ديمومة حق الاعتراض(الفيتو) تضعف الأمم المتحدة   6/6

سليم يونس

تشكل ديمومة حق الاعتراض تناقضا جوهريا مع حقائق الحياة الدولية، بوصفه مفهوما ثابتا، يتسم بالجمود بما يعنيه ذلك من نفي لتطور الحياة وتغيرها وتجددها، ذلك أن أي ظاهرة اجتماعية تحكمها عوامل الزمن القسرية في حركاتها، ولذلك لا يمكن لأي ظاهرة اجتماعية أن تضع نفسها في إنبيق بمعزل عن عوامل التأثير الداخلية والخارجية، سواء أكانت دولة أو مجموعة دول.

ومن ثم فإن ثبات حق الاعتراض، وقصره على دول بعينها يعني بقاء مشهد الحياة الدولية جامدا غير قابل للحركة واستيعاب متغيرات الحياة بما يعنيه ذلك من إضفاء نوع من القدسية، على أشخاص تلك الدول وعلى نصوص مواد الميثاق التي تعالج امتيازاتها باعتباره حقا دائما وثابتا لا يتأثر بحركة التاريخ إن صعودا أو هبوطا.

فكيف الحال والميثاق يخص كل المجموعة الدولية، باعتباره معاهدة يجب أن تواكب الحياة في حركتها بكل الغني الذي تحتویه، بما يعني ذلك من انعدام مكنة المراجعة لما فسد أو أصبح غير كاف من أحكام الميثاق؟

ومن ثم فإن ورود والنص على تحديد أسماء الدول دائمة العضوية يتصف بالجمود وعدم المرونة التي تتطلبها الاتفاقات والمعاهدات التي تبرمها الدول، وهو يخالف قوانين التطور والتبدل الذي يسود العالم، ذلك أن كثيرا من الدول تتغير مواقعها وأهميتها الدولية بمرور الوقت وفي اتجاهات مختلفة، بما يمكن معه أن تبرز دولا أخرى تملك إمكانات أكبر من هذه الدول المنقوشة بالاسم في الميثاق، وتكون أكثر قدرة على تحمل تبعات حفظ السلم والأمن الدوليين من الدول دائمة العضوية التي ورد ذكرها في نص الميثاق.

فأن يُنص على أسماء تلك الدول بذواتها في الميثاق، يعني أن الدول الخمس الوارد ذكرها بالاسم، لا يمكن تغييرها إذا ما تغيرت الظروف والموازين الدولية، إلا من خلال تعديل الميثاق نفسه، وهو أمر فيه الكثير من الإجراءات والتعقيدات(۱)، ذلك أن التعديل يشترط موافقة تلك الدول مجتمعة وهو ما لا يمكن تصوره.

إذ كيف لدولة استحوذت على امتياز حق الاعتراض(النقض) دون وجه حق، أن تتنازل عنه طواعية، بعد أن ارتبط موضوع التعديل بإرادتها هي حتى لو كانت منفردة.

حق الاعتراض(الفيتو) في الممارسة

 لا شك في أن معيار تقييم والحكم على أي اتفاق أو معاهدة، إنما يأتي من خلال وجودها في الممارسة، وإذا ما أخضعنا امتیاز حق الاعتراض(الفيتو) لهذا المعيار، فإننا سنجد أنه لم يمض عام على انطلاق مسيرة الأمم المتحدة حتى واجه مجلس الأمن الدولي العقبات، عندما أخفق في البت في المسائل المعروضة عليه بسبب كثرة استعمال حق الاعتراض من قبل الاتحاد السوفيتي (السابق)، بما حمل معه من ازدياد حرارة الاحتكاك بين الشرق والغرب، ولتكون الأمم المتحدة بذلك في طريقها لاستقبال أول صراع رسمي بين المعسكر الاشتراكي التي يتزعمه الاتحاد السوفيتي في حينها، والمعسكر الرأسمالي التي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية، على مستوى التنظيم الدولي بسبب من امتياز الاعتراض(الفيتو).

ذلك الإخفاق في تسيير مجلس الأمن في بدايات عمله شكل مفاجأة غير سارة بالنسبة للولايات المتحدة التي أرادت من تضمين الميثاق لحق الاعتراض خدمة مصالحها من خلال فرض إرادتها السياسية على مجموع دول الأمم المتحدة، وهو ما دفعها للبحث عن مخرج تتجاوز من خلاله عقبة “الفيتو” السوفيتي، ويمكنها من إيجاد حل يضمن إعمال نصوص ميثاق الأمم المتحدة وفق قراءتها لتلك النصوص وكذا مصالحها، فكان أن اتجهت أنظار الولايات المتحدة الأمريكية نحو الجمعية العامة للأمم المتحدة كمخرج يسد الفراغ الناجم عن عجز مجلس الأمن القيام بدوره.

لذلك عملت الولايات المتحدة الأمريكية مع شركائها في الأمم المتحدة على تقرير سلطات ووظائف للجمعية العامة للأمم المتحدة كانت من صلاحيات مجلس الأمن وحده، وذلك لأن الجمعية العامة لا يوجد للقوى الكبرى بها حق الاعتراض، والأهم من ذلك هو أن الدول المكونة للجمعية في تلك الفترة كانت تدور في فلك الولايات المتحدة الأمريكية، والقرارات تؤخذ في الجمعية العامة بالأغلبية، بما يحرم الاتحاد السوفيتي (حينها) من مكنة تعطيل أي قرار تريده الولايات المتحدة وحلفائها.

فهدف التحرك الأمريکي إذن هو جعل الجمعية العامة تقوم بأداء وظيفة مجلس الأمن في حفظ السلم والأمن الدوليين في الحالة التي يثبت فيها عجز مجلس الأمن عن القيام بدوره الذي حدده له الميثاق كما تراه الولايات المتحدة، بسبب من توزع الرأي بين الدول التي تملك حق الاعتراض(الفيتو) في مجلس الأمن.

إلا أن الأسباب الحقيقية للتحرك الأمريكي في اتجاه الجمعية العامة لم تكن كذلك، وإنما جرى باعتباره بدءا للحرب الباردة التي بدأت نذرها بُعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية تلف العالم، ذلك أن الاتحاد السوفيتي استخدم “سلطة الفيتو” لمواجهة السياسية الأمريكية في مجلس الأمن، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة تصر على نقل الوظائف السياسية والأعمال المتعلقة بالأمن إلى الجمعية العامة التي تصدر فيها القرارات بالأغلبية، لأنه كان بإمكان الولايات المتحدة حينها أن تأخذ دور المقرر في السياسة الدولية لانعدام فعالية الاتحاد السوفيتي آنذاك في الجمعية العامة.

 فكان أن برز في20 أيلول/ سبتمبر1950 مشروع الاتحاد من أجل السلام إلى الوجود، باقتراح من الولايات المتحدة الأمريكية، التي طلبت من الأمين العام للأمم المتحدة إدراج مسألة العمل المشترك في سبيل السلم والأمن الدولي على جدول أعمال الجمعية العامة في دورتها الخامسة. فكان أن وافقت الجمعية العامة على طلب الولايات المتحدة في 29 أيلول/سبتمبر1950، ومن ثم أحالت الموضوع إلى اللجنة السياسية للدرس والبحث والتقرير.

وفي 4 تشرين الثاني/ نوفمبر1950 وافقت الجمعية العامة على المشروع المقترح بخمسين صوتا مقابل خمسة أصوات وامتناع ثلاث دول، وجاء في مقدمة قرار الجمعية بشأن إقرار مشروع الاتحاد من أجل السلام: إنه واجب الأعضاء ذوي المراكز الدائمة في مجلس الأمن أن يقللوا من استعمال حق الاعتراض، وأن عجز مجلس الأمن عن أداء وظائفه الرئيسية لا يعفي أعضاء مجلس الأمن من الالتزامات والمسؤوليات التي أخذوها على عاتقهم بمقتضى أحكام الميثاق في خصوص استتباب السلم والأمن الدولي، وأنه لكي تؤدي الجمعية العامة وظائفها في هذا الشأن ينبغي أن تزود بوسائل المراقبة التي تمكنها من تقدير الوقائع وكشف المعتدين وأن تزود بالقوات العسكرية التي تمكنها من اتخاذ العمل المشترك السريع الفعال(2).

إلا أن ذلك التوجه نحو الجمعية العامة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في المعسكر الرأسمالي، بدأ الحماس له يفتر، بل وبدأت تلك الدول العمل ضده، ذلك أن زيادة عدد العضوية بعد دخول دول جديدة إلى الجمعية العامة من خارج نطاق قوس الهيمنة الأمريكية، جعل الولايات المتحدة الأمريكية والدول التي تدور في فلكها تغير رأيها في قاعدة الأغلبية المأخوذ بها في الجمعية العامة، وذلك لفقدها تلك الميزة التي عولت عليها لتمرير ما تريد من سياسات عندما سعت إلى تخويل الجمعية العامة صلاحيات ووظائف حفظ السلام والأمن الدوليين.

ففي حين كانت الولايات المتحدة وحلفائها في وقت سابق يؤيدون توسيع وتعزيز سلطات   واختصاصات الجمعية العامة في شؤون السياسات العليا للأمم المتحدة، أصبحوا مناهضين لتلك القاعدة الديمقراطية، بذريعة أنه ليس لقاعدة الأغلبية أي سند صحيح من المشروعية، إذا انعدم وجود وفاق أخلاقي أساسي بارتضاء الكل، لذلك ينبغي أن نحترس كما يقولون من أن نسير في الاتجاه الساذج الذي انزلق إليه بعض الدوليين بافتراض أن قرارات الأغلبيات الدولية قرارات عادلة غير متحيزة، ومن ثم فإن مبدأ الأغلبية فيه ضرر للعالم، لأنه يمهد للاقتراح غير المقبول الذي يمكن التصويت عليه ضد معارضة الأقلية، بدلا من الاقتراح المساوم الذي يمكن تفصيله على قدر موافقة الأغلبية(3).

ويبدو واضحا أن الصدام الأول الذي أفرزه امتیاز حق الاعتراض كقاعدة قانونية أقرها الميثاق بأسماء الدول الدائمة العضوية تحديدا، كان بين تلك الدول ذاتها، ارتباطا بتضارب المصالح والرغبة في الهيمنة، إضافة إلى تباين التشكيلات الاجتماعية لكلا النظامين الاشتراكي والرأسمالي، وهو ما عاش العالم على وقعه لفترة من الزمن.

===========

المصادر

  • د. عدنان طه مهدي الدوري، مصدر سبق ذكره، صفحة 67.

(2)د. حامد سلطان، مصدر سبق ذكره، صفحة 931-944.

(3) محمد العالم الراجحي، مصدر سبق ذكره، صفحة 140-142.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى