الكل يساند إسرائيل.. ما حقيقة قيام ألمانيا بدفع تكاليف مراقبة النشطاء الداعمين للفلسطينيين؟
كشفت قضية رفعتها أكاديمية ألمانية على إحدى الهيئات الحكومية في برلين عن احتمال مشاركة برلين في تكاليف الرقابة على الفلسطينيين والنشطاء الداعمين لهم، في مقابل انحياز ألمانيا المطلق لإسرائيل.
وأثناء حرب غزة العام الماضي، كان الموقف الألماني الرسمي منحازاً بشكل صارخ لتل أبيب، على الرغم من اندلاع احتجاجات ضخمة تهاجم الاحتلال الإسرائيلي وممارساته القمعية بحق الفلسطينيين في حي الشيخ جراح والمسجد الأقصى والقدس والضفة وباقي الأراضي المحتلة.
التشهير بأكاديمية داعمة للفلسطينيين
نشر موقع Middle East Eye البريطاني تقريراً عنوانه “هل تدفع ألمانيا مقابل مراقبة الفلسطينيين وداعميهم؟”، رصد قصة آنا إستر يونس الأكاديمية الفلسطينية الألمانية، التي تعرضت للتشهير وما يوصف بالاغتيال المعنوي، لتكتشف أن من يقف وراء الحملة ضدها عبارة عن هيئة تمولها الحكومة الألمانية.
وتقدمت آنا إستر يونس بدعوى قضائية ضد إحدى الهيئات المُموَّلة من الحكومة الألمانية، بسبب منع الأكاديمية الألمانية من التحدث خلال إحدى المناقشات عام 2019 بعد مشاركة ملف يُصوِّرها باعتبارها معادية للسامية ومتعاطفة مع الإرهابيين مع المُنظِّمين.
وتقدَّم محامو آنا إستر يونس، الباحثة بنظرية العِرق النقدية، بدعوى مدنية ضد منظمة “جمعية الثقافة الديمقراطية” في برلين، وهي منظمة تمثل مظلة تشرف على مشروعات تدعم “الثقافة الديمقراطية القائمة على حقوق الإنسان”، في وقتٍ سابق هذا الشهر، أبريل/نيسان، في إحدى محاكم منطقة برلين.
وتقدَّموا أيضاً بشكوى ضد “إدارة حماية البيانات” في برلين، والتي لم تتخذ بعد قراراً بشأن ما إذا كانت منظمتان، تشرف عليهما جمعية الثقافة الديمقراطية، قد استخدمتا بياناتها بشكل غير قانوني بعد عامين تقريباً من طلب آنا المساعدة من الإدارة.
ليست هذه إلا أحدث حملة تشهير بحق الباحثة والصحفية، لكنَّها صرَّحت لموقع Middle East Eye البريطاني بأنَّ الملف “كان نقطة تحول بالنسبة لي بعد سنوات من الاغتيال لشخصي”.
وتمثل تجاربها واحدة من نماذج عدة على المناخ الخانق الذي يواجهه النشطاء والأكاديميون والفنانون والكتاب وغيرهم من الداعمين للفلسطينيين في ألمانيا منذ سنوات.
كان هذا صحيحاً بشكل خاص منذ أصدر البرلمان الاتحادي الألماني (البوندستاغ) قراراً في عام 2019 يدين حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (حركة مقاطعة إسرائيل)، وهي الحركة غير العنيفة التي يقودها المجتمع المدني وتسعى لحشد الضغط الاقتصادي على إسرائيل دعماً للفلسطينيين، ووصف القرار وسائلها بأنَّها معادية للسامية.
لكنَّ داعمي آنا يقولون إنَّ قضيتها ربما تمثل نقطة تحول، كاشِفةً علناً عن كيفية قيام المنظمات المدعومة من الدولة والمكلفة بمراقبة معاداة السامية والتطرف اليميني بمراقبة داعمي الفلسطينيين أيضاً.
إلغاء الدعوة في الليلة السابقة
كان من المقرر أن تتحدث آنا، وهي حالياً مستشارة أبحاث، في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 في مناقشة من تنظيم حزب اليسار، وهو الحزب السياسي اليساري في ألمانيا، بشأن استراتيجيات مواجهة التطرف اليميني.
لكن في الليلة السابقة للفعالية، فيما كانت آنا تُنهي تحضير عرضها التقديمي، قالت إنَّ عضواً بالحزب كان يساعد في تنظيم الفعالية اتصل بها ليقول إنَّها لم تعد مدعوة.
وفي اليوم التالي، سأل العديد من أفراد الجمهور خلال الفعالية عن أسباب عدم حديث آنا. وأوضحت كاتينا شوبرت، زعيمة حزب اليسار في برلين، في مقطع فيديو اطلع عليه موقع Middle East Eye البريطاني، أنَّ آنا كانت “مقربة من حركة مقاطعة إسرائيل”، وهي حركة لا يعمل الحزب معها.
وأشارت بعد ذلك إلى هجوم شنَّه مسلح على كنيس يهودي في مدينة هال شرق ألمانيا كان قد وقع قبل ثلاثة أسابيع. واكتُشِفَ لاحقاً أنَّ الرجل كان متطرفاً ينتمي لليمين المتطرف.
ويمكن سماع شوبرت في التسجيل تقول: “معاداة السامية هي واحدة من أسوأ التهديدات بالنسبة لنا.. وبالتالي، لا يتعين علينا أن نترك أي أخطاء. ولذا، فإنَّ عملية صنع القرار الآن هي على هذا النحو. لا يمكن أن تكون حركة مقاطعة إسرائيل شريكاً في التحالف”.
وقالت آنا للموقع البريطاني إنَّ كل المشاركين في الفعالية كانوا يعلمون أنَّها ستتحدث قبل فترة طويلة مسبقاً. وأضافت: “كان كل المشاركين في المناقشة يعلمون بشأن مشاركتي طيلة أكثر من شهر، ولم يكن لديهم مشكلة في ذلك”. وحين أُلغيَت دعوتها، قِيل لها ببساطة إنَّ هنالك تعقيدات، دون تقديم تفاصيل. لكنَّ كل شيء اتضح بعد بضعة أسابيع حين سُرِّب ملف إليها.
الملف السري
تمثل الوثيقة المؤلفة من صفحتين والتي حصلت عليها آنا، واطلع عليها موقع Middle East Eye، تجميعاً للمعلومات المتاحة علناً عنها، مُرتّبة ترتيباً زمنياً إلى جانب روابط ومقتطفات من التعليقات بطول الوثيقة.
وهنالك ملاحظات، على سبيل المثال، بشأن كتابتها عن النساء في حركة حماس، والتي يقول كاتب الملاحظة إنَّها “تشرعن حماس وكذلك التحيز الجنسي داخل الحركة”، ومنشور بموقع فيسبوك يعود إلى عام 2014 نشرت فيه آنا صورة رسم جرافيتي على أحد الجدران (جدارية) تقول: “قاطعوا الفصل العنصري في إسرائيل”، ورسالة مُوقَّعة منها- إلى جانب أكثر من 100 أكاديمي آخر- تعود إلى عام 2019 وتدق ناقوس الخطر بشأن الاتجاه المتزايد في ألمانيا للمساواة بين انتقاد إسرائيل ومعاداة السامية.
تشير ملاحظة مكتوبة أعلى الملف إلى أنَّ الورقة ليست للنشر، لكن إذا أراد القارئ الاستشهاد بها أو توثيقها، فعليه الاتصال بـ”مركز أبحاث ومعلومات معاداة السامية في برلين” أو مركز “المشورة المتنقل ضد التطرف اليميني في برلين”.
قالت آنا إنَّ نبضات قلبها تسارعت بعد أول مرة قرأت فيها الملف. فقد ذكَّرها بنشأتها في ألمانيا الشرقية قبل سقوط جدار برلين، والتي تعرَّضت خلالها هي ووالداتها للاستجواب.
سأل موقع Middle East Eye آنا عن رأيها في تصريحات حزب اليسار بأنَّها مقربة من حركة مقاطعة إسرائيل، وما إذا كان يجب أن يكون موقفها من الحركة مهماً حين يتعلق الأمر بالحديث علناً.
فردَّت: “أنا مع الحق المطلق لكل شعب أو مجتمع للدفاع عن حقوقه كشعب ضد الظلم أو الاستعمار أو العنصرية أو الحرب على سبيل المثال لأنَّ ذلك متأصل في القانون الدولي”.
لكن في ألمانيا أضافت آنا: “يبدو أنَّ هنالك رقابة هيكلية ومؤسسية على مَن يمكنه المشاركة في الخطاب العام”.
متابعة البيانات
تقدَّمت آنا في مارس/آذار 2020 بطلبين لدى مركز أبحاث ومعلومات معاداة السامية في برلين ومركز المشورة المتنقل ضد التطرف اليميني في برلين للحصول على أي بيانات جرى جمعها بشأنها، والتي يقول محاموها إنَّه من حقها بموجب قوانين البيانات الأوروبية.
وحين رفضت المنظمتان طلبيها، تقدَّمت آنا بشكوى لدى إدارة حماية البيانات في برلين، تطلب فيها تحديد ما إن كانت المنظمتان قد استخدمتا بياناتها الشخصية بصورة غير قانونية وإجبارهما على تسليم بياناتها.
كان ذلك في مايو/أيار 2020. وبعد قرابة عامين، لا تزال آنا بانتظار القرار، ولهذا يقول محاموها إنَّهم تقدموا بدعوى مدنية ضد جمعية الثقافة الديمقراطية، المنظمة الأم لكلتا المنظمتين، فضلاً عن تقديم شكوى ضد إدارة حماية البيانات.
قال جيوفاني فاسينا، المحامي الذي يشرف على مركز الدعم القانوني الأوروبي: “حين أصبحت القضية بطيئة، قلنا: (حسناً، علينا أن نتخذ إجراءً وإلا لن يتخذوا قراراً أبداً)”.
ولا يُعَد جمع البيانات مفتوحة المصدر حول الأفراد مخالفاً للقانون. فعلى سبيل المثال، يمكن للصحفيين جمع بيانات من أجل كتابة مقالات أو تقارير. لكنَّ فاسينا قال إنَّ المعلومات بشأن آنا جُمِعَت بطريقة مضللة وغير دقيقة، واستُخدِمَت لاحقاً لإلغاء دعوتها لإحدى الفعاليات، وليس لأغراض صحفية. ويرى أنَّ ذلك مثَّل انتهاكاً لقوانين البيانات الأوروبية.
ويرى مركز الدعم القانوني الأوروبي أنَّ الطريقة التي جُمِعَت واستُخدِمَت بها بيانات آنا- دون علمها أو موافقتها “ترقى إلى كونها مراقبة” من جانب مؤسستين تحصلان على تمويلات عامة دون شفافية أو مساءلة. وقال فاسينا إنَّ المؤسستين تقومان بعمل صحيح وبالغ الأهمية في مراقبة مجموعات اليمين المتطرف، “لكنَّ المشكلة أنَّهما تجمعان النازيين الجدد بأي شخص نشط بشأن فلسطين، وهذا أمر إشكالي. هذا ليس مُشرِّفاً ولا مقبولاً”.
صرَّح المسؤول الإعلامي لإدارة حماية البيانات في برلين، سيمون ريبيغر، للموقع البريطاني بأنَّه لا يمكنه التعليق على قضية آنا لأنَّها ما زالت مستمرة، لكنَّه قال إنَّ جائحة كوفيد 19 وضغط العمل الشديد جعلا إدارة حماية البيانات في برلين عاجزة عن التعامل مع كل قضية في إطار الوقت المحدد لها.
وقال في بيان: “نأسف لكون هذا يعني أنَّ الشكاوى أحياناً يتعين أن تنتظر لفترة أطول من المعتاد حتى البتّ فيها. وفي القضية الحالية، تعمل إدارة حماية البيانات في برلين بنشاط من أجل التوصل إلى قرار في قادم الأشهر”.
توسيع دائرة الاشتباه
أحد التساؤلات الكبيرة هو ما إن كانت آنا هي مناصرة حقوق الفلسطينيين الوحيدة التي جرى تعقُّب بياناتها وتجميعها ومشاركتها. وعقب تسريب الملف، تقدَّم بعض مناصري حقوق الفلسطينيين بطلباتهم الخاصة للحصول على البيانات لدى مركز أبحاث ومعلومات معاداة السامية في برلين كي يكتشفوا الإجابة.
كانت واحدة من أولئك الذين تقدَّموا بالطلبات إيريس هيفيتس، وهي اختصاصية نفسية مقيمة في برلين كانت قد غادرت إسرائيل في 2002 كي تبدأ حياة جديدة في ألمانيا، والتي خاضت نزاعاتها العامة حول مواقفها السياسية بشأن إسرائيل وفلسطين خلال العقدين الماضيين.
كانت إيريس هي رئيسة منظمة “الصوت اليهودي من أجل سلام عادل في الشرق الأوسط” في 2016 حين أغلق المصرف الألماني للمنظمة حساب المنظمة نتيجة دعمها لحركة مقاطعة إسرائيل.
وقالت إيريس إنَّه إذا كان لآنا ملف، فمن الممكن جداً أن يكون لداعمين آخرين مثلها ملف أيضاً. لكنَّها أكَّدت أنَّها في “وضع مترف” بعكس آنا والآخرين الذين تعرَّضوا لحملات تشويه، فلم تتأثر سبل عيشها. وأضافت: “أقوم بذلك باعتباره عملاً من أعمال التضامن”.