مونتسيكيو.. كاتب غير تاريخ الفكر السياسي العالمي

في مثل هذا اليوم، 18 يناير من عام 1689 ولد رجل غير تاريخ الفكر السياسي في العالم، إنه شارل دي سيكوندا المعروف باسم “مونتيسكيو” الذي استطاع أن يؤسس لمبدأ فصل السلطات الذي تعتمد عليه العديد من الدساتير عبر العالم.

ولد “مونتسكيو” في جنوب غرب فرنسا بالقرب من مدينة بوردو، لعائلة أرستقراطية، وتلقى تربية محافظة، إلا أنه أظهر تمرده بالتدريج وواصل دراسة الفيزياء والرياضيات والعلوم الطبيعية، لكنه تفرغ للفلسفة ووقف في وجه التعصب السائد في عصره ودرس الحقوق وعمل بالقضاء. 

حين نشر مونتسيكيو كتابه الذي أصبح شهيرا فيما بعد، خاف أن يضع عليه اسمه، فيفقد حريته أو يتعرض للأذى لكن كتاب “روح القوانين” الذي ظهر في عام 1748، أصبح نصا ملهما لكل من جاء بعده في الفكر السياسي وخلد اسم صاحبه في تاريخ التنوير الأوروبي وانضم الى قائمة طويلة من المفكرين الذين واجهوا مرحلة استبداد النظم الأوربية، حين ظهر تأثير روايات فولتير اللاذعة، ونظريات روسو الداعية إلى تطبيق المنهج الديمقراطي في الحكم القاضي بحكم الشعب بالشعب.

كعادة مفكري عصره، لجأ مونتسيكيو في بداياته إلى تقنية الكتابة الساخرة وصاغ أفكاره المتمردة من وراء قناع، وظهر ذلك جليا في كتابه الأول “رسائل فارسية” وانتقد فيه نظم الحكم الأوروبية التي تقوم على الاستبداد، وجلب له الكتاب شهرة كبيرة ومكنه من أن يصبح عضوا بالأكاديمية الفرنسية للعلوم بعد سنوات من عضويته في البرلمان عام 1714.

ونال مونتسيكيو شهرة كبيرة بسبب حملاته العاصفة على رجال الدين ونفاقهم في كتابه “اعتبارات وخواطر حول سياسة الرومان”.

ومن المثير أن كتاباته لم تكن تعتمد فقط على النظر في أفكار الآخرين وتحليها، وإنما لجأ كذلك إلى المشاهدة والاستقصاء المباشر وقام بجولة استغرقت 3 أعوام، زار خلالها إيطاليا والنمسا والمجر، وسويسرا، والبلدان الواطئة، وإنجلترا لدراسة أشكال الحكم المختلفة، ومدى ملائمتها لعادات الشعوب وتقاليدها، وتأثير البيئة على عادات السكان وتقاليدهم.

وبعد عودته بدأ التبشير بأفكاره التي صنعت شهرته، وفي عام 1734 نشر كتابا تحت عنوان “الملكية العالمية” قام بتقسيم الشعوب إلى شمالية وجنوبية، وادعى أن الفرق في المناخ هو السبب الأساسي للاختلاف بين شعوب الشمال وشعوب الجنوب، واستعملت هذه الفكرة طويلا لتبرير صور التمييز والاختلاف.

وفي العام 1748 نشر مونتيسكيو كتابه “روح القوانين” في جنيف في 31 جزءا, وفرق بين 3 أنواع من أنظمة الحكم: الأول الملكية حيث يرث الحاكم فيه السلطة، والثاني الديكتاتورية عندما يحكم الحاكم وحده دون حدود قانونية ويثبّت حكمه بواسطة إرهاب المدنيين، أما النوع الثالث فهو الجمهورية حيث يحكم الشعب عبر ممثلين عنه يتم انتخابهم.

وانحاز مونتسيكيو إلى النظام الأخير ومع ذلك ظل متحفظا إزاء فكرة الانتقال بين الطبقات ولم ير أنّ عامة الشعب مستحقين أن يحكموا.

ودعا بوضوح إلى الفصل بين السلطات الثلاثة التنفيذية والتشريعية والقضائية وقال إن كل نظام حكم عليه أن يصبو إلى ضمان حرية الإنسان، ومن أجل ذلك يجب الفصل بين السلطات والحفاظ على توازن بينها.

وبسبب ما أثار الكتاب من جدل وضع في سنة 1751 على القائمة السوداء “Index” المحرم قراءتها.

وعلى الرغم من أن أفكار مونتسيكيو ولدت في قلب التحولات التي عاشتها أوروبا قبل الثورة الفرنسية وبعد سنوات من رسوخ التجربة البريطانية عام 1688، إلا أن آباء النظام السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية كانوا الأسرع في التفاعل مع أفكار مونتسيكيو التي تشكل الآن نواة للدستور الأمريكي وإعلان حقوق الإنسان.

وكما يقول المحلل السياسي الفرنسي ريناس بنافي إن إسهامَ مونتسيكيو الأصيل في النظرية السياسية يقومُ على تصوُّر مقيَّد للسلطة، وعلى مبدأ تجزئتها، من أجل تحقيق المبدأ الاجتماعيّ العامّ، المتعلّق بحمايةِ حريّة الأفراد السياسيّة، وكفالتها وهي الفكرة التي صاغت حركة النضال الديمقراطي في العالم كله ولا تزال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى