الديمقراطية…التداول…وليس التمكين
سليم الزريعي
ظهَّرت أحداث عام 2011، مفهوما كان حاضرا في بعض الحياة السياسية العربية الرسمية، لكنه في الواقع كان الغائب الفعلي بامتياز، والحديث هنا يتعلق بالديمقراطية، الذي بدا وكأنه اكتشف لأول مرة.
هذا الاكتشاف جعله على ضوء الممارسة أحد أكثر المفاهيم التباسا في المشهد السياسي العربي كما نعتقد،بسبب أن الكل شرع يتحدث عن الديمقراطية وفي الديمقراطية باعتبارها سلاحا، يمتشقه ليؤكد به صوابية خياراته السياسية والفكرية وربما الأمنية، عبر الأبوية الحصرية أو المميزة لهذا المفهوم في مواجهة الآخرين المختلفينمعه.
وفي إطار مقارعة كل الأطراف في المشهد العربي بعضهم البعض، حول من يمتلك هذا الحق دون غيرة؛ يجري تجاهل أحد أبجديات الديمقراطية، وهو حق وجود الآخر والحق المشترك في الاختلاف؛ دون أن يعني ذلك الذهاب نحو النفي المتبادل، وإلا لن نكون أمام الديمقراطية التي تقبل القسمة على الجميع وتحتوي الجميع طالما قبلوا مظلة الدولة والقانون والعيش المشترك كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.
ولعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا، هو: لماذا لا تتطابق الأفعال في الحالة العربية مع الأقوال فيما يتعلق بالديمقراطية؟ ذلك أننا إذا ما استحضرنا التجربة العربية المعاشة طوال عقود، بما فيها سنوات حراك ما بعد 2011، سنجد أن هذا المفهوم جرى في السنوات الأخيرة ابتذاله بدرجة فجة، مكنت الكل من التلويح به في وجه الكل، حتى بات الناس حيرى أمام اكتشاف من هو الديمقراطي الحقيقي، ومن هو الديمقراطي المزيف، في حين أن الديمقراطية يجب أن تأتي في مقدمة القيم والمعايير والسلوكيات الثقافية المدينية التي تحتوي الجميع.
ولاشك أن ابتذال الديمقراطية كمفهوم وممارسة،جعل حتى النظم ليس الاستبدادية تدعي الديمقراطية، بل ويا للمفارقة حتى تلك” النظم العائلية”، التي بدا وكأنها هي من تقود الحراك نحو المجتمعات والقيم الديمقراطية، فيما تجربة سنوات ما بعد حراك 2011، كشفت وتكشف في الممارسة الفرق الشاسع بين الديمقراطية المبتغاة؛ وادعاء الديمقراطية، ومشاهد السنوات الماضية أظهرت كم من نظام عربي “تبجح” بالديمقراطية، في الوقت الذي كان هو؛ بعيد عن قيم وممارسات هذا المفهوم الحقيقية بُعد السماء عن الأرض.
ومع ذلك ورغم مرور عدة سنوات على تفجر حراك 2011، وغياب الاستقرار في أكثر من بلد عربي، فإننا نستطيع القول إننا ما نزال نعيش أزمة وعي الديمقراطية، وأزمة في ممارستها بشكل صحيح، وذلك بسبب أن الديمقراطية كمنهج في الحياة ما زالت مستعصية على الحل في منطقتنا، كون الأفراد والجماعات والأحزاب فشلوا ابتداء في تعريفها وفهمها والقناعة بها وممارستها بشفافية، وإنما جرى استغلالها لمصالح شخصية وأهداف سياسية عبر ما يسمى “توظيف الديمقراطية” أي “الديمقراطية الشكلانية”.
حصل كل ذلك مع أنه لم يحظ مفهوم كمفهوم الديمقراطية بكل ذلك القدر من التداول بين النخب الفكرية والثقافية، والقوى السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وما بينهما؛ وكذلك المواطنين باعتبار أن الديمقراطية ستوفر الواحة التي سيستظل بها الجميع من غياب الحريات والمساواة والعدالة، وكلٌ بالطبع من منظوره الفكري والسياسي الذي يعكس مصالحه ومن يمثل.
هذا التداول لـ”لافتة الديمقراطية” بصرف النظر عن فهما ووعيها باعتبارها‘ سلوك وثقافة وطريقة عيش، لم يكن ممكنا في السابق لولا حراك 2011؛ رغم كل ما قيل وما يزال يقال عنه، إلا أنه مع ذلك، هو الذي فتح الباب على مصراعيه أمام حراك شعبي بذلك الغلاف الديمقراطي الشعبوي، حتى بات الناس يعتبرون الديمقراطية في حد ذاتها هي الهدف وحسب، في حين أنها وسيلة وغاية في الوقت نفسه، لمن يتطلع إلى بناء مجتمع ديمقراطي يؤسس للحرية والعدالة الاجتماعية والمجتمع المدني الذي يتسع لكل الاختلافات السياسية والفكرية والإثنية، ويعلي من شأن المواطنة التي هي كلمة السر في مجتمع التنوع الذي يثري الحياة، ويشكل رافعة من أجل كسب الرهان مع المستقبل في مجتمع حر ديمقراطي تعددي؛ دون افتئات من فئة اجتماعية أو أيديولوجية أو سياسية على أخرى، وإنما مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات.
هنا تبرز الحاجة من موقع النزاهة الفكرية والسياسية وحتى الأخلاقية، فك شبهة الخلط بين كل من مفهومي “وظيفة الديمقراطية”؛ و”توظيف الديمقراطية “.
ذلك أنه شتان فيما نقدر بين الاثنين، خاصة في ظل مخرجات الحراك السياسي العربي غير المسبوق، على أساس أن شرط وظيفة الديمقراطية يتطلب مغادرة الأقوال التي تحمل قدراً كبيراً من الإبهام وربما المراوغة التي تحمل شبهة توظيف الديمقراطية بالمعنى الميكيافلي الضيق؛ إلى الأفعال التي تترجم بشكل جلي رؤية ثابتة ونهائية تقبل الآخر كشريك في الوطن، وأن تترك للآليات الديمقراطية أن تقرر هي، من تمنح السلطة، ولكن شرط أن يكون ذلك في إطار التداول الدائم والمستمر للسلطة.
ولا شك أن حراك 2011، وضع الجميع أمام امتحان الحرية والديمقراطية، والنجاح فيه يرتبط بالقدرة على استيعاب هذا المتغير العاصف الذي أطاح بالأنظمة التي “تكلست”، وفتح الأبواب على مصارعها للتنافس الديمقراطي أمام الجميع، ولكن بشرط الديمقراطية التي هي أيضا؛ ثقافة وسلوك قبل أن تكون نظام عيش وحكم.
هنا يبرز ذلك السؤال الجوهري، حول مدى مطابقة أقوال قوى ما بعد 2011، لأفعالها بالمعنى السياسي والفكري والعملي؛ أي موقفها من الديمقراطية كوظيفة؛ خاصة أن من بين هذه القوى؛ هناك البعض منها يمكن القول إنها لم تختبر في ذلك؛ خاصة عندما يتعلق الأمر باستلام السلطة.
وهذا التمييز من شأنه أن يضع صدقية الكثير من القوى على المحك، خاصة بعد أن اعتلى الجميع صهوة الثورة، ومرد ذلك إلى أن الكثير من المفاهيم والقوانين التي عملت الثورات على إرسائها، واجهت عقبات جدية نتيجة الفهم المتباين وربما المتناقض الذي اتكأ على مفهومي الاستحواذ والنفي المتبادل؛ كبديل عن الديمقراطية في معناها الحقيقي أي التناقض داخل الوحدة.
وأخيرا مع أن حراك 2011 فتح أبوابا جديدة، بعد أن غادرت كل القوى دون استثناء دور الضحية، إلى الفضاء الديمقراطي المفتوح على التنافس السياسي، إلا أن هناك خشية جدية على ضوء تجربة سنوات ما بعد الحراك، من تراجع السياسة لدى بعض القوى لصالح الأيديولوجيا؛ وهذا سيجعل هذا البعض من هذه القوى، وللأسف لا يرى الصواب إلا حيث يكون، وهو سلوك خطر وغير ديمقراطي بامتياز؛ كونه لا يقبل بالآخر وبالمجتمع؛ إلا كما يتصوره هو أن يكون، وهذه هي مشكلة تلك القوى الجوهرية، التي تؤكد حضور مفهوم “توظيف” الديمقراطية على حساب مفهوم “وظيفة” الديمقراطية، التي هي وحدها الكفيلة أن تؤكد معنى الشراكة المجتمعية في الواقع وتفتح الباب واسعا على المستقبل.