من الأسر
الأسير المحرر أحمد أبو السعود
عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
فوارق كثيرة ونوعية بين أن تقاتل وحيداً أو أن تقاتل ضمن جيش منظم ويعي ما يريد، فأن تصل السجن وتدخل الغرف بعد أن يتم الفرز لأي غرفة ستذهب لها تبعاً للتنظيم الذي تنتمي إليه، وفعلاً وجد نفسه محاطاً برفاق لم يسبق له أن عرفهم أو سمع بأي منهم، لكن الارتباط التنظيمي كما يبدو يولد ترابط وعلاقات سريعة وسهلة، فلا يحتاج إلى مجاملات أو مقدمات، إنما يتصرف على طبيعته وسجيته إلى حد معين وهذه تختلف بين رفيق وآخر، صديقنا يشعر بارتياح لأنه انتهى من معركة التحقيق وما يصاحبها من توتر وحرق للأعصاب ومعانيات شديدة، هو الآن بين الرفاق ويمكنه أن يزور الأهل من وراء الشباك بعد غياب شهور عنهم وعن أخبارهم، حظيَّ وكأي قادم جديد على رعاية واهتمام من الرفاق وحتى الأسرى الذين يلتقيهم أثناء الفورة، يتوجه إليه بعض الأسرى ليسألوه عن أحواله وعن الحياة خارج السجن ويتعرفوا اليه، وصادف أن التقى بعض ممن أمضوا عشرين عاماً أو أقل من ذلك، وهو يستمع أكثر مما يتحدث فقد وجد أن غالبيتهم لم يكونوا كلهم يتفوقوا عليه بالوعي الثقافي والسياسي، وهو الذي ترك المدرسة لأسباب عائلية بعد وفاة والده بعد أن أنهى الصف الثامن في المدرسة والتحق بسوق العمل، لم يصادف أن استخدم القلم إلا لأشياء محدودة وبالتالي لم يصادف أن قرأ إلا أثناء اعتقاله الأول قصير المدة العديد من الكتب، شكلت له بعض الوعي وخاصة في كتب عمقت لديه الانتماء الوطني والوعي الأمني إلى حد معين، كثيرون مثله يقاومون الاحتلال وهم عمال أو طلاب، هو كان عاملاً ويفتخر بذلك خاصة بعدما قرأ الماركسية اللينينية وهذه لم تكن سهلة عليه تمكن من فهم أسسها من خلال الجلسات التي سنأتي على ذكرها ومن خلال القراءة الفردية والنقاشات، فتشكل لديه أجنة وعي بالفلسفة الماركسية، طبعاً لا يعني ذلك أن قراءاته وقفت عند هذا العنوان، وإنما قرأ تاريخ فلسطين وكتب عن ثورة عام 1936 وكثير من الكتب السياسية والأدبية وغيرها.
مضت عدة أيام شعر خلالها بأنه ضيفاً من طبيعة الاهتمام الذي تلقاه، جلس معه مسؤول الغرفة مساءً وقال له: عليك أن تعلم أننا جزء من تنظيم ونطبق سياساته وقوانينه، وكل ما يتطلبه عملنا داخل التنظيم، بالأمس كنت تعمل بالكفاح المسلح، الآن تغير شكل العمل من سرَي إلى عمل شبه علني، طابعه العام تنظيمي يهدف إلى تطوير قدرات الرفاق وتأهيلهم لمواصلة النضال بعد تحرر كل واحد منهم وهذا يعني أننا نعمل وفق قوانين وسياسات يتم إقرارها في الهيئات، والهيئات المسؤولة تأتي عبر الانتخابات الداخلية، مثلاً أنا مسؤول للغرفة لأن الرفاق انتخبوني وأحظى على ثقتهم، ومن واجبي أن أبين لك طبيعة نظام حياتنا وبرامجنا سواء الداخلية أو في الساحة مع المناضلين الآخرين وهكذا، طبعاً سوف تتعرف على تفاصيل الحياة تدريجياً، واسمح لي أن أطلب منك الخطوة الأولى أن تكتب تقريراً عن رحلتك أثناء فترة التحقيق منذ اعتقالك وحتى وصولك إلينا، ولكي أسهل عليك الموضوع يوجد نموذج فيه أسئلة تساعدك في كتابة ما حدث معك طوال الفترة، وفعلاً أحضر له دفتراً وقلماً وشرع من فوره يكتب قصة اعتقاله وكل التفاصيل التي مرّ بها، أشار إليه ألا يكتب إلا ما اعترف به أمام المخابرات غير ذلك ليس مطلوباً منه كتابة أي شيء، طبعاً الهدف من التقرير الاعتقالي هو الوقوف على تجربة الرفيق ومعرفة ما قام به من أعمال، ومستوى صلابته أمام المحققين، وحول تجربته التي راكمها ومعلومات تفصيلية عنه، وخاصة بالجانب الاجتماعي إن كان متزوجاً وله أبناء وكيفية إعاشتهم من بعده حتى يساعده الحزب إذ لا يوجد معيل لهم وأمور تتصل بالبعد الأمني، تمت كتابة التقرير وناقشه المسؤول به مستفسراً عن قضايا لم يتناولها أو أبواب لم يعبئها، في المحصلة انتهى من التقرير، والمسؤول لخص أهم ما جاء به وأرسله إلى الجهات المختصة كي يكونوا والرفاق على بينة مما دار مع الرفيق وكيف يرتبوا الأمور.
كان يستوعب الحياة داخل السجن بشكل سريع حيث الوقوف على العدد ثلاث مرات نهاراً ويتخللها مرتين ما يسمى بفحص أمني أي دخول ثلة من السجانين لفحص شبابيك الغرفة والحمام وأرضية الغرفة والشبابيك باستخدام عصا غليظة.
وهذه عادة ما تكون أثناء الخروج إلى الفورة (أي الساحة المخصصة لساعة الفورة), وشيئاً فشيئاً يتأقلم مع الواقع, لقي كثير من التفاعلات معه من جانب رفاقه بالغرفة ومن قبل المناضلين من الغرف الأخرى ما ولد لديه شعوراً بالارتياح بعد الانقطاع عن العالم عدة شهور, كجزء من النظام اليومي عقد جلستين ثقافيتين يومياً لجميع سكان الغرفة, الأولى الساعة العاشرة صباحاً والثانية بعد عدد المساء ما يقارب السادسة مساء وقبل العشاء، وقد يتم عقد اجتماعات ثنائية, حيث أن البرنامج الثقافي يتم باتفاق أعضاء الغرفة والمواد التي يتم اقتراحها لفترة غالباً ما تكون لستة شهور، وجزء من البرنامج القراءة الذاتية والمحددة بكتابين شهرياً على الأقل وضمن زمن مقرر ساعتين الزاميتين بالفترة الصباحية، وأي وقت آخر يمكن لأي رفيق أن يقرأ ما يرغب به.
تمتد الجلسة الثقافية لساعتين أو ساعة ونصف بالحد الأدنى، أي أن هناك ستة ساعات يومياً إلزامي جلسات مع قراءة ذاتية، وغير ذلك نقاشات والبعض يمارس لعبة الشطرنج أو لعبة الزهر، كما مخصص شهرياً مناقشة كتاب واحد من قبل الجميع، يفتتح النقاش أحد الرفاق المكلفين، وكذلك مطالب بعض الأعضاء بكتابة موضوع إذا كانت لديه ملكة الكتابة قوية يتم إرسال موضوعه إلى المجلة، أما الوطنية والتي تعمم على عموم الأسرى أو مجلة خاصة بالتنظيم نفسه، أما من هو ضعيف بالكتابة كحال صديقنا فعليه أن يكتب موضوع أسبوعياً ليطور امكاناته الكتابية، وغرق صاحبنا في هذه الأجواء وهو متلهف لمراكمة الوعي والمعرفة سواء بالقضايا السياسية أو الفكرية أو الثقافية، ولما كان متاحاً للأسير أن يكتب رسالتين بالشهر ويخرجهما عن طريق إدارة السجن فقد وجدها وسيلة للتواصل مع أسرته وحافظ على انتظام الكتابة، لكن هل تصل كل الرسائل؟ هذا غير مؤكد إلى جانب هذا البرنامج هناك قراءة ومناقشة غالبية المجلة الوطنية والتي تتناول مواضيع مختلفة منها السياسي والتربوي والاعتقالي والأمني والفكري والقصة القصيرة والشعر إلى آخره.
في جانب آخر أن الحياة داخل الأسر هي الحياة التنظيمية والتي هي الأساس، حيث تنظيم الوقت والعلاقات ومعالجة المشكلات وهي ليست قليلة بسبب حالة الضغط التي يعيشها الأسير, وعادة كلما حدثت مشادة أو إساءة من أحد الرفاق على غيره يتم عقد جلسة لمعالجة الأمر بتناوله من قبل أعضاء الغرفة وإظهار الخطأ أو الأخطاء وأهمية عدم تكراره، وإذا حدثت إساءة يصل الأمر لمعاقبة المخطئ بإجراء انضباطي يبدأ بالتنبيه وقد يصل إلى الفصل من عضوية التنظيم، وإذا تم فصله حزبياً يبقى تحت المسؤولية وله كل الحقوق ما عدا الحقوق التنظيمية.
قد يعتقد القارئ أن الحياة سهلة أو مريحة، الواقع غير ذلك، فلو كانت الحياة بالسجن مريحة لما خرج بعض من تنتهي محكوميته، لكن هذا وجه من الحياة قد يظهر إيجابياً، غير أن واقع الحياة أقسى مما قد يتصور من لم يجرب، اليوم كله ليلاً ونهاراً في حالة اشتباك مع السجان وقليلة هي الأيام التي لا يوجد فيها مشكلات، وقليلة هي الأوقات التي يسود فيها الهدوء، لأن إدارة السجون لديها برنامج عدم ترك الأسرى يهدئوا كي لا يفكروا في الهرب من السجن، إن الحياة بالسجن عالم غير طبيعي يقال أن غالبية من يكن من امضوا وقتاً بالأسر يصابون بأمراض نفسية، لسبب بسيط حشر عشرة أسرى وأكثر في غرفة مساحتها لا تتجاوز الثلاثين متراً مربعاً ومنها الحمام والمرحاض، فهي مكان النوم والطعام والاجتماعات وعليه أن يقضي عشرات السنين داخل هذه الجدران، للغرفة شباك مليء بالقضبان فتحاته لإدخال الهواء فقط ومن خلفه وعلى بعد قصير يوجد حاجز من الإسبست كي لا يرى الأسير شيئاً.
يتبع….