الفنان ناجى العلي ريشة بحجم وطن
محمد حسين
مدير مكتب أوبينيا تايمز -دمشق
لازال رحيل ناجي العلي غامضا إلى الآن رغم مضي عشرات السنين على اغتياله، ولأن ناجي العلي كان جريئاً جداً في نقدة للواقع الفلسطيني والعربي حتى ذهب في بعض رسوماته إلى تسمية بعض هذه الشخصيات السياسية والثقافية والاجتماعية والأحزاب بأسمائها، لذلك جرت تحليلات كثيرة عن الجهة التي نفذت عملية الاغتيال، لكن الحقيقة الساطعة تقول أن ناجي العلي هو أحد أهم أعمدة الخيمة الفلسطينية في المنفى.
السيرة الذاتية“ للشهيد ناجي العلي:
ناجي سليم حسبن العلي، ولد في قرية الشجرة بين طبريا والناصرة في فلسطين عام 1937، وفي سن العاشرة هاجر ناجي مع عائلته إلى لبنان واستقروا في مخيم عين الحلوة بعد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عام 1948، وتزوج ناجي العلي من الفلسطينية وداد صالح نصر من بلدة صفورية، ولهما أربعة أولاد هم: خالد وأسامة وليال وجودي..
لم يستطع العلي إكمال تعليمه بسبب ظروفه الصعبة، حيث انتقل إلى طرابلس وحاز على شهادة ميكانيك السيارات، إلا أنه عام 1960 التحق بالأكاديمية اللبنانية وتعلم فيها الرسم، وكان للأديب غسان الكنفاني دورًا كبيرًا في انطلاقة ناجي العلي نحو الشهرة، حيث قصد مخيم عين الحلوة وشاهد أعماله على جدران المخيم، ونشر إحداها في مجلة الحرية العدد 88 في 25 – سبتمبر – 1961.
عرف الرسام ناجي العلي بثوريته من خلال رسوماته التي تناولت قضايا سياسية تتعلق بفلسطين والمقاومة وبقية البلاد العربية عامةً وكان جريئاً في نقد الواقع الفلسطيني والعربي ، عمل في عددٍ من الصحف العربية في الكويت ولندن ولبنان. اشتهرت رسوماته بشخصية حنظلة وعدد من الشخصيات الأخرى.
وأنجز ناجي العلي حوالي أربعين ألف كاريكاتيرٍ خلال مسيرته الفنية؛ حصل من خلالها على جائزة القلم الذهبي لحرية الصحافة من الرابطة العالمية للصحافة عام 1978.
في عام 1963 انتقل إلى الكويت ليعمل رسامًا في مجلة الطليعة الكويتية، وبقي فيها حتى عام 1968، ثم عمل في جريدة السياسة الكويتية. وفي عام 1975 عاد إلى لبنان ليعمل في جريدة السفير اللبنانية والتي استمر فيها حتى عام 1973.
اعتقلته القوات الإسرائيلية بسبب نشاطه ضد الاحتلال، إضافةً لاعتقال الجيش اللبناني له عدة مرات، وكان يقضي وقته في السجن بالرسم على الجدران.
وتعرض ناجي العلي للاغتيال في لندن عام1987، حيث قام مجهول بإطلاق الرصاص عليه فأصابه تحت عينه اليمنى، بقي في غيبوبة حتى تُوفي في 29 – أغسطس – 1987، عن عمر يناهز الخمسين.
أبرز انجازاته:
في عام 1979، أصبح ناجي العلي رئيسًا لرابطة الكاريكاتير العربي، وفي عام 1983 عاد إلى دولة الكويت ليعمل في جريدة القبس، ثم انتقل بعد عامين إلى لندن ليعمل في جريدة القبس الدولية.
اشتهرت كاريكاتيرات ناجي العلي برسم شخصية حنظلة التي ولدت في الخامس من حزيران عام 1967 تاريخ النكسة، حيث يعبر فيها عن صبي فلسطيني بعمر العاشرة يدير ظهره في كل الرسومات ويعقد يديه للخلف؛ حنظلة رمزٌ للعذاب الفلسطيني كما أنه شاهدٌ على كل الأحداث التي مرت وعلى خزي الأنظمة العربية، أول ما ظهر حنظلة في رسومات ناجي في جريدة السياسة الكويتية عام 1969.
تكررت عددٌ من الشخصيات الأخرى في كاريكاتير ناجي العلي منها شخصية الفلسطينية فاطمة، والتي تعبر عن الإرادة التي لاتقهر وتتمسك بالقضية؛ أما شخصية زوجها ذو اليدين والقدمين الكبيرتين كتعبير عن صعوبة عمله، فقد كان شخصيةً تنكسر أحيانًا؛ إضافةً لشخصية السمين التي عبر بها عن القيادات الفلسطينية والعربية، وشخصية الجندي الإسرائيلي ذو الأنف الطويل المنهزم أمام حجارة الأطفال، والخبيث مع القيادات الفلسطينية.
أصدر ثلاثة كتبٍ تضم أهم رسوماته، كما جمع ابنه خالد رسوماته من عدة مصادر، وترجمها لعددٍ من اللغات كالإنجليزية والفرنسية. وحاز العلي على عددٍ من الجوائز منها الجائزة الأولى في معرضي الكاريكاتير للفنانين العرب في دمشق في عامي 1979 و 1980.
أبرز أعماله:
عملَ ناجي العلي رسامًا كاريكاتيريًا في كل مجلة الطليعة وجريدة السياسة الكويتيتين وجريدة السفير اللبنانية من منتصف ستينات القرن العشرين وحتّى عام 1975.
رسمَ شخصية حنظلة ونشرها لأول مرّة في جريدة السياسة الكويتية في عام 1969؛ ولا تزال هذه الشخصية ترمز إلى المقاومة الفلسطينية حتّى يومنا هذا.
عُيّنَ رئيسًا لرابطة الكاريكاتير العربي عام 1979.
أصدرَ ثلاث كتب ضمّت مُختارات من رسومه العديدة كان منها كتاب “طفل في فلسطين: الكاريكاتير ناجي العلي”.
أبرز جوائزه: الجائزة الأولى في معرض الكاريكاتير للفنانين العرب في مدينة دمشق.
فلم تناول سيرته: حمل اسمه “ناجي العلي” أُنتِجَ عام 1991.
علاقة ناجي العلي بغسان كنفاني:
ثمة علاقة لافتة بين الشهيدين غسان كنفاني وناجي العلي. فغسان ابن المنفى الذي كتب عنه في رواياته وقصصه، وكان جريئاً في نقد الواقع الفلسطيني والعربي، كما تنقل غسان كنفاني بين عدة دول لبنان الكويت سورية.
كذلك كان ناجي العلي جريئاً في نقد للواقع الفلسطيني والعربي، ورسم للمنفى والوطن وتنقل بين عدة دول وعاش في مخيم عين الحلوة في لبنان، ناجي ابن المخيم ابن المعاناة الفلسطينية، المخيم الذي يعانق الوطن صباح مساء.
لقد كانا الشهيدين ذو موقف نضالي صريح، يرفض منطق الحوار بأي صورة مع الاحتلال الإسرائيلي، يغامر بحياته ويعلم أنه شهيد محتمل، دون أن يتراجع أو يحيد عن نضاله خطوةً صغيرةً، ثم يستشهد، ويبقى حيا في وجدان الشعب الفلسطيني وكل أحرار العالم.
اللافت في تلك العلاقة أيضا أن كنفاني كان أول من قدّم ناجي العلي باعتباره رسام كاريكاتير شابا. التقيا حين زار كنفاني مخيم عين الحلوة حيث يعيش ناجي، فنشر له ثلاث رسمات سنة 1961، في مجلة “الحرية” التي كان يرأسها ، كأنه كان يرحب في ظله.
في الشهر ذاته (شهر يوليو)، يسقط الشهيدان على ثرى المنفى، حالميْن بأرض الوطن. فقد فجّر الموساد سيارة كنفاني يوم 8 يوليو 1978، بينما تتبّع قاتل مجهولٌ ناجي في لندن بعد أن ترجّل من سيارته، وصوّب عليه رصاصة واحدة أسفل عينه، أرقدتْه في غيبوبة بالمستشفى يوم 22 يوليو، وانتهت باستشهاده يوم 29 أغسطس 1987.
من مأثورات ناجي العلي: “لا أفهم هذه المناورات، ولا أفهم هذه السياسة، طريق فلسطين واحدٌ وحيدٌ هو البندقية”.
هذه هي البندقية التي تحدث عنها ناجي العلي تقتحم حصون العدو الصهيوني في السابع من أكتوبر ، البندقية التي تتصدى للاحتلال الاسرائيلي وقطعان مستوطنيه في الضفة الفلسطينية، وها هو شعب فلسطين في غزة والضفة ومناطق ٤٨ والشتات يسطر صموداً ومقاومة قل نظيرها في التاريخ ،الآن الشعب الفلسطيني يفجر الخزان يا غسان ويقول لا خيار أمامنا سوى المقاومة لهزيمة هذا الاحتلال الصهيوني الفاشي.
الآن الشعب الفلسطيني يرسم ملامح النصر بجسده وصموده يا ناجي،
الرؤية
إن عمق الرؤية عند الشهيد ناجي العلي تتجلى بشكل واضح من خلال حواره مع الشهيد غسان كنفاني.
غسان : شو إللي خلاك ترسم الخيمة على شكل هرم .. يعني شو علاقة الخيمة بالهرم ؟
فردّ العلي وهو يشير بيديه مستعيناً بهما على شرح ما سيقول :
فيه علاقات مش بس علاقة واحدة . شوف يا سيدي .. أولاً إحنا الفلسطينيين منتميّز بالخيمة زي ما المصريين بيتميزوا بالهرم . يعني لما تقول خيمة بتقول فلسطين ، ولما بتقول هرم بتقول مصر .. يعني هما خِتْمهم الهرم وإحنا خِتْمنا الخيمة .. مزبوط هيك ؟
وهزّ كنفاني رأسه علامة القبول , وتابع العلي يقول :
ثانياً ، الهرم والخيمة مكان للسكن إلهم وإلنا .. بس هُمه بيسكنوها في موت الحياة يعني علامة للخلود ، وإحنا بنسكنها في حياة الموت يعني علامة الإصرار على العودة , وللخلود كمان ، وحتى تظل قضيتنا حمرة متل الجمرة . ويوم ما إنضُبْ هالخيمة ونلفها ، منضُبْ فلسطين وبنلفها كمان .. صح هيك ، ولا لأ ؟
غسان : هاي فلسفة كبيرة يا ناجي ، منين جبتها ؟
فردّ العلي وهو يهتز ابتهاجاً :
والله من هالدنيا .. هالدنيا علّمتنا اشياء كثيرة . هو قليل اللي شفناه واللي خبرناه ؟ عليم الله يا زلمة اللي شفناه بيعلّم العالم كله ، مش بس إحنا !
وكان كنفاني يضع ذقنه الدقيقة في راحته اليمنى ، ويغطي فمه بباقي يده , وينصت بانتباه ، وقد وقف وقفة نخلة مائلة ، ووقف أمامه العلي مقوّس الظهر ، والتفّ حولهما رجال وبنات وأطفال من المخيم ومجموعة من المشاركين برسوماتهم ذوي سحنات محفورة بعذاب الشتات .
وتابع العلي كلامه بثقة :
ثالثاً : العلاقة بين الهرم والمخيم ، يعني ختمنا وختمهم ، جاية من إنو مفيش تحرير لفلسطين بدون مصر ، يعني بصراحة .. لا نصر من دون مصر !
فرد عليه كنفاني بابتهاج شديد وفرح غامر ، وقد مال بجسمه أكثر ناحية العلي ، وكأنه يود أن يهمس في أذنه :
وبشوفك سياسي كمان؟
العلي : ما قلنالك يا زلمة ، هالدنيا علمتنا كل إشي . عليم الله هذا المخيم لحاله فيه عِلْم أكثر من الجامعة الأمريكية اللي بيحكوا عنها ببيروت !
وضحكوا جميعاً ، ثم تابع العلي يقول مبتهجاً وبحماس بالغ :
بعدين يا أستاذ ، العلاقة بين الخيمة والهرم إنهم مش ممكن يكونوا إلا في الخلا .. وواضحين تحت السما مباشرة ، متل الشجر . هلاّ قول لي ، في حدا بيبني خيمة جوّه بيت ، ولا هرم جوه بيت ، ولا بيزرع شجرة تحت سقيفة ؟
وردّ كنفاني بحبور غامر :
وبعدين معاك إنت ما خليت إلنا إشي نقوله ، على مهلك يا زلمة ، خلينا نحكي شوي !
وردّ العلي باسماً وعيناه تلتمعان بوهج الحقيقة :
واحدة وبس .. ما إنت إللي سألت يا عمي ، وبدنا نجاوبك ع المزبوط !
وصمت برهة ، وأخذ نفساً وقال بحزم :
العلاقة الأخيرة ، هي العلاقة بين حجر الهرم وقماش الخيمة !
ولم يفهم كنفاني قصد العلي ، فسأله باستحياء وبصوت خافت :
شو يعني .. مش فاهم؟
فرد العلي بثقة ، وكأنه يختم على وثيقة أمامه :
ما بيرجّع فلسطين غير هالحجر !
وصَفَق قبضة يده اليمنى ببطن راحته اليسرى علامة الختم ، وانحنى ، والتقط حجراً من أرض الخيمة ، وقال بجدّ وهو يشدّ عضلات وجهه ، ويقطب جبينه :
وما بيطلع هالحجر إلا من هالخيمة .. لا من قصور ولا من علالي ، وسلامة تسلمك !
وصفّق له كل من سمعه وكان حوله ، وهتفوا بحياة فلسطين والحجر .
وتعانق كنفاني والعلي ، وتبادلا الأنفاس ، وبديا
من الخلف وكأنهما ظهر واحد وكتف واحد .
الكاريكاتير الذي دفع حياته ثمنا له
لم يكتفي الشهيد ناجي العلي بنقد الواقع الفلسطيني والعربي في رسوماته بل ذهب أبعد من ذلك في نقد القيادات الفلسطينية والفصائل الفلسطينية وحتى وصل الأمر به إلى نقد الشخصيات الثقافية الفلسطينية والعربية،
كان يشير في رسوماته إلى جميع الأخطاء بكل جرأة وشفافية حتى ازعج الصديق قبل العدو،
كان ناجي العلي لا يكتفي بنقد الواقع الفلسطيني والعربي بل كان يضع حلولا ورؤية للمستقبل، وهذا اهم ما تميز به في قراءة المستقبل،
كل ما رسمه ناجي العلي وتوقعه حدث ويحدث كأنه يعيش في زمننا هذا، فالنظام العربي في غالبية يعيش في مستنقع التطبيع مع العدو الصهيوني الذي حذر منه العلي، والشارع العربي يتخبط في أزمته بين غياب القيادة وغياب المبادرة من قبل هذا الشارع،
والوضع الفلسطيني الرسمي ليس بأفضل حال،
لذلك عندما اغتيل ناجي العلي جرت عدة اقاويل عن الجهة التي نفذت عملية الاغتيال لأن العلي كان صوتاً مدوياً ضد الظلم والاستبداد والفساد والتطبيع مع العدو الصهيوني،
لذلك جميع من رسم ضدهم وأولهم العدو الصهيوني له مصلحة باغتياله،
ناجي العلي ثقافة شعب لن ينكسر .