ماذا حققت فرنسا بعد 8 سنوات من القتال في الساحل؟ باريس تلجأ لطريقة واشنطن تقليلاً لخسائرها
ويواجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مأزقاً حقيقياً، خصوصاً بعدما تعرض حزبه “الجمهورية إلى الأمام” لهزيمة ساحقة في انتخابات الأقاليم قبل نحو 10 أشهر من الانتخابات الرئاسية، ما يجعله يبحث عن مخرج من منطقة الساحل التي تستنزف باريس بشرياً ومادياً دون تحقيق أي نتيجة ملموسة.
وكانت باريس قد أطلقت عملية “برخان” العسكرية في منطقة الساحل الإفريقي، منطقة نفوذها الاستعماري القديم، قبل 8 سنوات لمواجهة تنظيمي القاعدة وداعش، دون أن تحقق الهدف الرئيسي وهو القضاء على تلك الجماعات المسلحة، في موقف مشابه كثيراً للحرب التي شنتها الولايات المتحدة في أفغانستان قبل 20 عاماً في إطار ما سمته واشنطن “الحرب على الإرهاب”.
ورغم أن قرار إنهاء عملية “برخان” اتخذ نهاية 2020، فإن باريس اتخذت من الانقلاب الثاني في مالي، الذي وقع في 24 مايو/أيار الماضي، مبرراً لانسحابها “المبهم” من منطقة الساحل.
وكانت مالي قد شهدت في أغسطس/آب 2020 انقلاباً عسكرياً أطاح بالرئيس إبراهيم أبوبكر كيتا، وتم تنصيب مجلس انتقالي يدير البلاد وصولاً إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية كانت مقررة العام المقبل 2022، وفي ذلك الوقت لم يُدن الرئيس الفرنسي الانقلاب، لكن عندما قام الكولونيل آسيمي غويتا باعتقال الرئيس باه نداو ورئيس الوزراء مختار وان واحتجازهما في قاعدة عسكرية، لم يتأخر ماكرون وأعلن على الفور إدانته “وبأكبر قدر من الحزم” ما وصفه بأنه “انقلاب داخل الانقلاب”.
البحث عن بديل أوروبي لملء الفراغ في الساحل
وحذر ماكرون زعماء المنطقة بأنه “لن يبقى إلى جانب بلد لم تعد فيه شرعية ديمقراطية ولا عملية انتقال” سياسي. لكن الرئيس الفرنسي لا يريد الانسحاب فوراً من الساحل، حتى لا يظهر أمام شعبه كمن عاد يجر ذيول الهزيمة من الساحل، قبل أقل من عام على الانتخابات الرئاسية، كما أنه لا يريد الغرق في الرمال المتحركة بالمنطقة.
وهذا الموقف يظهر مدى صعوبة المعادلة التي يحاول ماكرون حلها، فالرأي العام الفرنسي لا يتفهم بقاء جنوده ليقتلوا في الصحراء الإفريقية دفاعاً عن أنظمة “غير ديمقراطية”، في الوقت الذي تنظر إليهم شعوب المنطقة كمستعمرين جدد ويطالبونهم بالرحيل.
ولكن ماكرون لا يريد أن يترك أحد أهم مراكز نفوذ بلاده في إفريقيا لقمة سائغة للروس والصينيين على وجه التحديد، خاصة بعدما خسر جمهورية إفريقيا الوسطى، التي أصبحت شركة فاغنر الروسية تصول وتجول فيها عقب إنهاء فرنسا عملية “سانغاريس” العسكرية في 2016.
لذلك فالخيار المطروح أمام باريس والذي مهدت له منذ أشهر، يتمثل في تدويل الحرب على الإرهاب في منطقة الساحل، من خلال توريط حلفائها الأوروبيين أكثر في هذا الصراع، ودفع الولايات المتحدة إلى تحمل عبء أكبر في المنطقة، مع إبقاء باريس لقواعد عسكرية في كل من تشاد والنيجر ومالي وبوركينافاسو.
وتحشد فرنسا نحو 5100 عنصر من قوات برخان في المنطقة، بينما تشكل الولايات المتحدة القوة الأجنبية الثانية في المنطقة بنحو 1100 عنصر، لكن دورها يقتصر على التدريب وتقديم الدعم اللوجسيتي والاستخباري.
ففي يوليو/تموز 2020، أطلقت وزارة الدفاع الفرنسية عملية “تاكوبا” العسكرية، التي تضم المئات من القوات الخاصة لعدة دول أوروبية، بالإضافة إلى الجيش الفرنسي، والتي من المتوقع أن تخلف برخان.
وهذا يعني أن فرنسا ستبقى حاضرة في الساحل، لكن مع توزيع الأعباء المالية والخسائر البشرية على بقية الدول الأوروبية.
ويخفف هذا القرار الانتقادات المحلية والأممية من الانتهاكات والجرائم التي ارتكبتها القوات الفرنسية في الساحل، وأبرزها قتل عشرات المدنيين في غارة جوية على عرس وسط مالي، بحسب تحقيق أممي، رفضت باريس الإقرار بما تضمنه من شهادات ودلائل.
ولا تبدو الولايات المتحدة متحمسة كثيراً لقيادة عملية عسكرية في الساحل، خصوصاً وأن استراتيجيتها الجديدة في مكافحة الإرهاب تسعى لتقليص حجم تواجدها في المناطق الساخنة والاكتفاء بتوفير التدريب والدعم اللوجيستي للجيوش المحلية.
أما الدول الأوروبية فمازال تدخلها العسكري في الساحل محتشماً، خاصة أن المنطقة فقيرة من حيث الموارد، ومصنفة ضمن مناطق النفوذ الفرنسي، ولا مصلحة كبيرة لهذه الدول في القتال بدلاً من الأطراف المعنية مباشرة بهذا الصراع.
هل تقع روسيا في فخ رمال الساحل؟
وتمثل روسيا أحد البدائل المطروحة أمام دول الساحل لملء الفراغ الفرنسي، خاصة أن العديد من المظاهرات التي خرجت للتنديد بالتواجد الفرنسي في مالي والنيجر كانت تنادي بالتحالف مع روسيا.
فروسيا وريثة الاتحاد السوفييتي، تحقق في السنوات الأخيرة عدة اختراقات في مناطق النفوذ الفرنسي، من بوابة التعاون العسكري وتوريد السلاح.
ولطالما وقف الاتحاد السوفييتي إلى جانب شعوب المنطقة في التحرر من الاستعمار الفرنسي، ودعمها في مرحلة الاستقلال، قبل أن يتراجع هذا النفوذ مع نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي.
وتسعى روسيا لاستثمار الفشل الفرنسي في الساحل على غرار ما فعلته في جمهورية إفريقيا الوسطى، لكنها قد تكرر نفس الأخطاء الفرنسية، ما يؤدي إلى استنزافها هي الأخرى. فقد تبتلع رمال الساحل الروس كما ابتلعت الفرنسيين، وموسكو لديها تجربة سيئة في أفغانستان عندما احتلتها ما بين 1979 و1989.
وعمل الأمريكيون على استنزاف السوفييت في أفغانستان طيلة 10 سنوات، حتى أُنهكوا اقتصادياً وبشرياً وعسكرياً، واضطروا للانسحاب، وبعدها وفي أقل من 3 أعوام انهار الاتحاد السوفييتي وتفكك.
بعد عقد آخر، وقع الأمريكيون في نفس الخطأ الذي أسقط الاتحاد السوفييتي وقبلهم البريطانيون والهنود، فاحتلوا أفغانستان، ودخلوا في حرب استنزاف طيلة 21 عاماً، خسروا خلالها ما بين 800 مليار و3 تريليونات دولار، بحسب مصادر مختلفة، ليقرروا أخيراً الانسحاب منها دون أن يتمكنوا من القضاء على عدوهم الصغير (حركة طالبان).
وفي الساحل، لم تستطع فرنسا الصمود أكثر من 8 سنوات، بالنظر إلى إمكانياتها الاقتصادية والعسكرية المحدودة مقارنة بالولايات المتحدة. فبعدما أطلقت باريس عملية سرفال في 2013، لوقف زحف المتمردين الطوارق والجماعات المتشددة المقربة من القاعدة في شمال مالي، شكلت عملية برخان لتمتد إلى كامل دول الساحل الخمس (مالي والنيجر وبوركينافاسو وتشاد وموريتانيا).
وإن وجهت برخان وقوات دول الساحل الخمس ضربات قوية للتنظيمات المسلحة في المنطقة، إلا أن العنف تفجر على نطاق واسع وامتد من شمال مالي إلى معظم دول الساحل، بل إلى دول غرب إفريقيا المدارية، وفي مرحلة ثالثة وصل إلى قلب إفريقيا الاستوائية وحتى جنوبها الشرقي.
ويعبر هذا التمدد الواسع للجماعات المتطرفة في الجغرافيا الإفريقية أحد أبرز تجليات “الفشل الاستراتيجي” للجيش الفرنسي وخططه. ولتفادي سيناريو الاستنزاف، الذي وقعت فيه واشنطن في أفغانستان وباريس في الساحل، تعتمد موسكو أسلوب الحرب الهجينة، من خلال استعمال شركة فاغنر، التي توظف بضعة آلاف من المرتزقة، في حروبها المختلفة.
بحيث إن أي هزيمة لفاغنر لا تعني بالضرورة هزيمة لروسيا، التي لا تتبنى رسمياً هذه الشركة، بل لا تسمح قوانينها بإنشاء شركات أمنية، ما يترك لها مجالاً ولو محدوداً للمناورة. إذ تعرضت فاغنر لعدة ضربات وهزائم في شرق سوريا وفي غرب ليبيا وشمالي الموزمبيق، دون أن يحرج ذلك موسكو.
انسحاب على الطريقة الأمريكية من أفغانستان
ومنذ إعلان الرئيس الفرنسي، في 10 يونيو/حزيران الجاري، استبدال برخان بتحالف دولي أوسع، تشهد دول الساحل ارتفاعاً حاداً في العنف الذي ينسب معظمه لجماعات متطرفة تابعة للقاعدة أو داعش.
وهذا الوضع مشابه لما يجري في أفغانستان منذ قرار واشنطن الانسحاب منها ما أدى لتصعيد طالبان هجماتها على أطراف المدن الرئيسية. ففي 25 يونيو/حزيران، أصيب 15 جندياً ألمانياً من القوات الأممية في مالي في هجوم بسيارة مفخخة، وقتل قبله بنحو يوم 19 مدنياً في غرب النيجر بالقرب من الحدود مع مالي.
وفي 21 يونيو/حزيران، أصيب 3 جنود فرنسيين من عملية برخان في مالي، وقبلها بنحو أسبوع قتل جندي نيجيري وأصيب 3 جنود بينهم فرنسيان. غير أن أكبر حصيلة من القتلى في شهر يونيو/حزيران وقعت في شمال بوركينافاسو، بالقرب من الحدود مع مالي والنيجر، وقتل فيها نحو 100 مدني على يد إرهابيين.
وهذا الوضع الأمني المتردي في منطقة الحدود الثلاثة بالساحل، يؤكد أن إنهاء عملية برخان كان حتمياً بعد عجزها طيلة 8 سنوات في تحقيق الحد الأدنى من الأمن والاستقرار في المنطقة.