آخر الأخبارتحليلات و آراء

الأسير الفلسطيني أحمد سعدات في حوار حصري مع “الخبر”

حاوره: رضا شنوف

تمكنت جريدة “الخبر” من إجراء حوار مكتوب مع الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أحمد سعدات، المتواجد في سجن رامون الإسرائيلي. في هذا الحوار توقف ثالث أمين عام للجبهة الشعبية عند يومياته وكيفية مزاولة مسؤولياته كأمين عام للجبهة من السجن، وتطرق إلى مستجدات الوضع في الأراضي المحتلة وتصعيد المقاومة وشروط اندلاع الانتفاضة الثالثة.

الأمين العام للجبهة الشعبية خاض بشكل معمق في استحقاقات مشروع الوحدة الفلسطينية وتحديات انجازه، وشدد على أهمية الالتزام باتفاق الجزائر وأشاد بدور الجزائر في هذا المسار، كما تحدث عن الأزمة الداخلية التي تعصف بالكيان الصهيوني ومؤشرات تفكك هذا الكيان.

وتطرق إلى الأوضاع التي تعرفها المنطقة وأهمية تطبيع العلاقات بين السعودية وإيران، وانعكاساته، إلى جانب التحولات التي تعيشها المنظومة الدولية وانتقالها من الأحادية القطبية إلى التعددية القطبية والتوازنات الجديدة المنتظرة، وختم حواره بتوجيه رسائل إلى الشعب الفلسطيني والفصائل الفلسطينية والسلطة الفلسطينية.

بتاريخ 14 مارس 2023، يكون قد مر على اعتقالكم من طرف الاحتلال الصهيوني 17 عاما.. هل أثر السجن على نضال السيد أحمد سعدات؟

بدايةً، أشكركم لإتاحة الفرصة لي للمشاركة الكتابية في منبركم، وأشعر أن شخصيتي النضالية تَشّكلت من كافة جوانبها الفكرية والسياسية والتنظيمية داخل السجن، فأكثر من نصف عمري النضالي قضيته بين الأسوار وعلى فتراتٍ متعاقبة، أطولها الاعتقال الأخير الذي بدأ بتاريخ 15 يناير 2002 باعتقالي ومعي رفاقي الأربعة من قبل السلطة الفلسطينية بناءً على طلب من حكومة الاحتلال، حيث تم إخضاعنا للاعتقال تحت الإشراف الدولي الأمريكي البريطاني وفق اتفاق موقع بين الحكومة الصهيونية والسلطة الفلسطينية. وعليه، فإن عملية اعتقالي في آذار 2006 كانت مجرد عملية نقل بالقوة من سجن أريحا للسجون الصهيونية، فالحركة الوطنية الأسيرة شَكلّت تاريخياً موقعاً متقدماً للنضال ضد الاحتلال، ومعاهد لشحذ الهمم والتعبئة وبناء الكادرات وتأهيلها للعمل في إطار الحركة الوطنية، وهذا الأمر نلحظه لدى قراءتنا لنسبة المعتقلين في قوام الهيئات القيادية لفصائل العمل الوطني كافة، وفي إطار كل المحطات الاعتقالية تجذرت قناعتي وثقتي بحتمية انتصار شعبنا في معركته الوطنية والقومية ضد المشروع الصهيوني، كما تعمقت ثقتي وقناعتي بصوابية رؤية الجبهة السياسية ببعديها الاستراتيجي والتكتيكي.

كيف تمارسون مسؤولية الأمانة العامة للجبهة الشعبية للتحرير فلسطين من السجن؟ ألا تشعرون بمسؤولية مضاعفة بتولي هذه المسؤولية من السجن؟

سؤالكم صحيح ومهم، فقيادة مؤسسة تنظيمية ليست سهلة في ظل ظروف السجن المعقدة وإجراءات الاحتلال الأمنية، وقد كنت أفضّل إعفائي من هذه المهمة لسببين، الأول احترامي لنصوص النظام الداخلي للجبهة الذي لا يجيز بأن يشغل أي رفيق موقع الأمين العام أكثر من دورتين، والثاني أن الخيار الأفضل والأكثر عملية هو إسناد هذه المهمة لرفيقٍ حر وعلى رأس العمل المباشر، لكنني مع ذلك احترمت قرار الرفاق أعضاء المؤتمر الوطني الثامن في استمرار تَحملّي لهذه المسؤولية، الأمر الذي يُملي عليّ واجب مضاعفة جهودي ضمن الحد الأقصى الممكن لاستيفاء الاستحقاقات الأساسية المطلوبة منيّ في هذا الموقع الحساس.. وللإنصاف، فإن من يقوم باستحقاقات هذه المهمة فعلياً وقيادة الجبهة بمثابرةٍ وإخلاص وكفاءة؛ هو الرفيق جميل مزهر نائب الأمين العام، وهيئة المكتب السياسي كمؤسسة قيادية ديمقراطية جماعية.

كيف تقضون يومياتكم في السجن خلال كل هذه الفترة؟ وما هي الكتب التي تقرؤونها؟

حياة الأسير يحكمها الروتين الذي يُكرر نفسه في كل يوم بحكم سيطرة السجان على مكان وزمان الأسرى. وعليه، فإن وقتي مُوزّع بين القراءة وممارسة رياضة المشي والتفاعل الاجتماعي، والقيام بواجبي في المشاركة في الجلسات الثقافية اليومية، وإدارة بعضها، ومتابعة برامج التلفاز الإخبارية بشكلٍ خاص. والكتب التي أُركز عليها في القراءة؛ هي الكتب التاريخية، التاريخ الفلسطيني والعربي القديم والجديد، والأبحاث والدراسات التي تتناول وضع الكيان الصهيوني وتناقضاته وطبيعته الاستعمارية الاستيطانية بشكلٍ عام، والروايات وبشكلٍ خاص أدب المغرب العربي.

 هل فترة السجن أتاحت لكم الفرصة للقيام بمراجعات، سواء فكرية أو المتعلقة بالعمل النضالي؟

نعم، حين تحتاج الضرورة إجراء المراجعة وفي إطار جماعي مع الرفاق خارج الأسر، فهذه العملية تجريها الجبهة بشكلٍ دوري، وخاصة في المؤتمرات والوقفات التقييمية، وقد أنجزت الجبهة عملية تحديث الوثيقة النظرية للجبهة لاستيعاب بعض المستجدات في تناقضات الرأسمالية المعاصرة والرؤية النظرية للثورة العالمية، فضلاً عن ضبط العلاقة بين البعدين التكتيكي والاستراتيجي في خطاب وموقف الجبهة السياسي، والتركيز على عملية التحرير الشامل لإحداث التوازن الضروري بينهما.

أما طرائق النضال؛ فهي متحركة ارتباطاً بحركة الصراع مع الاحتلال، فالواقع الفلسطيني لا يطرح على شعبنا سوى خيار المقاومة الشاملة، والمتحرك فيها هو تحديد الأسلوب الرئيسي للنضال الذي تتفصل حوله كل أساليب المقاومة في كل مرحلة.

 تعتزمون الدخول في إضراب مفتوح، لماذا هذا الإضراب؟ وما هي الرسائل التي توجهونها من خلاله للاحتلال وللفلسطينيين والمجتمع الدولي؟

عملياً لم تصل الحركة الأسيرة إلى محطة الإضراب المفتوح، فعشية الإضراب تراجعت مصلحة السجون عن تطبيق إجراءاتها القمعية الجديدة التي استهدفت العودة بشروط حياة الأسرى عشرات السنوات إلى الوراء، فقد كان الهدف المعلن للإضراب هو وقف الهجمة الجديدة وفق توصيات وزير الأمن الداخلي الإرهابي بن غفير، والحفاظ على مكتسبات الأسرى. وقد نجحت الحركة الأسيرة في تحقيق أهدافها بفعل استنفار الأسرى لطاقاتهم وقواهم، وتحشيدها تحت قيادة لجنة الطوارئ الوطنية العامة التي تُمثّل كل ألوان الطيف السياسي المكون للحركة الأسيرة.

هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، تفاقم التناقضات داخل مؤسسات الحكومة الصهيونية “مصلحة السجون ووزارة الأمن الداخلي والحكومة الجديدة بوجهٍ عام”، وخشية الحكومة الصهيونية من انعكاس ذلك على الأوضاع الأمنية المضطربة في المناطق المحتلة في غزة والضفة والقدس والجزء المحتل من فلسطين عام 1948.

وقد سبق وأن حاولت حكومة “نتنياهو” في أعوام 2018-2019 التضييق على حياة الأسرى ونزع مكتسباتهم النضالية الحياتية المادية والمعنوية، فيما سبق في تلك الفترة بخطة وزير الأمن الداخلي “جلعاد أردان”؛ تضمنت مصادرة الكثير من حقوق الأسرى، كالحق في التعليم وتقنين الكتب والمس باستقرارهم الاجتماعي والسكني، وإلغاء التمثيل الاعتقالي العام، وتقليص مدة الفورة، وإجراء التنقلات بين السجون وخاصة لذوي الأحكام العالية، وتقليص مواد الكانتين وغيرها، الأمر الذي فَجرّ الأوضاع في كل السجون وإعلان حالة التمرد العام، وإحراقه قسم كامل، في سجن رامون، ومناوشات عديدة في عددٍ من السجون الأخرى، والتجهيز للإضراب المفتوح عن الطعام، مما أدى إلى اضطرار الحكومة الصهيونية إلى تجميد هذه الخطة، إضافةً إلى تركيب أجهزة الهاتف العمومي في عددٍ من الأقسام، وإقرار عملية تركيبها في كل السجون، وخطة الوزير الإرهابي بن غفير كانت امتداد لخطة الوزير الإرهابي جلعاد أردان، مضافاً إليها بعض التوصيات السطحية، كإغلاق بعض المخابز في السجون التي تزود الأسرى بالخبز اليومي، وتقليص مدة استحمام الأسير اليومية إلى أربع دقائق، ووقف العمليات الجراحية للأسرى المرضى، وفي حال الضرورة أن يلزم الأسير بتغطية نفقاتها، ومع ذلك ومن دون هذه التوصيات، فإن أوضاع وشروط حياة الأسرى ليست وردية، فهي دون اتفاقات جنيف وبشكلٍ خاص اتفاقية جنيف الثالثة التي تنص بوضوح على حقوق أسرى الحرب، وكذلك ملحق روما في عام 1977.

وقد حملت خطة الإضراب عدة رسائل فهي أولاً: مساهمة من الحركة الأسيرة باستنهاض النضال الوطني العام، وثانياً: الدعوة إلى تدويل قضية الأسرى باعتبارهم أسرى لنضالٍ مشروع وحرب وطنية عادلة، وثالثاً تأكيد شرعية النضال الوطني العام الذي شَكلّ الأسرى أبرز رموز شرعية النضال الوطني التحرري الفلسطيني.

 هل تغيرت الأوضاع داخل السجن بعد وصول حكومة نتنياهو المتطرفة؟

من حيث الجوهر لم تتغير أوضاع الأسرى مع وصول حكومة “نتنياهو” إلى سدة الحكم، لكن الأوضاع لا زالت مشحونة بالتوتر رغم إيقاف الهجمة الصهيونية، وعليه ستظل أصابع الحركة الأسيرة على الزناد.

 كيف تتابعون تطورات الوضع في الأراضي المحتلة؟ هل يسمح لكم بالوصول إلى وسائل الإعلام، تلفزيون، إذاعة؟ أم وسيلة اتصالكم الوحيدة مع الخارج هي محاميكم وأفراد عائلاتكم؟ 

أنجزت الحركة الوطنية الأسيرة في سياق محطات نضالها المتعاقبة حق الأسرى في الحصول على جهاز التلفاز وأجهزة الراديو والصحف والكتب، فواقع الحركة الأسيرة يتيح لأفرادها متابعة التطورات والتَحولّات السياسية خارج الأسوار. فما هو متابع اليوم هو متابعة القنوات الإخبارية الصهيونية، فضلاً عن محطتي RT الروسية ومحطة فلسطين ومحطات ترفيهية عربية “MBC دراما، MTV، MBC”، والأهم من ذلك الحق في إدخال الكتب عن طريق الزيارة بواقع كتابين في الشهر لكل أسير.

 تعيش الأراضي الفلسطينية تحولات كبرى في مسار المقاومة، مع ظهور تنظيمات مسلحة لا تنتمي إلى الفصائل، على غرار عرين الأسود وكتيبة جنين، كيف تقرؤون هذه التحولات؟ وأي إضافة ستقدمها لمسار المقاومة الفلسطينية؟

يمكن الحديث عن تقدم نوعي في أساليب المقاومة الفلسطينية الشعبية والمسلحة، لكن هذا التقدم لم يرق إلى مستوى إحداث اختراق نوعي في موازين القوى التي تحكم معادلة الصراع مع الاحتلال؛ فهذه المسألة تحتاج إلى تضافر أبعاد النضال الوطني والقومي والأممي. ومع ذلك، فالأرض المحتلة تختزن في جوفها بركانا قد ينفجر في أي لحظة، فما نشهده اليوم من مواجهاتٍ هي مقدمات لهذا الانفجار الشامل، فالوضع الفلسطيني الراهن يشابه الأوضاع التي سبقت الانتفاضة الأولى عام 1987، وكذلك مقدمات الانتفاضة الثانية عام 2000، والشروط الموضوعية ناضجة، ولا ينقصها سوى توفر الشرط الذاتي أو تحقيق الوحدة الوطنية، وأدواتها الوطنية الموحدة لقيادة نضال شعبنا.

فكل من تابع محطات النضال الوطني الفلسطيني، يدرك أن الوحدة الوطنية الجامعة شَكلّت الرافعة الرئيسية للارتقاء النوعي بالنضال الوطني، وتركيم الانجازات الوطنية. وأبرز مثال على ذلك الانتفاضة الأولى عام 1987، فكل إرهاصات ومقدمات هذه الانتفاضة ما كانت بإمكانها إحداث هذا التَحوّل لولا استعادة وحدة “م.ت.ف” (منظمة التحرير الفلسطينية) مع دورة المجلس الوطني الفلسطيني التي عُقدت في الجزائر قبل أشهر قليلة من انفجار الانتفاضة.

 لكن في مقابل ذلك، لا يزال الشرخ قائما بين الفصائل الفلسطينية.. في تقديركم، لماذا هذا الشرخ مادام الهدف واحدا؟ وأي سبيل لإنهاء هذا الانقسام؟

بدايةً لابد من التوضيح أن مساحة التوافق الوطني الفلسطيني الراهنة نظرياً تنحصر في برنامج الحد الأدنى للنضال الوطني الفلسطيني؛ أي حول الهدف المرحلي المُعبّر عنه في حق العودة وحق تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، بينما تعتبر قيادة فتح وعدد من التنظيمات المشاركة مع قيادة “م.ت.ف” أن هذا الهدف يُشكّل سقفها الأعلى، وترسيمه في التوقيع على اتفاق أوسلو، والترويج لحل الدولتين. وترى الجبهة الشعبية أن تحقيق هذا الهدف يجب أن يُشكّل حلقة من منظومة عملية التحرير الشامل لفلسطين التاريخية أرضاً وشعباً. ومع ذلك، فإن القواسم المشتركة الراهنة كافية لانجاز المصالحة الوطنية وإنهاء الانقسام على طريق تحقيق الوحدة الوطنية، وإعادة بناء أدواتها ومؤسساتها القيادية على أسس وطنيةٍ وديمقراطية، وهذا ما نصت عليه جميع وثائق واتفاقات المصالحة، وآخرها اتفاق الجزائر الشقيقة.

أما مكمن الخلل؛ فهو استمرار تمسك القيادة المهيمنة على المنظمة بمنهج اتفاق أوسلو والتزاماته الأمنية والسياسية والاقتصادية، وتفردها باتخاذ القرار الوطني، واحتجاز تطور وعملية إعادة بناء “م.ت.ف” على أسسٍ وطنية وديمقراطية، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى طغيان نزعة الصراع الفئوي على القيادة والسلطة بين حركتي فتح وحماس.

فتوقيع اتفاق أوسلو خارج الإجماع الوطني، أسس عملياً لنقل تناقضاتنا مع الاحتلال إلى الداخل الفلسطيني، وإنتاج الانقسام الراهن، كما فكك وحدة الشعب الفلسطيني – أي وحدة الأرض والشعب والقضية والهوية – بعد التنازل عن 78% من مساحة فلسطين التاريخية والاعتراف الرسمي من قبل قيادة “م.ت.ف” في سيادة الكيان الصهيوني على هذا الجزء المحتل من فلسطين عام 1948، وإخضاع ما تبقى من فلسطين والثوابت الوطنية الفلسطينية للمفاوضات غير المتكافئة مع العدو الصهيوني، ودون أي ضمانات أو جداول زمنية تكفل إنهاء الاحتلال، وتنفيذ حق العودة، الأمر الذي أدى أيضاً إلى تفكيك عناصر البرنامج الوطني كتحصيل حاصل. فعلى الرغم من تبدد الأوهام التي بُنيت على هذا الاتفاق، وموت اتفاق أوسلو فعلياً، لا زالت القيادة المتنفذة في “م.ت.ف” متمسكة مرغمة أو راضية في التزامات هذا الاتفاق خاصة الأمنية.

وعليه، فإن الخروج من دائرة الأزمة الفلسطينية الراهنة هو إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية، يتطلب مغادرة قيادة “م.ت.ف” مربع أوسلو والتزاماته، ونبذ أوهام التسوية مع الكيان الصهيوني، وإعادة الوحدة لمكونات الشعب الفلسطيني وعناصر برنامجه الوطني، واستعادة جوهر الصراع الوطني الفلسطيني العربي كصراع بين المشروع القومي والوطني التحرري، والمشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني العنصري.

وعلى المستوى الراهن والمباشر، تطبيق جميع قرارات المجلسين الوطني والمركزي المتعاقبة، ومخرجات اجتماع الأمناء العامين للفصائل الوطنية، التي نصت على ضرورة شق الطريق لفك الارتباط مع تعاقد أوسلو وإنهاء جميع التزاماته السياسية والأمنية والاقتصادية، وفي مقدمتها سحب الاعتراف بالكيان الصهيوني وإنهاء التنسيق الأمني، وتنفيذ كل الاتفاقات الوطنية لإنجاز المصالحة، وإنهاء الانقسام، واستعادة الوحدة الوطنية في إطار “م.ت.ف” بإعادة بنائها على أسسٍ وطنيةٍ وديمقراطية لتعزيز مكانتها، وإعادة الاعتبار لها ككيانٍ سياسي لوحدة شعبنا بكل أطيافه السياسية والاجتماعية، وجميع هذه المطالب يكثفها وينص عليها وضوح اتفاق الجزائر للمصالحة الوطنية الفلسطينية، فقد أضعنا العديد من الفرص، وآخرها المسار الديمقراطي لإعادة بناء البيت الفلسطيني الداخلي، وإجراء الانتخابات الشاملة للمجلسين الوطني والتشريعي والرئاسة على أساس نصوص المرسوم الذي أصدره الرئيس محمود عباس في بداية عام 2021، واليوم علينا استعادة هذه الفرصة بالالتزام في تطبيق اتفاق الجزائر الذي نص على جميع هذه الاستحقاقات للانطلاقة خطوة للأمام على طريق التحرير نحو تحقيق أهدافنا الوطنية والتاريخية.

 الجزائر قامت بجهود كبيرة لجمع الفصائل الفلسطينية بالجزائر وتوجت الجهود بالتوقيع على اتفاق المصالحة، ما أهمية الخطوة، وما هي رسالتكم للفصائل من أجل تنفيذ الاتفاق على الأرض؟

الأهمية الأساسية لاتفاق الجزائر للمصالحة الوطنية؛ هي الرعاية الجزائرية بكل ما تمثله الجزائر من مكانةٍ سياسيةٍ ومعنويةٍ لشعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية، وقد شَكلّ انتصار الثورة الجزائرية نموذجاً وعاملاً مُحفزاً لانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، ولعددٍ من الثورات العربية كثورة الشعب اليمني في الجزء الجنوبي المحتل من اليمن بقيادة الجبهة القومية في ذلك الوقت، والتي تمكنت من تحريره وإنهاء الاحتلال البريطاني، وامتداد صداها وتأثيرها لعموم القارة الإفريقية.

وعليه، فإن دور الجزائر في رعاية هذا الاتفاق هو امتداد تاريخي لدعمها وإسنادها لنضالنا الوطني التحرري في كل محطاته التاريخية، لذا نأمل وندعو إلى تواصل واستمرار دورها لما تحظى به من احترامٍ وتقدير لدى كل فصائل العمل الوطني الفلسطيني، وأن يتبع هذا الدور مساهمتها القومية في حل وتفكيك العديد من الأزمات التي تعيشها شعوب أمتنا، وفي الوقت  نفسه نقدر ونثمن دورها القومي المسؤول، إلى جانب دورها المؤثر على القارة الإفريقية والاتحاد الإفريقي.

 هل تتفقون مع الرأي القائل إن الكيان الصهيوني بدأ يتآكل وذاهب نحو التفكك؟

هذا التشخيص دقيق فكل تجارب الاستعمار الاستيطاني التي لم تنجح في استئصال وإبادة سكان البلاد الأصليين أو تبديد هويتهم آلت إلى هذا المصير كما هو الحال في تجربتي زيمبابوي وجنوب إفريقيا، حيث لعب الإجماع الدولي على مناهضة أنظمة الفصل العنصري، وبالأساس نضال الشعب في هذين البلدين، دورا في تفكيك هذه الأنظمة.

والواقع الفلسطيني ليس استثناء وإن كانت له ظروفه الخاصة المتميزة عن تجربتي زيمبابوي وجنوب إفريقيا من حيث إجماع العالم الغربي بقيادة أمريكا على دعم الكيان الصهيوني واعتبار المساس به خطا أحمر غير مسموح تجاوزه. ففلسطين بحكم موقعها الجيوسياسي في قلب الوطن العربي والشرق الأوسط أحدثت تقاطعا في المصالح حول الدفاع عن وجود الكيان الصهيوني ودعمه بمعزل عن مساحة هذا الكيان وفق تصور أوروبا أو أمريكا، وهذا الأمر يجعل مسألة زوال الكيان الصهيوني أكثر صعوبة قياسا بتجارب الاستعمار الاستيطاني الأخرى، ويحتاج إلى تضافر الجهود الوطنية والقومية والدولية لعزل هذا الكيان ونزع الشرعية عن مشروعه وكيانه البغيض، الأمر الذي سيعمل على تفاقم الأزمة الداخلية البنيوية للكيان الصهيوني وتآكل قدرته على الردع، كذلك الاستثمار الفلسطيني في مجرى تناقضات الكيان الصهيوني وصراع الهويات والصراع الطبقي في إطار توسيع التيار اليهودي المعادي للصهيونية وتعزيز العلاقة معه مهما كان وزنه ضعيفا في الوضع الراهن.

هذه التناقضات وخطورتها على مستقبل الكيان تحدث عنها “ريفيلين”، الرئيس الأسبق للكيان الصهيوني، في خطابه في “الكنيست” عام 2015، حيث أشار إلى “أن وضع الكيان منذ نشأته كان يعكس وجود أغلبية يهودية تقابلها أقلية عربية، أما اليوم فإننا نشاهد المجتمع منقسما إلى أربعة أسباط “قبائل” بالعبرية: سبط حريدي “متدين”، سبط يهودي صهيوني، سبط علماني والأخير عربي، الأمر الذي يعكس عمق تناقضات المجتمع الصهيوني، فما نشاهده اليوم يؤكد هواجس الرئيس ريفيلين التي تحدث بها بالأمس ويصب في اتجاه حتمية تفكك الكيان الصهيوني وزواله، إضافة إلى تداعي أركان الرواية الصهيونية المؤسسة على أساطير التوراة بفعل الاكتشافات الأثرية التي نسفت مقولة “شعب الله المختار” و”الحق التاريخي في فلسطين”، إضافة إلى العديد من الدراسات البحثية المستندة إلى حقائق علم الآثار واكتشافاته من خلال التنقيب في فلسطين لتأكيد رواية التوراة، التي جاءت نتائجها مختلفة عن نصوص التوراة والتواريخ والأماكن الواردة فيها. فهذه النخبة وهي واسعة نسبيا في الإطار الأكاديمي لم تعد تتحدث عن أساطير التوراة بل عن الطابع الكولونيالي للدولة الصهيونية. كل ذلك إضافة لانكشاف طبيعة الكيان الصهيوني ووظيفته الامبريالية واتساع نطاق التأييد للنضال الوطني الفلسطيني إلى المستوى العالمي سيؤدي عمليا إلى تفكيك وزوال هذا الكيان العنصري الإمبريالي الذي جاء إنتاجه خارجا عن سياق الجغرافيا والتاريخ.

تشهد الأراضي المحتلة تصعيدا كبيرا زادت حدته مع وصول الحكومة المتطرفة التي يقودها “نتنياهو” مقابل ارتفاع منسوب الغضب في أوساط الشارع الفلسطيني، إلى أين سيقود هذا التصعيد في تقديركم؟

الأوضاع التي تشهدها الأراضي المحتلة اليوم تشكل مقدمات لانفجار الانتفاضة الثالثة وهي أكثر عمقا وقوة وتأثيرا قياسا بالانتفاضتين الأولى والثانية، وهذا يحتاج إلى توفير الشرط الذاتي الفلسطيني بإنهاء الانقسام وإنجاز الوحدة الوطنية الديمقراطية وبناء أدواتها الكفاحية القيادية على أساس استراتيجية وطنية موحدة ترتكز على خيار المقاومة ومغادرة أوهام التسوية والحلول الوسط مع الكيان الصهيوني غير الممكنة واقعا، الأمر الذي أكدته تجربة ثلاثين عاما من المفاوضات التي بنيت على أساس مسار مدريد – أوسلو، التي فشلت بامتياز وأسست للوضع الراهن المأزوم الذي يعيشه شعبنا وقضيته الوطنية.

 ما هو موقفكم من تطبيع دول عربية مع الكيان الصهيوني؟ وهل الأسباب التي قدمتها هذه الدول تبرر خطوتها؟

التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني طعنة في ظهر الشعب الفلسطيني وقلب الأمة العربية، فالكيان الصهيوني لا يُشكّل خطرا على الشعب الفلسطيني وحده بل على عموم شعوب الأمة العربية والأمم الإفريقية ودول الإقليم في الشرق الأوسط، فالهدف من إنشائه كان إحباط أي محاولة للنهوض العربي القومي التقدمي وتوظيفه كأداة إمبريالية ضاربة لحماية مصالح الإمبريالية العالمية في المنطقة العربية، أما الأعذار التي تقدمها هذه الدولة العربية أو تلك فهي أقبح من ذنب وخطيئة التطبيع. ففي الوقت الذي يذبح الشعب الفلسطيني بآلة الحرب الصهيونية ويتصاعد حجم التأييد الدولي للحقوق الفلسطينية وتتسع دوائر ومحاولات المقاطعة الدولية للكيان الصهيوني، الأمر الذي نشهده من خلال إنجازات الـBDS، حملة المقاطعة الاقتصادية “لإسرائيل” وسحب الاستثمارات، في هذا الوقت نفسه تهرول هذه الدول للتطبيع مع العدو الصهيوني لتعزيز قوته وتجميل وجهه القبيح، فأي فائدة ستجنيها بعض دول الخليج العربي الغنية من التطبيع؟ وأي مصلحة للمغرب الذي يترأس مؤتمر القدس من هذا التطبيع؟ هل شعب الصحراء الغربية هو العدو المركزي للمغرب؟ هذه المشكلة يمكن حلها من خلال تنفيذ قرار الأمم المتحدة بإجراء الاستفتاء لتحديد مصيرها. وعليه فإن مأسسة الرفض الشعبي العربي للتطبيع مع الكيان الصهيوني يجب أن تتصدر جدول أعمال كل القوى القومية والوطنية العربية التقدمية.

 كيف تابعتم تطبيع العلاقات السعودية مع إيران وكيف سينعكس ذلك على القضية الفلسطينية؟

رحبت الجبهة الشعبية بهذه المبادرة وأبدت ارتياحها لها وثمنت الدور الصيني المسؤول واتساعه سياسيا وتعاطف هذا البلد على المستوى الدولي وفي كل المجالات وجهوده لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة العربية والعالم ولجم الغطرسة والبلطجة الإمبريالية الأمريكية وإشاعته مناخات التوتر والحرب وتهديد السلام الدولي ودفع العالم إلى حافة الحرب الكونية. وعليه، آمل أن تؤدي هذه المبادرة إلى تحجيم حدة السيف الأمريكي المسلط على رقاب دول الخليج العربي والمنطقة العربية بشكل عام والمساهمة في إيجاد حلول عربية لأزمات المنطقة، خاصة الحرب في اليمن واستمرار عزل سوريا عن محيطها العربي وحل الأزمة اللبنانية المستعصية الراهنة وإخراج البلد من دائرة الحصار والابتزاز الإمبريالي الدولي وإعادة الاعتبار لدور المؤسسات العربية المستقل وإغلاق الباب أمام كل أشكال التدخل الدولي في الشؤون العربية وتدويل أزماتها كما يجري في اليمن وليبيا. كما آمل أن يظل هذا الموقف ثابتا وغير مرهون بتغيير الإدارة الأمريكية وعودة الحزب الجمهوري إلى سدة الحكم. والمصالحة السعودية الإيرانية يمكن أن تساهم في تسريع إنجاز الاتفاق الدولي حول الملف النووي الإيراني ولجم المحاولات الأمريكية الصهيونية لتوظيف دور دول الخليج في محاصرة إيران وترجيح الخيار العسكري لحل هذه الأزمة المفتعلة حول هذا الملف، هذا الخيار الذي ستكون إسقاطاته السلبية وعواقبه وخيمة على أمن دول الخليج العربي بشكل خاص والمنطقة العربية عموما.

 في رأيكم كيف ستؤثر التغيرات التي تعرفها المنظومة الدولية مع بروز قوى جديدة مثل الصين وروسيا وانتقال العالم من القطبية الأحادية إلى القطبية المتعددة على القضية الفلسطينية؟

ولادة عالم متعدد الأقطاب من شأنها أن تعيد التوازن إلى المجتمع الدولي ومؤسساته الدولية القيادية وتفتح فرصا أكبر لدول المحيط والجنوب الفقيرة لاختيار طريقة تطورها الاقتصادي المستقل وتحريرها من سطوة مؤسسات العولمة الامبريالية الاقتصادية (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، الخزانة الأمريكية) وشروط اتفاق واشنطن للقروض المالية، التي أدت عمليا إلى نهب خيرات هذه الدول وإفقارها بالاستيلاء على الفوائض النقدية التي تنتجها فروع الشركات العملاقة العاملة فيها ونقلها إلى الأسواق الغربية وإبقاء هذه الدول ترزح تحت مقصلة تسديد فوائد القروض الدولية، علاوة على تسديد الديون نفسها.

صحيح أن القطب المتوقع تكريسه عالميا بقيادة الصين وروسيا مقابل القطب الرأسمالي الليبرالي لن يكون اشتراكيا أو يشكل عودة بالعالم إلى مرحلة ما قبل انهيار المعسكر الاشتراكي الدولي بقيادة الاتحاد السوفياتي، فالصراع الدائر لا تحكمه أو توجهه الدوافع الأيديولوجية بل هو صراع على مناطق النفوذ والقوة والمال ومصادر الطاقة والمصالح الاقتصادية عموما، لكنه في واقع الحال سيكون أقل تعسفا في تعامله مع الشعوب من النظام الأحادي القطبي، بقيادة الإمبريالية الأمريكية والرأسمالية الغربية. وصحيح أيضا أن القطب الجديد لم تكتمل ولادته بعد، غير أن المرحلة الانتقالية التي يمر بها النظام العالمي اليوم ستؤدي بالضرورة إلى تأسيسه وتكريس دوره، فالطبيعة تكره الفراغ والنظام الإمبريالي الدولي تآكلت وتراجعت قوته وهيمنته منذ عقدين من الزمن. والأهم من كل ذلك أن هذا العالم متعدد الأقطاب سيسرع من نضال الشعوب المقهورة والطبقات الفقيرة على المستوى العاطفي واستكماله من أجل إنشاء نظام دولي عالمي جديد قائم على أساس التقسيم العادل للثروة الدولية والتكافؤ بين الشعوب ونبذ كل ألوان القهر والتمييز على أساس عرقي أو قومي أو لون أو جنس.

 أخيرا، ما هي رسالتكم إلى عموم الشعب الفلسطيني والفصائل الفلسطينية وإلى السلطة الفلسطينية؟

رسالتي إلى شعبنا الفلسطيني هي أن يثقوا بحتمية انتصار نضالنا الوطني العادل ضد المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني العنصري، فقد قطعنا شوطا مهما على هذا الطريق وعلينا استكماله بتعميق وتوسيع مقاومتنا بكل الأشكال والأساليب التي تتطلبها المرحلة التي نمر بها وتمر بها قضيتنا الوطنية، إضافة إلى ذلك ضرورة التوحد الشعبي والقيام بدوره الديمقراطي في الشارع الفلسطيني للضغط على أطراف الانقسام من أجل إنهائه على طريق تحقيق الوحدة الوطنية، فالحوار الوطني لم يعد كافيا، ومصدر شرعية أي حزب أو كيان فلسطيني هو الجماهير الشعبية التي تدفع فواتير الدم بالمعركة مع الاحتلال، أما القوى الوطنية والفصائل الوطنية بشكل عام بكل ألوانها السياسية فعليها أن تمتلك الإرادة السياسية من أجل إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية، والشرط الأهم لتوحيد شعبنا وقيادة نضاله الوطني ووضعه على طريق تحقيق أهدافه الوطنية والتاريخية وإلى قيادة منظمة التحرير الراهنة التي تمتلك قرار تطبيق كل الاتفاقات الوطنية للمصالحة أن تكف عن احتجاز عملية إعادة بناء “م.ت.ف” على أسس وطنية ديمقراطية وإعادة المكانة والاعتبار لها ولدورها كقيادة سياسية كفاحية جامعة لوحدة شعبنا وقواه السياسية والمرجعية العليا لنضال شعبنا والممثل الشرعي والوحيد له في كافة أماكن تواجده، فالوقت من دم والتاريخ لن يرحم كل من لا يؤدي واجبه والتزاماته تجاه قضيتنا ومشروعنا الوطني التحرري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى