مِنَ الأسر
الأسير المحرر أحمد أبو السعود
عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
الأجواء التي خلقها اتفاق أوسلو حملت تغيرات على حياة الأسرى، كما جلبت شيئاً جديداً اعتقد البعض أنه بداية الخلاص من الاحتلال، والبعض الأخر رأى أنه تكريس للاحتلال، كثرت النقاشات والآراء، وهذا جراء الانقسام السياسي الذي امتد للشارع الفلسطيني وداخل الفصيل الواحد وحتى البيت الواحد، في السجن كان الوضع مشابهاً تماماً، لكن في السجن بدأت حاله من التراجع، فما عاد هناك اهتمام بالمجال ثقافي ولا الاعتقالي ولا غيرهما كما كان سابقاً، كل الأحاديث بدأت تنصب على الإفراجات متى ستكون ومن ستشمل، ومتابعة المفاوضات وما سوف تسفر عنه … إلخ.
يمكن القول إن أسرى فتح ربطوا مصيرهم ومصير تحررهم بمفاوضات أوسلو التي جاءت على مدى سنوات، ما يعني أن البناء التنظيمي لأسرى فتح تهلهل وصار بناؤه قائم على المناطق الجغرافية والعلاقات الشخصية، أو اختيار الشخوص الذين لديهم اتصالات مع قيادات سياسية فتحاويه بالسلطة ولهم نفوذ ممكن أن يؤثروا بالأسماء المنوي الإفراج عنها، علماً أن هناك تذمر من قبل أسرى فتح وعموم الأسرى جراء تجاهل تحررهم، فقيل أن السلطة لا تريد إطلاق سراحهم دفعة واحده ليسهل استيعابهم، هل صحيح هذا الاعتقاد أم لا؟ يصعب الجزم، لكن الشيء الصحيح أن الاحتلال ظل يرفض إطلاق سراح الأسرى مبتزا فريق التفاوض بقضايا سياسية مقابل كل دفعة ممن يتم تحريرهم.
كان في سجن عسقلان وكل السجون مخزون وافر من الكتب والكراسات هي حصيلة عشرات السنوات التي تم جمعها خلالها، ومعلوم أنها تختزن تجارب الحركة الأسيرة، ففي ظل مراحل أوسلو لم تعد تلقى اهتماماً من قبل غالبية الأسرى، فقد طرحت لمن يرغب أن يخرج أعداداً منها ليأخذها ويتصرف بها، سواء من الكتب أو الكراسات، فأخرج البعض ما اختاره ووجده مهماً، والبعض سخر منهم، إذ برأيهم لم يعد هناك حاجة للكتب أو الكراريس، فقد تم إخراج كميات كبيره ووضعها في الساحة لمن يرغب ليأخذ ما يريده منها، ويذكر صاحبنا بأن بعض أسرى حماس كانوا ينتقوا بعضها وخاصة ما يتعلق بالجانب الأمني ويأخذوه، أي الكراريس التي حملت التجارب الأمنية، وأخرى التجارب الاعتقاليه وسواها، لأن أسرى حماس كانوا حديثي التجربة قياساً بأسرى م. ت.ف، لأن اعتقالاتهم بدأت منذ العام 1988 وبالتالي لم يمض على أسرهم سوى سنوات قليله.
في هذه الفترات بالذات بدأ الاهتمام بصناعة التحف بعد أن توفر وقت فراغ واسع، حيث كان الأسرى قبل هذا يصنعون بعض التحف كمجسمات قبة الصخرة بالحرير ومسابح وبعض اللوحات ممن كانوا يتقنوا فن الرسم …إلخ، لكن في وقت الفراغ من أية أنشطه، سعى البعض لإشغال وقته بعمل هدايا لأقاربه، فتزايدت مع الوقت حتى ربما قلة قليله لم تعمل في صناعة التحف خلال عدة سنوات منذ منتصف التسعينات وحتى اندلاع الانتفاضة الثانية، كان الأسرى يخرجون كميات كبيره من التحف كل زياره يتم تحميلها بالعربات لكثرتها ويكون كل أسير قد سجل اسمه عليها لكي يتعرف عليها الأهل بالزيارة، مرحلة التحف كانت على حساب الثقافة والبناء، فمن اعتقل خلال هذه الفترة لم يحقق استفادة كمن اعتقل قبلها أو بعدها، طبعاً للدقة فالتراجع أكثر على أسرى فتح، بينما أسرى الجبهة بقوا ملتزمين بالحدود الدنيا من التثقيف ومواصلة العمل التنظيمي، بينما أسرى حماس لم تتغير برامجهم لقناعتهم إن الإفراجات لن تشملهم لأنهم يرفضون أوسلوا وليسوا من م . ت . ف.
في خضم هذه الفترة، تم نقل صاحبنا من سجن عسقلان إلى سجن جنيد بدون سبب ظاهر، فقد يكون الاعتقاد من قبل إدارة السجون أن الأسرى سيتحررون خلال وقت ليس بعيد، إذ أقدمت إدارة السجون على نقل كل أسير للسجن القريب من منطقة سكناه، ولم يواجه صاحبنا أية مشاكل هذه المرة بالدخول إلى سجن جنيد علماً أن الضباط والسجانون الذين اعتدوا عليه بالمرة الأولى لا يزالون في السجن، وكان في هذا راحة نسبية للأهل حيث فعلاً القرب الجغرافي يوفر على الأهل عناءً كثير، واستطاع بعض الأهل ممن ممنوع عليهم دخول المناطق المحتلة عام 1948 أن يزوروه، ويرى بعضاً من أهله وأصدقائه الذين لم يلتقيهم منذ سنوات، طبعاً لقاء من خلف الشبك الحديدي ولوقت محدود وتحت رقابة السجانين.
طال الوقت نسبياً ولم يتحرر الأسرى وبدأت تظهر العقبات في طريق المفاوضات خاصة بعد اغتيال رابين رئيس حكومة الاحتلال، وتسلم شمعون بيرس مكانه، والحرب التي أشعلها الاحتلال على لبنان ومجزرة قانا، كل هذا دفع إدارة السجون للتشدد بسياستها وخاصة بعد إجراء انتخابات صهيونيه وفوز حزب الليكود برئاسة نتنياهو الذي يعارض اتفاق أوسلو، هذا التشدد خلق تصادمات بين الأسرى وإدارات السجون ما دفعهم لسحب الكثير من انجازات وحقوق الأسرى، الأمر الذي خلق صدامات، عبروا عنها بالعقوبات والعزل وحتى التشدد في موضوع التفتيش والضرب، الأمر الذي دفع لتجديد الخطوات النضالية وإرجاع الوجبات وغيرها، وفي صيف العام 1995 كما تم ذكره سابقاً فقد اتفقت فصائل م . ت . ف على خوض الاضراب أولاً: لأن الأسيرات تعرضن لمضايقات عديده وهددن بفتح اضراب عن الطعام لوحدهن إذا تقاعس الأسرى، وثانياُ: كاحتجاج على التهميش وعدم الجدية في طرح قضية الأسرى أثناء المفاوضات بهدف تحريرهم.
وأجريت حوارات بين قيادات الفصائل في السجون وداخل كل سجن للوصول إلى موقف موحد، إلا أن الفصائل الإسلامية وخاصة أسرى حماس والجهاد الاسلامي أصروا على رفضهم للمطلب السياسي للإضراب واشترطوا لمشاركتهم أن يكون الاضراب مطلبياً أي نقدم مطالب محدده، وبعد إصرار كل فريق على مواقفه، شرعت الفصائل الداعية للإضراب بالتحضير له وتنفيذه، واستمر لأكثر من أسبوعين، ولأنه ليس مطلبياً وإنما سياسياً فقد تم ايقافه بناء على وعود بأن يتم التركيز على موضوع الأسرى، وفعلاً بعد عدة شهور تم إطلاق سراح دفعه قليله من ذوي الأحكام الخفيفة، وبعد إعادة انتشار الأسرى السابق لإعادة انتشار الجيش الصهيوني شملت دفعة أخرى من المحكومين بالمؤبدات بتهم تصفية عملاء، إلى جانب أسرى بأحكام أقل من مؤبد، أي بقي بالسجون أسرى حماس والجهاد الاسلامي والأسرى الذين قتلوا يهود (حسب تصنيف إدارة السجون الأسرى الملطخة أيديهم بدم اليهود، وكأن أيادي اليهود ليست ملطخه بالدماء العربية والفلسطينية)، إضافة إلى أسرى القدس ومناطق الـ 1948، والأسرى العرب، حيث كان يتواجد عشرات من أسرى الدوريات، كان هذا بعد أن تم التوافق بين فريق السلطة والكيان الصهيوني على إعادة الانتشار بأجزاء من الضفة الفلسطينية، ما يعني إقفال السجون المنتشرة بالمدن الفلسطينية بالضفة، وبدل أن يتم تحرير الأسرى أعيد انتشارهم في سجون العدو بمناطق الـ 1948، وكان نصيب صاحبنا العودة إلى عسقلان من جديد.
بعد أن كان في السابق غالبية الأسرى في سجن عسقلان من قطاع غزه وقلائل من أسرى الـ 48 والقدس فأصبح أكثريه الأسرى من الضفة، مما يعني أن تفاعلاً مباشراً بين الأسرى من كافة المناطق الفلسطينية والعربية، بعد هذه الافراجات التي تمت عام 1996 قبيل اجراء الانتخابات للمجلس التشريعي، جرى تشديد أكبر على سياسة إدارة السجون اتجاه الأسرى عما كان عليه، وبشكل خاص بعد أن أقدمت حماس على تنفيذ عدة عمليات استشهاديه أحدثت صدى كبير، وبسبب فقدان الأمل لكثيرين من الأسرى، يبدو أن بعضهم وجد أن التفكير بالهرب من السجن هو الخيار المناسب، فاتفق عدد من الأسرى على الهرب وذلك باستغلال عمل اصلاحات بأحد الأقسام وهو قسم 11 بعسقلان، حيث تقع غرفتهم فوق المرحاض في غرفة الزيارة، أي أن قسم 11 طابق ثاني، ومن الأدوات التي كان يستخدمها الأسرى العمال في القسم (القنبريصه) فطلبوا من الأسير الذي يعمل على الماكنة أن يفتح لهم فتحة بالسقف، طبعاً استغرق الأمر أسابيع حتى أنجزوا الفتحة المطلوبة، ونجحوا بإخفائها عن أعين السجان، فقد جاءت تحت أحد الأسرة، يخفونها بوضع أغراض تحت السرير ليصعب على السجان الوصول لها، أما من ينظر من داخل المرحاض للأعلى فلا يرى الفتحة بسبب صناعة من لوح خشب على مقاس سقف الحمام ومطلي بنفس دهان الجدران.
كان التخطيط للبدء بعملية الهروب في أحد أيام الجمعة حيث تكون زيارات أسرى القدس ومناطق الـ 48، وفي الموعد المحدد بعد أن مضى وقت على التحضير والتمويه، نزل الأول من الأسرى حين كان أهالي الأسرى في غرفة الزيارة وهو يلبس لباس إمرأه وجلس إلى جانب أهالي أحد الأسرى منتظراَ قدوم الأخرين، والصحيح ينتظر انتهاء الزيارة لكي يخرج مع الأهل إلى خارج السجن، المفروض أن ينزل ثلاثة أسرى، نزل الأول، لكن يبدو أن تقديرهم للوقت لم يكن دقيقاً، لأن الزيارة انتهى وقتها وخرج الأهالي ومعهم الأسير الأول، يقوم عادة السجان بتفتيش الحمام بعد خروج الأهل كي لا يبقى أحد هناك، نظر بالحمام فلم يشاهد أحد، بعدها بوقت قصير خرجت امرأه أو بالأحرى أسير يلبس لباس امرأه من الحمام وتتجه للباب للخروج، السجان بدأ يشك بأمرها، إذ أنه نظر للحمام ولم يكن هناك أحد فمن أين جاءت، سألها أين كنت واقترب منها، وإذا بالأسير يضرب السجان لكمة قويه على وجهه، شاهده سجان أخر فضرب جهاز الإنذار، والخطوة الأولى هي إقفال الأبواب، يعني أن الأسير الأول احتجز مع الأهالي ولم يتمكن من الخروج، حينها أدرك أن عملية الهروب قد فشلت، فطلب من سجان أسود أثيوبي أن يبلغ الضابط أن الأسير فلان موجود هنا ويريده، من ذكاء السجان لم يفهم أن من حادثه هو أسير معتقداً أنها امرأه فنقل اسمه للضابط الذي يعرفه جيداً، فلطم على خده صارخاً بالسجان أين هو؟ وضع الكلبشات بيديه وسحبوه إلى الزنازين، فيما الأسير الثاني تمت السيطرة عليه واقتياده للزنازين، وضرب جهاز الإنذار بالسجن وجرى تفتيش لكل غرف السجن ومصادرة كل الأجهزة الكهربائية وكثير من الملابس والشراشف، حيث أخاطوا منها فساتين، عثروا على الفتحة وسحبوا الأسرى المشاركين بعمليه الهرب جميعاً إلى الزنازين، وأمضوا سنة وأكثر بالعزل، وفشلت العملية، أما السجن فكان نصيبه إجراء تفتيش لكل غرف السجن ومصادرة الكثير من الأغراض.