السيطرة على الجو أولاً.. استراتيجية بكين لفرض الأمر الواقع على بحر الصين الشرقي
والمقصود بالميليشيات البحرية الصينية هي مئات من سفن الصيد ذات اللون الأزرق والآلاف من الرجال الذين يرتدون زياً بنفس اللون، تنتشر في بحر الصين الجنوبي لتنفيذ مهام محددة تفادياً لمواجهة عسكرية مفتوحة مع الولايات المتحدة، التي يتواجد أسطولها السابع في المنطقة بشكل دائم.
وتزامن الكشف عن تلك الاستراتيجية في بحر الصين الجنوبي مع دخول الحرب الباردة بين بكين وواشنطن نقطة “اللاعودة”، وبالتالي كان متوقعاً أن تتبع الصين نفس الاستراتيجية في الجانب الشرقي أو بحر الصين الشرقي، لكن بكين فاجأت الجميع باتباع استراتيجية مختلفة تماماً.
وتناولت مجلة The National Interest الأمريكية تلك القصة في تقرير لها بعنوان “كيف تبسُط الصين سيطرتها على بحر الصين الشرقي؟”، رصد كيفية اتباع الصين لخطط متنوعة لتحقيق أهدافها طويلة المدى في المناطق التي تعتبرها ملكية خالصة.
استراتيجيات الصين البحرية
يعتبر مصطلح الاستراتيجية البحرية الصينية خاطئاً من الأساس، بل يجب أن يكون “الاستراتيجيات”. إذ ربما تخطط الصين لنفس الأهداف في بحر الصين الشرقي، على سبيل المثال، مثلما تفعل في بحر الصين الجنوبي. وبالتحديد، قد تطمح إلى انتزاع السيطرة المادية -أو ما يُعرَف بالسيادة– من جيرانها على امتداد مساحة معينة والمجال الجوي فوقها. وستصبح كلمة الحزب الشيوعي الصيني قانوناً. ولا يملك الآخرون إلا الطاعة.
والنتيجة الإجمالية إذا نجحت هذه الاستراتيجيات، هي نجاح الصين في بسط سيادة فعلية داخل سلسلة الجزر البحرية الأولى في آسيا، مدعومة بالقوة المسلحة لجيش التحرير الشعبي.
لكن بكين تسير في مسارات متباينة لتحقيق هذه الغاية. في الواقع، نهجها في بحر الصين الشرقي هو النقيض الجغرافي-المكاني لنهجها في بحر الصين الجنوبي.
الدليل الأول: في عام 2017، حذر مراقبو الحركة الجوية الصينيون طاقم قاذفة “بي 1 بي” التابعة للقوات الجوية الأمريكية من أنَّ الطائرة دخلت إلى “المجال الجوي الصيني” ويجب أن ترحل على الفور. في الواقع، كانت القاذفة تمر عبر منطقة تحديد الدفاع الجوي الصينية، التي أعلنتها في عام 2013 مثيرةً ضجة كبيرة.
وعادةً ما تقيم الدول الساحلية مثل هذه المناطق لمراقبة الحركة الجوية المتجهة نحو شواطئها، لكن منطقة تحديد الدفاع الجوي الصينية تمثل انتزاعاً مستتراً للسيادة على الطبقات الجوية. وهي تعتبر نظيراً جوياً لـ “خط النقاط التسع” المدرج على خريطة الصين لبحر الصين الجنوبي.
وتدّعي بكين أنَّ لها الحق في تنظيم ليس فقط الرحلات الجوية المتجهة إلى الصين، بل أيضاً أية طائرة تمر عبر المنطقة – حتى لو كانت بعيدة عن البحر وموازية للشريط الساحلي للبر الرئيسي. وتدّعي أيضاً أنها تنظم التحليق فوق السماوات الجغرافية التي تديرها الحكومات الآسيوية الأخرى، ولا سيما جزر سوناكوس التي تديرها اليابان.
منطقة تحديد المجال الجوي الصيني
اعتاد المتحدثون باسم الحزب الشيوعي الصيني على استخدام لغة غامضة عند وصف منطقة تحديد الدفاع الجوي الصينية. وصاروا يشيرون إليها كثيراً على أنها مجال جوي إقليمي، حيث لا يجوز للطائرات الأجنبية المرور إلا إذا امتنعت عن جميع الأنشطة العسكرية.
ويتفق هذا تماماً مع المجال الجوي فوق البحر الإقليمي للصين، الذي يمتد لمسافة 12 ميلاً بحرياً بعيداً عن الشاطئ. بيد أنه خارج حدود الاثني عشر ميلاً، لا يحق لأية دولة ساحلية أن تملي ما قد يفعله أو لا يفعله أطقم الطائرات. وهذه هي المنطقة المشاع للطيران، التي تسود فيها حرية غير مقيدة تقريباً.
وفي هذا السياق، تعتبر استراتيجية الصين في البحر الجنوبي نظيراً معكوساً لاستراتيجيتها في بحر الصين الشرقي. إذ بدأت بكين بالمطالبة بالسيطرة على البحر وجزره، وزعمت سلطتها القضائية المُفترَضة على الطبقات الجوية التي تعلوه.
وبحسب منطق بكين، لو كان البحر جزءاً من الصين الكبرى فسيكون كذلك اللون الأزرق البري الممتد في الأعلى. لهذا السبب يستخدم مسؤولو الحزب لغة “الممر البريء” لمشاع بحر الصين الجنوبي. وتصر على وجوب تخلي السفن والطائرات الأجنبية عن جميع الأنشطة العسكرية هناك، بنفس الطريقة التي يجب أن تتجنبها داخل المياه الإقليمية للدول الساحلية.
لماذا التباين بين الاستراتيجيات؟
لماذا لا تكرر النهج الذي تتبعه مع جنوب شرق آسيا المثبت فاعليته في الشمال؟ بادئ ذي بدء، هذا النهج له ميزة، إذ يمكن للدبلوماسيين الصينيين الإشارة إلى خريطة قديمة لتبرير مطالبتهم بمياه بحر الصين الجنوبي وجزره. وتحمل خريطة تعود لعام 1947 خطاً من تسعة شرائط متقطعة يحيط بالمياه التي يُفترَض أنها تنتمي إلى الصين منذ العصور القديمة البعيدة.
لكن لا توجد خريطة مشابهة تخص بحر الصين الشرقي، حيث انتزعت اليابان تايوان وسوناكوس من الصين خلال حرب قصيرة حادة في 1894-1895. ومن ثم، يقدم الإعلان عن منطقة تحديد الدفاع الجوي الصينية طريقة لرسم خريطة جديدة لبحر الصين الشرقي، وبدء عملية تأكيد الولاية القضائية هناك.
ثانياً، بحر الصين الشرقي هو ببساطة مسرح أقل ترحيباً للاستراتيجية الصينية مقارنة ببحر الصين الجنوبي. بحر الصين الجنوبي هو جسم طويل متضخم من المياه التي تنتشر فيها الجزر والجزر المرجانية والشعاب المرجانية. وباستثناء الصين، تشكل الدول الساحلية الضعيفة حوافه. وما لم تُشكِّل دول جنوب شرق آسيا قضية مشتركة -وهي نادراً ما تفعل- ستحظى بكين بميزة رادعة في أي نزاع للسيطرة على الجزر الإقليمية أو البحرية أو الجوية.
وإذا كان بحر الصين الجنوبي يوفر بيئة متساهلة نسبياً، فإنَّ بحر الصين الشرقي غير جذاب، على الجانب الآخر. وهو مضغوط على عكس بحر الصين الجنوبي. وتشكل القوى العسكرية القوية المعادية للتوسع الإقليمي الصيني حدوده الشرقية. ومن بين هؤلاء الأعداء المحتملين، ترتبط تايوان بتحالف غير رسمي مع الولايات المتحدة. أما اليابان فهي متحالفة رسمياً مع الولايات المتحدة؛ وفي الواقع، يعمل أسطولها البحري العالمي ضمن أسطول مشترك جنباً إلى جنب مع الأسطول السابع للولايات المتحدة.
عدم استفزاز اليابان وتايوان حلفاء واشنطن
باختصار، تبقى القليل من الأراضي لتفوز بها بكين في بحر الصين الشرقي. إذ تنتمي الجزر هناك إلى خصوم أقوياء مدعومين بالقوة البحرية المهيمنة في عصرنا. ولا عجب في أنَّ خفر السواحل الصيني والميليشيات البحرية والبحرية قد اقتصروا على استفزاز القوات اليابانية التي تحرس البحر حول سوناكوس. ولا عجب كذلك في أنَّ بكين بدأت بمزاعم السيطرة بإعلان منطقة تحديد الدفاع الجوي الصينية. ويمثل الإعلان عن مثل هذه المنطقة واحدة من بين قائمة بسيطة من الخيارات.
في آخر أعماله الرئيسية، بعنوان “Naval Strategy- الاستراتيجية البحرية”، ألمح المؤرخ ألفريد ثاير ماهان إلى ما نراه اليوم من اختلافات بين جنوب شرق وشمال شرق آسيا. إذ أشار ماهان إلى أنَّ المناطق “الغنية بطبيعتها والمهمة على الصعيدين التجاري والسياسي، لكنها غير آمنة سياسياً، تجذب الانتباه وتثير غيرة الدول الأقوى”. وتعتبر منطقة جنوب شرق آسيا مثالية للنشاط الاقتصادي لكنها منطقة ضعيفة ومفككة. ومن ثم، تشكل بيئة مثالية لصين موحدة غيورة تريد إعادة كتابة قواعد النظام الإقليمي.
على النقيض من ذلك، يعتبر شمال شرق آسيا، من وجهة نظر الصين، مسرحاً مزدهراً، يحتله خصم يتباهى بثالث أكبر اقتصاد في العالم (اليابان)، ومتحالف مع قوة عظمى تضم أكبر اقتصاد في العالم (الولايات المتحدة). وهذه منطقة جيرة قاسية على من يريدون أن يصبحوا مهيمنين من بكين.
وقد يكون إغراء الآخرين بالرضوخ في منطقة الدفاع الجوي الخاصة بها هو أقصى ما يمكن أن تفعله الصين، ما لم يتحول التوازن العسكري لصالح الصين لدرجة غير متوازنة بحيث يمكنها قبول خيارات جديدة.
هل ستنجح استراتيجية بكين بالسيطرة على المجال الجوي أولاً؟ هذا أمر مشكوك فيه. لقد حققت الصين قدراً من النجاح في جنوب شرق آسيا، لأنَّ البحر يفسح المجال لتكتيكات “المنطقة الرمادية” التي تنفذها الأجهزة شبه العسكرية وغير العسكرية للقوة البحرية. ويمكن للميليشيات البحرية العاملة داخل أسطول الصيد -وبدعم من خفر السواحل الصيني- التغلب على حرس السواحل الإقليمية والبحرية. أي أنَّ نهج السطح أولاً يفسح المجال لتكتيكات المنطقة الرمادية.
لكن لا يسري نفس الشيء على الطيران؛ إذ تختلف طبيعة الحركة الجوية والبحرية. يمكن لمراكب الصيد أو خفر السواحل عرقلة مرور قوارب الصيد الأجنبية أو قاطعات خفر السواحل أو حتى السفن الحربية. وإذا عرقلت مسار سفينة بطيئة الحركة، فستدفعها للتوقف أو الانعطاف. ويقع عبء تقرير التصعيد أو الاستسلام على عاتق ضحية تكتيكات المنطقة الرمادية الصينية، وحينها ليس على بكين إلا لعب دور الطرف المتضرر إذا اختارت الضحية التصعيد.
ومع ذلك، لا يوجد مكافئ جوي واضح لسرب سفن الصيد الصينية. وتشكل الطائرات العسكرية التي تعمل تحت سيطرة برية الذراع المحمولة جواً لاستراتيجية الصين البحرية. ويعتبر اعتراض تحركات الطائرات الأجنبية وعرقلتها أمراً خطيراً وغير متوقع مقارنةً بممارسة مناورات على السطح. إذ في ذلك المجال، التصادم والموت هما الأرجح، والتداعيات الدبلوماسية غير مستساغة إلى أبعد حد. ولا يمكن للسلطات الرسمية أن تنأى بنفسها عمّا يفعله طيارو جيش التحرير الشعبي بالطريقة التي يطبقونها مع أفعال رجال الميليشيات البحرية.
الخلاصة هنا هي أن نجاح أو فشل استراتيجيات الصين المتنوعة يتوقف بالأساس على مدى ثبات ووحدة التحالف الأمريكي الياباني ومدى تعزيز جانبه العسكري للتوازن في المنطقة. فإذا ما فعل الحلفاء ذلك، على الأرجح ستجد بكين أنَّ منطقة تحديد الدفاع الجوي عقيمة إلى حد كبير.