حق الاعتراض(الفيتو).. بداية المأزق ( 1/6)
سليم يونس
مدخل
لم تأبه الولايات المتحدة الأمريكية للممانعة التي أبدتها الدول الصغرى، على تضمين الميثاق امتياز حق الاعتراض، وقصره على عدد محدد من الدول وبأسمائها، فالولايات المتحدة ومنذ وقت مبكر كانت تهيئ المناخ السياسي الدولي خلال العام الأخير من الحرب، لفرض ذلك التوجه، خاصة وأنها كانت تمسك بمفتاح النصر في يدها.
ذلك أن الإدارة الأمريكية أرادت الاستفادة من لحظات التقدم باتجاه نصر كاسح على ألمانيا النازية، لتجني من وراء ذلك مكسبها السياسي من التنظيم الجديد، الذي كان يجري تكوينه.
فحق الاعتراض(الفيتو) بحدوده التي حددتها الولايات المتحدة الأمريكية، كان هو الهدف، بصرف النظر عن مدى قبوله أو رفضه من بقية دول العالم التي تشكل الأمم المتحدة.
فكان أن عملت الولايات المتحدة الأمريكية، على استغلال تلك اللحظة التاريخية الملائمة لزرع بذور الهيمنة على التنظيم الدولي والإرادة الدولية، من خلال منح نفسها وبعض حلفائها في ذلك الوقت، وضعا قانونيا تساوي فيه أي دولة من الدول الخمس، منفردة، بقية دول العالم، من خلال امتياز حق الاعتراض(الفيتو)، الذي يبقى حقا دائما ثابتا، مادام تنظيم الأمم المتحدة قائما.
ولم يكن وضع الدول الذي اجتمعت في مدينة سان فرانسيسكو أمام خيارين، إما القبول بمنظمة دولية تمتع فيها الدول الخمس بحق الاعتراض(الفيتو)، أو نسف فكر الأمم المتحدة كليا، إلا ممارسة للإكراه، خاصة وهو يأتي من دولة ظهرت في أعقاب الحرب بأنها الأقوى في كل المجالات، بعد أن حققت النصر مع شريكها المؤقت آنذاك” الاتحاد السوفيتي”.
فكان النص على امتياز حق الاعتراض(الفيتو) لدول بعينها في الميثاق تحت ضغط وإرهاب الولايات المتحدة الأمريكية لبقية دول العالم، شكل بداية مأزق المنظمة الأممية منذ عام 1945، والممتد ما استمر بقاء هذا الامتياز في صيغته الراهنة في ميثاق الأمم المتحدة.
النصر.. وجني مكاسب الحرب
في شهر أيار/مايو 1944 وقبل عام من بعث الأمم المتحدة، أكد وزیر خارجية الولايات المتحدة الأمريكية في مناقشته المشروع التمهيدي لميثاق الأمم المتحدة مع مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي، أن مبدأ الفيتو ضُمن المشروع بادئ ذي بدء بسبب الولايات المتحدة الأمريكية، وأشار إلى أنه فيما يتعلق بمجلس الأمن المقترح فإن الحكومة الأمريكية لن تبقي يوما واحدا دون الاحتفاظ بحقها في سلطة الفيتو(۱)، وبهذا التصميم سعت الولايات المتحدة بشكل حثيث بالاتفاق مع الدول الأخرى ذات المصلحة في التميز والعلو على إرادة مجموع دول العالم، على بلورة فكرة التنظيم الجديد، بتحديد الامتيازات الخاصة بالدول المتحالفة قبل أن تنتهي الحرب.
وبقدر ما كانت فكرة التنظيم الجديد من بنات أفكار الرئيس الأمريكي روزفلت، كان امتياز الاعتراض ووفق الشكل الذي خرج به، فكرة أمريكية بامتياز، عملت الولايات المتحدة الأمريكية من خلالها على تلافي ما كان قائما في ميثاق عصبة الأمم، من تمتع جميع الدول بحق الاعتراض(الفيتو)، مع أن العصية وعهدها أيضا كانت فكرة أمريكية، غير أن الاستهدافات قد تغيرت في الأمم المتحدة عنها في العصبة.
ومع ذلك فإن حق الاعتراض شكل سمة رئيسية مشتركة بين عهد العصبة وميثاق الأمم المتحدة، إلا أن أساس ودوافع كليهما مختلفة، ففي حين كان حق الاعتراض في العصبة يحول دون سيطرة أي قوة دولية على التنظيم الدولي، جاء حق الاعتراض في التنظيم الجديد ليعطي عددا محدودا من الدول سلطة السيطرة على النظام الدولي بتحكمها في هذا الحق.
وقد عزت الدول الكبرى التي استحوذت على ذلك الامتياز، تمتعها بذلك الحق، إنما
يأتي في إطار مسؤوليتها الخاصة في تحمل عبء المحافظة وضمان الأمن والسلم الدوليين، كون تلك الدول ترى أن قوتها هي ضمان أي نظام أمن جماعي يراد له أن ينجح(2)، مع أن تلك الدول لا تمثل المجتمع الدولي في كافة تراكيبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومع ذلك جاء تقاسم المقاعد الدائمة بين تلك الدول عند إنشاء الأمم المتحدة بالشكل الذي جاءت به، رغم إرادة مجموع الدول الأخرى(3) التي رفضت الصيغة المقترحة لدول الفيتو.
وهكذا ولد حق الاعتراض(الفيتو) كامتياز للدول الخمس دون أن تكون تلك الدول متساوية، لا من حيث القوة العسكرية أو الاقتصادية أو المساهمة في إلحاق الهزيمة بدول المحور احتوته المواد ۲۳، ۲۷ من الميثاق.
والنص من ثم على حق الاعتراض( الفيتو) في ميثاق الأمم المتحدة، وجعل ذلك الحق مُكنة في أيدي بعض الدول دون غيرها، يطرح موضوعة القواعد المجحفة في القانون الدولي، وما إذا كانت الضرورة تتطلب وجود قانون دولي ينظم العلاقات بين الدول، فإن تلك القواعد التي تفرضها أقلية من الدول من خلال استغلال مركزها الغالب في لحظة تاريخية محددة، أو باستعمال القوة المعنوية، أو القوة المادية، أو التهديد باستخدامها، لا يمكن إلا أن تكون قواعد غير عادلة ومجافية لمبادئ القانون الدولي وقواعده، بينما القواعد العادلة هي التي تساهم في تكوينها والتراضي بشأنها غالبية الدول.
والثابت فقها أن المعيار الموضوعي هو الذي يبين أيا من القواعد القانونية تراعي شرط العدالة من غيرها، وإذا ما حاكمنا حق الاعتراض(الفيتو) وفق هذا المعيار لوجدنا أن هذه القاعدة غير عادلة لأنها لم تكن من إنشاء أغلبية الدول المشاركة، هذا أولا، ولأن الدول المنتصرة في الحرب وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية، قامت بفرضها من خلال التهديد الصريح ثانيا، لذلك فإن هذه القاعدة لا تقوم على الأساس الصحيح التي يفترضها إنشاء القواعد القانونية، الأمر الذي يفقدها صفة القاعدة القانونية الدولية العامة.
وهو استنتاج يتفق مع ما تنتهي إليه معايير القانون الدولي في هذا الجانب، ذلك أن قيام القاعدة القانونية يحددها شرطين لابد من توفرهما، ويحتويهما، وهما شرط التراضي وشرط العمومية.
وفي غياب شرط التراضي عند إقرار تلك القاعدة في مؤتمر سان فرانسيسكو من قبل الدول الأخرى، لجأت الدول الكبرى المنتصرة في الحرب إلى التهديد الصريح، لإقرار ذلك الامتياز في مواجهة معارضة الدول الصغرى المشاركة، ولذلك لم يكن النص على هذه القاعدة في الميثاق ناجم عن اتفاق الدول المشاركة جميعها، بقدر ما كان نتاجا للتهديد والابتزاز، إما أن تكون هناك منظمة دولية أو لا تكون.
وفيما يتعلق بركن العمومية، فالثابت قانونا أن العمومية تفترض أن يوجه خطاب القاعدة للدول دون تعيينها أو تحديدها بذواتها، وإن كان ذلك لا یعني عدم تحديدها بصفاتها، مما يكسب القاعدة صفتها كقاعدة قانونية.
ولا يوجد أدل على ذلك من اختيار الأعضاء غير الدائمين لعضوية مجلس الأمن، فالاختيار يكون دون تحديد لذوات الدول، فيما يجري عكس ذلك بالنسبة للأعضاء الدائمين الذين يحددهم الميثاق بذواتهم، وعلى سبيل الحصر، كما قررت ذلك المادة الثالثة والعشرين الفقرة الأولى من الميثاق، وهو تحديد من شانه تجريد العمل القانوني الدولي من صفة العمومية.
وبذلك تكون الدول المنتصرة قد كافأت نفسها، وجعلت السلطة السياسية العالمية حكرا عليها دون غيرها من الدول، باعتبارها حقا مطلقا من الصعب تجاوزه أو تعديله دون موافقة تلك الدول وفق نص الميثاق.
ومن ثم فقد تمكنت تلك القلة في لحظة تاريخية معينة من الاستيلاء على حق إقرار السياسة العالمية، وأن تتحكم في مصير العالم باسم القانون الدولي وتحت مظلته، وبالضد من إرادة الأغلبية الساحقة من دول العالم.
ولعل في تلك الواقعة التي يرويها الفقه القانوني، ما يكشف حال الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن في مواجهة بقية دول العالم، التي يحضر فيها مفهوم الأغلبية المعكوسة، فقد رُوي أن الرئيس الأمريكي لنكولن جمع وزراءه السبعة وعرض عليهم إحدى المسائل، لأخذ رأيهم فيها، فكان رأي الوزراء السبعة يخالف رأى الرئيس، هنا رد الرئيس الأمريكي بعبارته الشهيرة “سبعة أصوات بالرفض، صوت واحد بالقبول، الأغلبية للرأي الأخير”
وهو ما يتجسد في تنظيم الأمم المتحدة في حق الاعتراض(الفيتو)(4).
———-
المصادر
- محمد العالم الراجحي، مصدر سبق ذكره، صفحة 81.
(2) د. عدنان طه مهدي الدوري، مصدر سبق ذكره، صفحة 71-72.
(3)د. محمود صالح العادلي، مصدر سبق ذكره، صفحة 50.
(4) د. محسن خليل، النظم السياسية والقانون الدستوري، منشأة المعارف، مصر، طبعة ثانية 1971، صفحة 407-408