ثقافة وأدبثقافة وفنون

العنف بين الثقافة المكتسبة والغريزة

الحلقة الأولى

بقلم : سليم الزريعي

لا يمكن لمن يمتلك حدا أدنى من الإحساس الآدمي كونه إنسانا، إلا أن يخجل كإنسان؛ من دموية هؤلاء القتلة المحسوبين على بني البشر وللأسف الإسلام أيضا؛ جراء تصرفاتهم، تنفيذا لما يحملونه من تفسير فكري تعسفي للنص الديني تمحور حول نفي الآخر ماديا، لمجرد أن وهمه صور له أن هذا الآخر مناقض له.

ضد الإنسانية

وإذا كانت تلك المشاهد الوحشية قد بررها عقل هؤلاء بشروط العيش في حقب تاريخية معينة، وفقا لمنطق القوة ونظرية الحق في الحرب وخرافة الجنس الأسمى لدى بعض الشعوب، فإنه من غير المقبول بالمعنى الإنساني أن يستمر هذا البعد الحيواني الوحشي في شخصية البعض رغم التطور الحضاري البشري بأبعاده الثقافية والفكرية والاجتماعية، الذي يصر على أن يبقى محكوما وحاكما للآخرين، وفق تلك الرؤية غير الآدمية.

ويبدو مجافيا لكل القيم أن تظهر قيم العنف سواء في بعده المادي أو المعنوي لدى هؤلاء؛ في وقت قطعت فيه الإنسانية أشواطا بعيدة في محاولاتها المتواصلة لأنسنة الحياة البشرية، والقطع مع كل التراث البشري الذي رافقه فيه العنف بمختلف تجلياته؛ خاصة في جانب العنف غير المشروع بكل أشكاله.

ولعل السؤال المركزي هنا هو؛ كيف يفترض لإنسان سوي على صعيد الفرد أو المجموعة، أن يبرر سلوكه الوحشي وغير الآدمي، بل ويؤدلج هذا السلوك برده إلى النص الديني؛ متكئا فيه بشكل تعسفي على قراءة مجتزأة وقسرية وربما غير صحيحة للنص، بأن يمارس وبشكل متعمد سياسة تغييب الوعي لمن يوجه له خطابه، من أجل دفعه باتجاه تبني هذه الثقافة المفارقة لكل قيم التحضر والتجربة الإنسانية، التي تجاوزت كل ما من شأنه أن يمس كرامة وحق الإنسان في أن يعيش حرا من أي إكراه مادي أو معنوي.

وهذا العنف غير المشروع لا يمكن نسبته إلى إنسان سوي، الذي هو في تجلياته المختلفة سلوك يحط من قيمة الإنسان ليعيده إلى درجة أدنى من  الإنسان.

وفي تأصيل هذا العنف فإني أعتقد أنه نتاج طاقة كامنة تعود لبعد غريزي لم يتم ضبطه؛ أو الفشل في أنسنته،  ليصبح من السهل بروزه  كلما تم استدعاؤه بكل هذه الدموية والتوحش، عندما تُظَهِّر هذه الغريزة من حالة الكمون؛ الثقافة غير الإنسانية، أي ثقافة الكراهية والعنف التي هي وعي مكتسب مشوه بالضرورة.

ولأن السلوك هو محصلة لحالة غريزية يحتويها الوعي المكتسب، فإننا نقدر أنه كلما زاد الحضور والوعي الثقافي الإيجابي تراجع السلوك السلبي، حتى يصل إلى حد  يجري فيه تحييده، ويُبطِل فاعليته، حتى وإن لم يستأصله تماما.

مصادر العنف

ومع ذلك فقد تضاربت الآراءُ حول مصادر العنف، بين قائلين بغريزية العنف (لورنتس) وبين قائلين بأنه صفة مكتسبة (سكينِّر)، التي تعود جذورهما إلى الخلاف بين المنظِّرين والعلماء منذ عصر النهضة؛ ثم إلى الخلاف بين المناهج التقدمية، التي كانت تقول إن “الرذيلة” نتاج للظروف الاجتماعية، وبين المناهج المحافظة، التي حاولت أن تثبت أن التنافس بين البشر يعود إلى غريزة متأصِّلة لصالح كمون العنف في أعماقهم. (1)

ويعرف البعض العنفَ في معناه العام؛ على أنه كلُّ خطابٍ أو فعلٍ مؤذٍ أو مدمِّرٍ يقوم به فردٌ أو جماعةٌ ضد أخرى، ويميّز العلماء بين نوعين من العنف: «العنف الشرعي» بوصفه حقّاً للسلطة المقبولة اجتماعياً، كي تسيطر على «العنف غير الشرعي» المهدِّد للمجتمع، وغير المصدّق عليه اجتماعياً، ويشير هذا التقسيم للعنف إلى التعارض بين «الحق الاجتماعي» الذي يقره  القانــون والمــكانة والعادة أو القبول الاجتماعي، و«التبرير الأخلاقي» الذي يقره الاستنجاد بالتعاليم الدينية والاحتكام إلى المبادئ والحجج الأخلاقية.

إذ يمكن لشخصٍ في موقع سلطةٍ قانونية، أن يقوم بفعل شرعي، ولكنه غير أخلاقي، وبالمقابل، يمكن أن يقوم عضوٌ في مجموعة اجتماعية محسوبة شريرة، بعملٍ غير شرعي، ولكنه أخلاقي.

ويُعتبر الموروث الديني مصدراً بارزاً من مصادر تشريع العنف المقدس، ومسوّغات استخدامه من قِبل بعض الأفراد والجماعات الدينية والجهادية والتكفيرية، باعتباره جزءاً أصيلاً من عقيدتهم وتاريخهم.

حتى ليمكن القول إنّ بعض الأفراد الذين وصلوا إلى عتبات العنف المرتفعة جداً يتصرفون وكأنهم مبرمجون وراثياً، ليكونوا عنيـفين وعدوانيين، ما أدّى إلى ما نراه من غــرق المجتمعــات الإسلامــية في متـاهات مفرغة من العنف الذي شرّعه وهم الإيمان الديني، أو التقييم المعرفي للعنف القائل: إنّ العنف هو تعبيرٌ عن الغضب والاحتجاج والإحباط، وهو وسيلةٌ مقبولة ومطلوبة لدفع المظلومية وتحاشي وقوع عنفٍ أعظم ولإصلاح المجتمعات وحسم الصراع بين الخير والشر، الحق والباطل، الكفر والإيمان، أي أن العنف لم يعد خياراً، يمكن للفرد استخدامه من أجل الحصول على ما يريده، بل صار حتميةً وضرورةً في كل زمان ومكان.

وبعد العثور على التبرير الديني والأخلاقي، يُسخِّر هذا المفكّرُ المقدّسَ الدينيَ، لخدمة أهدافٍ خاصة، فإنه يستخدم «المنهج الانتقائي» في الاستشهاد بالآيات والنصوص والأحداث التاريخية، معتبراً إيّاها ـ بعد تجريدها ممّا تلبّس بها من ظروفٍ بيئية وزمانية وتركيباتٍ نفسية ونظمٍ أخلاقيةٍ واجتماعية ومعرفية خاصّة ـ رُخصةً أو إذناً يشجع على استخدام العنف المتفلّت من أيِّ ضوابط، بل ويحضُّ عليه.

وبنتيجة هذا التشويه الأيديولوجي والتلاعب بالمقدس الديني، نجد أن الصراعات الدموية والتكفير والإخراج من الملّة والتعصب والاحتراب والقتل، هي ظواهر موجودة بكثرة في تاريخ الثقافة الإسلامية، وقد بلغت حدّ اللامعقول واللامفهوم وحدّ العبث، بعدما تحولت شرعية استخدام العنف بوجه المعارضين والمخالفين، إلى سلاح تمّ استعماله بأشكالٍ عشوائية مختلفة في أزمنةٍ مختلفة، بغرض التخلّص من الخصوم الفكريين والسياسيين.

كذا أصبح الموروث بكل رموزه وتأويلاته وقصصه مصدراً مهماً من مصادر تشـريع وتبرير ممارسة العنف على النفس وعلى الآخرين، استغلّته البعض…لتسويغ وتفعيل ممارساتها السياسية والسلطوية  ولإرساء معايير ومفاهيم وتشريعات ومعتقدات بعينها، من خلال إعادة ترميز العنف، عبر إعادة تفسير «التجربة الأولى»، والتي انتهت إلى تأصيل وتكريس نزعات العنف المتوحّشة في مجتمعاتنا(2) .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى