منجم ذهبٍ منسيّ.. كيف يمكن لأملاك الدولة المساعدة في إنعاش لبنان اقتصادياً؟

يعيش لبنان في خضم أزمة مالية ومصرفية وأزمة عملات وديون. وتتفاوض حكومته على حزمة إنقاذ مع صندوق النقد الدولي، وعلى إعادة هيكلة لدين البلاد العام الذي تفوق استحقاقاته 175% من الناتج المحلي الإجمالي، بعجز تقديري في الميزانية يصل إلى 15%.

لطالما ركّز صانعو السياسات العامة في جميع أنحاء العالم وفي لبنان أيضاً، على إدارة الدين لإعادة التوازن إلى اقتصاديات البلاد. ومع ذلك، فإنهم تجاهلوا إلى حد كبير السؤال المتعلق بكيف يمكن للأصول العامة والعقارات أن تسهم بطريقة ما في التخفيف من حدة المشكلة؟

منجم ذهب

يرى كل من لداغ ديتر مستشار الاستثمار والرئيس السابق لشركة Stattum السويدية القابضة، وناصر السعيدي الاقتصادي والوزير السابق ونائب محافظ البنك المركزي اللبناني، أنه يجب على لبنان إنشاء صندوق وطني لإدارة ثرواته، للعمل على رفع قيمة الأصول العامة إلى الحد الأقصى، ومن ثم معالجة أزمة العجز عن سداد الديون بطريقة أفضل.

وبحسب مقالة منشورة للرجلين الاقتصاديين في صحيفة Financial Times البريطانية، فإن الحكومات في جميع أنحاء العالم، وفي لبنان، تمتلك أصولاً عامة بتريليونات الدولارات. هذه الأصول تخفي داخلها إمكانية التحول إلى منجم ذهب تساعد عائداته في مكافحة أزمات الديون، أو على نحو أوضح هي بمثابة جبل جليد، لأن قليلاً من ثرواتها فقط هو ما يمكن لمستثمري السندات السيادية رؤيته.

على الصعيد العالمي، يقدر صندوق النقد الدولي أن الأصول العامة تبلغ قيمتها على الأقل ضعف قيمة الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ومع ذلك، فغالباً ما تُدار تلك الأصول بطريقة سيئة، وفي كثير من الأحيان لا تدخل في الحسابات على الإطلاق. غير أنه، وبالنظر إلى أن الأصول العامة في معظم البلدان قيمتها أكبر من الدين العام، فإن إدارتها بطريقة أفضل يمكن أن يساعد في حل عديد من قضايا الديون، وأيضاً توفير رأس المال اللازم للنمو الاقتصادي في المستقبل.

قد لا تلفت فكرة الثروات التي تنطوي عليها الأصول العامة نظرَ أي شخص مطلع على الجزء التشغيلي من محفظة الأسهم والسندات الحكومية في لبنان. ومع ذلك، فإن لها دوراً أساسياً في الاقتصاد لأنها تعمل في قطاعات مهمة يعتمد عليها الاقتصاد بنطاقه الأوسع. ولهذا السبب تحديداً، لا يمكن التقليل من أهمية الشركات المملوكة للدولة ذات الإدارة الجيدة.

ما الأصول العامة في لبنان؟

تشمل الأصول العامة اللبنانية مرافق أساسية، مثل مؤسسة “كهرباء لبنان” ومرافق المياه والبنية التحتية للنقل العام مثل المطارات وشركة طيران الشرق الأوسط وشركة “أوجيرو” لبنان للاتصالات، بالإضافة إلى “كازينو لبنان” و”إدارة حصر التبغ” اللبنانية، وغيرها. غير أن معظم هذه الأصول تصنف على أنها لا تفي بمصاريفها وفي كثير من الحالات تستنزف الخزانة العامة للدولة (يمثل العجز المتعلق بمؤسسة كهرباء لبنان 30% من عجز الميزانية).

ومع ذلك، فإن هذا ليس المكان الذي يكمن فيه بالضرورة الحصة الأكبر من الثروة. فالحصة الغائبة حقيقةً عن التصور السائد تكمن في العقارات المملوكة للحكومة. إذ يمكن أن تكون القيمة الاقتصادية للعقارات العامة تساوي على الأقل قيمة الناتج المحلي الإجمالي، وغالباً عدة أضعاف قيمة الجزء التشغيلي من أي محفظة حكومية.

ومع ذلك، فإن القيمة المضمّنة في العقارات المملوكة للحكومة مخفيةٌ إلى حد كبير تحت السطح الظاهر، بسبب فشل القطاع العام في اعتماد محاسبة الاستحقاق الحديثة على النحو الذي أوصى به “مجلس معايير المحاسبة الدولية” لأصول القطاع العام. وغالباً ما يفضي التعتيم المحيط بقطاع العقارات إلى عدم وجود سجل عقاري دقيق يعتمد على تسجيل الأراضي بنظام يستند إلى “نظم المعلومات الجغرافية” (GIS) وهي نظم حاسوبية تعمل على جمع وصيانة وتخزين وتحليل وإخراج وتوزيع البيانات والمعلومات الخاصة بالعناصر الجغرافية والمكانية.

وفي كثير من الأحيان، فقط أزمة حقيقية هي التي يمكنها أن تستدعي الإرادة السياسية اللازمة لإجراء تغييرات جريئة. وفي هذه الحالة، يجب أن يكون التغيير هدفه التأكد من أن كل قرش يُولد من زيادة في العائد القادم من الأصول التجارية هو في الوقت نفسه قرش مخصوم من التخفيضات المفروضة على الميزانية أو الزيادات المفروضة في الضرائب.

كيف يمكن معرفة قيمة هذه الأصول؟

الخطوة الأولى لكشف القيمة المحتملة للأصول العامة هي عن طريق تعيين وكالة متخصصة مستقلة لهذه المسألة. ويجب ألا يكون هذا محل جدل أو خلاف. فمعظم الحكومات في جميع أنحاء العالم تفوّض بالفعل إدارة العديد من العمليات المالية الحكومية لمؤسسات متخصصة مستقلة. على سبيل المثال، تُنقل إدارة الدين الحكومي إلى مكتب إدارة دين في الخارج، ويفوض بنك مركزي بتحديد أسعار الفائدة. والسبب الأساسي في تفويض السلطات لجهات محترفة ومتخصصة، هو أنه يتوقع منهم أن يكونوا مستقلين سياسياً ومحايدين، كما أنهم يمكن مساءلتهم بيسر عن مدى التزامهم وتحقيقهم لأهداف محددة بدقة.

ومن ثم إذا أُديرت الأصول العامة بطريقة احترافية كهذه، يمكن تصور أنها قادرة على توليد عائدات قيمتها 3% في المتوسط من الناتج المحلي الإجمالي السنوي، إلى كفة إيرادات الحكومة، وفقاً لصندوق النقد الدولي. وهذا الدخل يمكن استخدامه لإعطاء دفعة إلى الاستثمارات في البنية التحتية والخدمات العامة الأخرى. كما يمكن أن تساعد التحسينات في إدارة الثروات العامة، والمنظمة بطريقة صحيحة، في كسب الحرب ضد الفساد من إخلال إدخال الإمكانيات المتخصصة للقطاع الخاص، وعلى رأسها الشفافية ومعيارية الأهداف التجارية وعزل التأثيرات السياسية، من خلال شركات قابضة مستقلة، مثل صناديق إدارة الثروات الوطنية. وهذا من شأنه أن يحلّ بضربة واحدة معضلتين أساسيتين في عصرنا (وكلاهما موجود في لبنان): نقص الاستثمار في البنية التحتية بسبب تراكم الدين العام وخدمة الدين، وعرضة الديمقراطيات للحوكمة السيئة فيما يتعلق بضعف مكافحة الفساد وتآكل سيادة القانون وغيرها.

صناديق إدارة الثروات الوطنية للإنقاذ

وبادئ ذي بدء، يجب التشديد على أن تُدار الأصول التجارية العامة بشفافية كاملة، طبقاً لمعايير الشركات المدرجة. ويجب أن تكون جميع تكاليف الفرص المضمّنة واضحة في مراجعات الميزانية لمختلف الخدمات العامة والدوائر الحكومة المستخدِمة لتلك الأصول. بعد ذلك، يتعين إجراء جرد متكامل للأصول العامة واعتماده، بحيث تأخذ القيمة السوقية لكل أصل يخضع للتقييم في الاعتبار إمكاناتِ الاستخدام البديلة، بغرض تعظيم العوائد المحتملة من ورائه. وهذا من شأنه أن يجبر المديرين على تصميم وتطوير خطط عملٍ شاملة لجميع الأصول، ما يتيح استغلال كل أصل من تلك الأصول بالطريقة الأكثر إنتاجية، وفي الوقت نفسه الكشف عن أي استخدام لأصلٍ دون المستوى الأمثل.

الخطوة الثانية فيما يتعلق بتحرير الثروة العامة تكمن في الفصل ما بين إدارة الأصول التجارية العامة وصناعة السياسات. فكما يتضح على مدار قرن من التجارب الخاصة بإدارة الأصول العامة في كل من آسيا وأوروبا، فإن أفضل طريقة لإدارة الأصول التجارية العامة هي من خلال شركة قابضة مستقلة –صندوق لإدارة الثروات العامة الوطنية- بعيداً عن التأثيرات السياسية قصيرة المدى. وكما هو الحال في القطاع الخاص، سيتبع ذلك الالتزام بمعايير حوكمة الشركات والمعايير المحاسبية المقبولة دولياً. ولا يمكن أن تكون هناك إدارة محترفة للأصول التجارية العامة بدون هذا المركّب من المعايير والوسائل. ومن ثم، فإن فصل الوظيفة التنظيمية داخل الحكومة عن تملك الحكومة للأصل العام بطريقة واضحة وشفافة من شأنه أن يعزز إمكانية جذب استثمارات القطاع الخاص والاستثمارات الأجنبية المباشرة، وكذلك تحسين الخدمات المُقدمة للمستهلكين.

ماذا سيستفيد لبنان؟

في الحالة اللبنانية من المنطقي أن تولي صندوق سيادي لبناني لإدارة الأصول العامة يمكن أن يساعد البلاد في صياغة خطة شاملة للاقتصاد الكلي، وخطة هيكلية لمعالجة الأزمات المتعددة في البلاد.

وسيكون الهدف الرئيسي بعد ذلك استخدام الشركة القابضة لإعادة هيكلة الأصول العامة، ومكافحة الفساد المتوطّن من أجل زيادة الكفاءة والإنتاجية، والتأسيس لحوكمة فعالة للشركات.

كما أن صندوق ثروات وطني يُدار بكفاءة من شأنه أن يضع حداً لاستنزاف ميزانية الحكومة ومواردها، ويرفع من قيمة الأصول التجارية العامة، ويوفر الإيرادات، ومن ثم يكون مساهماً رئيساً في الاستدامة المالية “إمكانية الحفاظ على القدرة المالية للمنظمة أو الشركة على مر الزمن، وإيجاد طرق لاستخدام الموارد بطريقة تمنع استنفادها”. بالإضافة إلى أن إدارة الأصول بكفاءة أكبر ستسهم في ارتفاع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي “إزالة آثار التضخم، على سبيل المثال”، وخفض تكاليف تشغيل القطاع الخاص.

إذا أديرت تلك الخطوة على النحو الصحيح، فإنها ستعزز الثقة في التصنيف الائتماني للبنان، وتخفض تكلفة الاقتراض في السوق الدولية، ما يعود بالنفع على المجتمع ككل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى