الساسة الصرب للانسحاب من المؤسسات الرئيسية بالبوسنة قد أدخل البلاد في أزمة، ما أثار مخاوف من نشوب صراع جديد، وأعاد الذكريات القديمة التي كانت قد دُفِنَت عميقاً بعد توقيع “اتفاقية دايتون” لعام 1995.

دولة مقسمة لكيانين

أوقفت اتفاقية دايتون الحرب وأنشأت دستوراً جديداً للبوسنة والهرسك، البلد الذي يتألَّف الآن من مدينة واحدة ذاتية الحكم، برتشكو، وكيانين شبه مستقلين: الاتحاد الفيدرالي البوسني، الذي يسكنه بوسنيون مسلمون وكروات إلى حدٍّ كبير، وجمهورية صرب البوسنة (صربسكا)، المنطقة ذات الغالبية الصربية التي تقطنها يساريفيتش.

قالت يساريفيتش، وهي سيدة ذات شعر أحمر تبلغ من العمر 60 عاماً، وهي جالسة في غرفة معيشتها الخالية المليئة بالدخان ومُحاطةً بمَن تبقّى من عائلتها: “نجلس كل ليلة ننتظر أن يقتلنا أحدهم. الآن لا نرغب إلا في العيش. فقط الساسة من كل الأطراف هم مَن يثيرون كل هذا. إنَّهم يكذبون علينا، كلهم”.

لكنَّها أضافت بنظرة قلقة: “فعلناها من قبل، نزحنا سابقاً، كنا نعيش على التوت من الغابة. ويمكن أن نفعلها مجدداً”.

زعيم صربي يحرك هذه الفوضى

كان المحرك وراء هذا التصعيد هو ميلوراد دوديك (62 عاماً)، وهو أحد رؤساء البوسنة الثلاثة الذين ينتمي كلٌّ منهم إلى مجموعة عرقية مختلفة. وهو شعبوي صربي بارز هيمن على السياسة في جمهورية صربسكا لعقود. كان ذات يوم ليبرالياً مُحبَّباً للغرب، لكنَّه أصبح متشدداً أكثر فأكثر في حماسته القومية، وهو مقرب من الرئيس بوتين، ولو أنَّه معجب أيضاً برئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون.

وقد أعلن، الأسبوع الماضي، بعد تصويت من النواب الصرب في البرلمان، أنَّ جمهورية صربسكا ستبدأ الانسحاب من المؤسسات البوسنية الرئيسية، وضمنها الجيش، مشعلاً ما يقول الدبلوماسيون والسياسيون في البلد إنَّها أكبر أزمة بالبلاد منذ التسعينيات.

مخاوف من تجدد الحرب الأهلية البوسنية

غرَّد مات فيلد، السفير البريطاني لدى البوسنة، الأسبوع الماضي، بأنَّ “الهجمات” على مؤسسات الدولة مثل القوات المسلحة، غير قانونية ومزعزعة للاستقرار وتُحركها الطموحات السياسية الشخصية. وتبحث البلدان الغربية فرض عقوبات على جمهورية صربسكا وبعض ساستها.

في مقابلة مع صحيفة the Guardian البريطانية، قال العضو الصربي في القيادة الثلاثية للبوسنة والهرسك ، ميلوراد دوديك، إنه لن يردعه غضب لندن وواشنطن وبرلين وبروكسل.

ورفض زعيم صرب البوسنة المتهم بالمخاطرة بالحرب من خلال تفكيك البوسنة والهرسك التهديد بالعقوبات الغربية، وألمح إلى قمة وشيكة مع فلاديمير بوتين، قائلاً: “لم أُنتخب لأكون جباناً”، وأردف قائلاً “بوتين والصين سيساعدان بلادنا إذا فرض الغرب عقوبات”.

الحرب الأهلية البوسنية
الجنرال الصربي البوسني السابق راتكو ملاديتش الذي مثل أمام المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في لاهاي بهولندا/رويترز

وحذَّر قادة البوسنيين السياسيون من أنَّ البلاد تنزلق نحو حربٍ جديدة. فقال رامز سالكيتش، نائب رئيس جمهورية صربسكا المنتمي للعرقية البوسنية، في رسالة عبر البريد الإلكتروني إلى صحيفة The Times: “دوديك هو الضالع والمُتسبِّب الرئيس في كل الأنشطة التي تهدف إلى تعريض سلام واستقرار البوسنة والهرسك للخطر. وأجد أنَّنا في هذه اللحظة بالذات قد اقتربنا جداً من تعريض السلام للخطر مادياً، وهو الآن أقرب ما يمكن للخطر منذ توقيع اتفاقية دايتون للسلام”.

وقال سالكيتش، الذي قضى فترة في المعسكرات الصربية خلال الحرب وأُعدِمَ والده واثنان من إخوته، إنَّ دوديك –رغم نفيه- سيحاول قيادة الجمهورية نحو الانفصال عن البوسنة.

وكتب: “وإذا لم يجرِ منع دوديك من تحقيق أهدافه، فإنَّ العودة إلى العنف ستكون ممكنة ومُرجَّحة”.

يرى أن إنشاء البوسنة والهرسك كان خطأً

وفي ظل طوفان الضغوط والانتقادات، ما يزال دوديك غير نادم. وقال لـThe Times البريطانية، الأسبوع الماضي، بمقر مؤسسات جمهورية صربسكا في بانيا لوكا، عاصمة الإقليم بحكم الأمر الواقع، إنَّه “كان خطأً أن تستمر البوسنة والهرسك في الوجود” بعد 1995. وأضاف: “كانت لدينا اتفاقية دايتون، وكنا نحاول طوال 26 عاماً إنجاحها، لكنَّها ليست ناجحة”.

وصوَّر نفسه بأنَّه زعيمٌ لشعب يسعى إلى التحرر من تدخل المجتمع الدولي في الشؤون الداخلية البوسنية.

فبعدما أوقفوا الحرب، يظل ممثلون من حكومات أجنبية، بينها المملكة المتحدة، متدخلين بقوة في شؤون الحكم اليومية بالبوسنة عبر “مكتب الممثل السامي” –الذي عُيِّن لضمان تطبيق الجزء المدني من اتفاقية دايتون- ووجود ثلاثة قضاة دوليين في المحكمة الدستورية البوسنية.

ادَّعى دوديك أنَّه يريد العودة إلى أسس دستور عام 1995، الذي مُنِحَت فيه مناطق الحكم الذاتي سلطات أكبر.

وقال: “كثيرون يثيرون ضجة، قائلين إنَّ الصراع يمكن أن يقع هنا. لكنَّ ضمان السلام أولوية هنا”.

وهو يضغط من أجل مزيد من الحكم الذاتي للصرب في البوسنة، وليس الاتحاد مع بلغراد، ورَفَضَ تحمُّل أي مسؤولية عن تصاعد الخطاب القومي ومخاوف عدم الاستقرار، ويلقي بدلاً من ذلك باللوم في كل شيء على المجتمع الدولي.

وقال: “البوسنة والهرسك هي المستعمرة الوحيدة في أوروبا. إنَّها خاضعة لإدارة الأجانب الذين يُملون أفكارهم هنا”.

كانت المملكة المتحدة وأمريكا وروسيا وفرنسا وألمانيا قد عملت معاً في منتصف التسعينيات من أجل إيجاد نهاية للحرب التي كانت قد بدأت عام 1992 في خضم انهيار يوغسلافيا.

وأذكى القادة السياسيون التوترات القومية والعرقية التي كانت قد قُمِعَت في ظل الشيوعية.

هكذا قتل بعضهم بعضاً

يقول البوسنيون والكروات إنَّ العدوان الصربي هو الذي بدأ الحرب الأهلية البوسنية. ويقول الصرب إنَّها بدأت من جانب البوسنيين والكروات، الذين أرادوا فصل البوسنة عن يوغسلافيا.

اندلع العنف وسط حالة عدم الاستقرار، فانقلب الجيران على الجيران وفرَّ الصرب والكروات والبوسنيون على حدٍّ سواء إلى مناطق البلاد التي تهيمن عليها مجموعاتهم العرقية، وإن كان المسلمون هم الأقل تعرضاً للعنف والأقل ممارسة له.

حُفِرَت الخنادق، وتشكَّلت خطوط الجبهات، ووقعت جرائم مروعة مثل مذبحة الإبادة الجماعية في سربرينيتسا، التي قُتِلَ فيها أكثر من 8 آلاف رجل وصبي مسلم على يد وحدات جيش صرب البوسنة تحت قيادة راتكو ملاديتش، الذي قاد تنفيذ هذه الجريمة رغم أنه أخبر المدنيين المذعورين بألا يخافوا، ثم شرعت قواته في مذبحة لم تتوقف لعشرة أيام.

وقتل البوسنيون والكروات صرباً أيضاً.

ثم انتهت الحرب عام 1995، دون معالجة المظالم التي كانت قد تسببت فيها.

فقالت عايدة داغودا، مديرة “مركز النهوض بالمجتمع المدني”، وهي منظمة معنية بشؤون المجتمع المدني في سراييفو: “من الواضح الآن أنَّ الحرب لم تتوقف قط، لقد أُوقِفَت مؤقتاً وحسب. وهنالك خوف من الحرب بالنسبة لي أنا شخصياً، لأننا جميعاً مصابون باضطراب ما بعد الصدمة في هذا البلد”.

ذكريات العنف ما زالت تمثل كابحاً، ولكن المدارس الصربية تتجاهل جرائم الحرب

هنالك الآن أسلحة متوافرة أقل مما كان في التسعينيات، وذكريات العنف ماتزال حية في أذهان كثيرين. لكنَّ المخاوف تتزايد من إمكانية أن يؤدي اشتعال فتيل، في ظل الخطاب القومي المصاعد، إلى اندلاع أعمال عنف متفرقة، بما يؤدي إلى عواقب لا يمكن التنبؤ بها إلى حدٍّ كبير.

وفي مدينة بانيا لوكا، الأسبوع الماضي، يقول الناس إنَّهم غاضبون من الطبقة الحاكمة –الصربية والكرواتية والبوسنية على حدٍّ سواء- مُتَّهِمين إياها بإذكاء المشاعر القومية لأهداف سياسية.

فيقول فيليبور تريبيتش (43 عاماً)، وهو مصور فوتوغرافي كان يعيش على خطوط الجبهة طيلة الحرب: “حتى لو أرادوا دفع الناس إلى الحرب بسبب الانفصال، فسيكونون وحدهم مع أصدقائهم الأثرياء… إذا ما حدث أي شيء، فسأكون أول مَن يجمع أغراضه وأطفاله ويرحل”.

ويُعلِّم هو وزوجته، درازينكا، طفليهما الجرائم التي ارتكبها كلا الجانبين في الحرب، لأنَّهما في المدرسة لا يتعلمان إلا وجهة النظر الصربية.

وقالا إنَّ أولئك الذين يتذكرون الحرب لا يريدون عودتها. وقد اتفق معهم الأسبوع الماضي كثيرون في مركز مدينة بانيا لوكا الذي يعود تاريخه إلى قرون.

وقال أحد الصرب في الخمسينيات من عمره: “إذا ما اندلعت الحرب، فسآخذ بندقيتي وأقتل السياسيين الذين بدأوها”، مضيفاً أنَّه على الرغم من أنَّه خاض الحرب، فلديه أصدقاء مقربون من البوسنيين.

80 % من القتلى كانوا من المسلمين

كان نصف قتلى الحرب، الذين بلغ عددهم 100 ألف شخص على الأقل، من المدنيين. قُتِلَ البعض في القتال، واستُهدِفَ آخرون من الجيران أو العصابات الإجرامية. كان 80% ممَّن قُتِلوا من البوسنيين المسلمين. ووفقاً للدراسات الأكثر شمولاً حول قتلى الحرب، قُتِلَ نحو 24 ألف صربي، 20 ألفاً منهم جنود.

ومع أنَّ كثيراً من الصرب لا يتفقون مع أساليب دوديك العدوانية، فإنَّ هذه الأساليب تضرب وتراً حساساً وعاطفياً. فهناك اعتقاد واسع الانتشار بين الصرب بأنَّهم عُوقِبوا بصورة جماعية، وأنَّه في حين حُوكِمَ مجرمو الحرب من جانبهم وسُجِنوا، عُومِل أولئك المنتمون للطرف الآخر بصورة أكثر تساهلاً.

وقال أحد سياسيي المعارضة البارزين في جمهورية صربسكا، إنَّ هذه الأزمة بالذات بدأت بفعل قرار الممثل السامي قبل الأخير، فالنتين إنزيكو، في نهاية يوليو/تموز، لإصلاح القانون الجنائي البوسني حتى يصبح إنكار الإبادة الجماعية في سربرينيتسا أمراً يُعاقَب عليه بالسجن.

وبالنسبة لكثير من الصرب في البوسنة، نُظِر إلى التعديل الذي قدَّمه الدبلوماسي النمساوي باعتباره خطوة مناهضة للصرب. وقد تسببت في غضب واسع النطاق بجمهورية صربسكا وإشادة في الاتحاد الفيدرالي البوسني.

وخلال الحرب، جرى تجنيد كثير من الصرب –شأنهم شأن الكروات والبوسنيين- في الجيش دون وجود أي خيار حقيقي أمامهم في هذه المسألة.

قالت ليليا سولاك (39 عاماً)، والتي تعمل بمجال المبيعات في بانيا لوكا: “كان الخيار أن تذهب إلى الحرب أو إلى السجن”.

في كرة القدم يشجعون صربيا وليس البوسنة

ولم يعتد كثير من الصرب قط على الروح الوطنية في جمهورية البوسنة والهرسك، على الرغم من أنَّهم قد يقولون إنَّهم لا يحملون أي كراهية للبوسنيين أو الكروات، حسب الصحيفة البريطانية.

وتغيَّرت بانيا لوكا من كونها مدينة مختلطة إلى مدينة ذات غالبية ساحقة من الصرب، في ظل نزوح البوسنيين والكروات إلى الاتحاد الفيدرالي البوسني واستقرار الصرب من مناطق البلاد الأخرى في جمهورية صربسكا.

ويعتقد معظم الصرب في البوسنة اليوم أنَّهم سيُبلون بلاءً أفضل في ظل دولة مستقلة. وحين تُلعَب كرة القدم، يُشجِّعون كلهم تقريباً صربيا وليس البوسنة.

تخلى كثير من أصدقاء ليليا وزوجها عن مستقبلهم في البوسنة وسافروا إلى الخارج. وتراجع عدد سكان البوسنة منذ الحرب بصورة كبيرة، ومايزال مستمراً في التراجع. وتضم جمهورية صربسكا رسمياً 1.3 مليون نسمة، ولو أنَّ كثيرين يعتقدون أنَّ الرقم الحقيقي أقل بكثير.

قالت ألكسندرا (22 عاماً)، والتي تعمل بمجال الضيافة في بانيا لوكا: “إذا وقعت الحرب، فمَن سيخوضها؟ رحل كل الشباب”.

وفي المنطقة المحيطة بمنزل يساريفيتش، بقي نحو 10% فقط من السكان مقارنةً بفترة ما قبل الحرب. فباتت معظم المنازل مهجورة، وأنوارها مُطفأة، ونوافذها مغلقة. يعيش أصحابها في السويد أو ألمانيا أو النمسا أو هولندا، ولا يعودون إلا في الصيف. وتكسب يساريفيتش قُوتها من رعاية عجوز تعيش أسرته في أمريكا وترسل لها المال شهرياً. لكن في ظل وجود أطفال وأحفاد ينبغي دعمهم، قالت إنَّ ذلك بالكاد يكفي للعيش.

وأضافت: “لم نعد نكترث، نريد فقط أن يحظى أطفالنا وأحفادنا بحياةٍ أفضل. حياتي كلها هي الاعتناء بهم وحسب. لقد عشنا حياتنا، وقد وهنّا، إنَّنا فقط بانتظار الموت”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى