استراتيجية «ألم قصير.. مكاسب دائمة».. مقاربة خاطئة برعاية ترامب

لطالما كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بارعاً في التقليل من حدة الأزمات الاقتصادية، مستخدماً تعبيرات مبهمة.
ووفقا لتقرير لمجلة “الإيكونوميست” بعد أن أوقف بعض التعريفات الجمركية مؤقتًا لمدة 90 يومًا، صور الاضطرابات على أنها مجرد “تكلفة انتقالية” في طريقها نحو إعادة بناء الاقتصاد الأمريكي بشكل مزدهر. وقال مطمئنًا: “في النهاية، سيكون شيئًا جميلاً”.
ورسالة ترامب واضحة: المعاناة الحالية ستؤدي إلى مكاسب مستقبلية. لكن الأحداث الأخيرة تثير الشكوك حول صحة هذا الطرح. فهل الألم الاقتصادي الآني أعمق مما يصوّره؟ وهل ستحقق السياسات التجارية المكاسب التي يَعِد بها على المدى الطويل؟
مؤشرات هامة
بدأت آثار سياسة ترامب الجمركية تظهر بوضوح، فهناك تباين متزايد بين المؤشرات التي تقيس الشعور العام وتلك التي تعكس الواقع الاقتصادي الملموس. على سبيل المثال، انخفض مؤشر ثقة المستهلك الصادر عن جامعة ميشيغان في أبريل/نيسان إلى 50.8 نقطة، وهو ثاني أدنى مستوى له في التاريخ. والسبب الرئيسي هو القلق من ارتفاع الأسعار بفعل الرسوم الجمركية، حيث يتوقع المستهلكون أن تصل نسبة التضخم إلى 6.7% خلال العام المقبل، وهي أعلى نسبة متوقعة منذ أكثر من 40 عامًا.
أما الشركات، التي رحّبت في البداية ببرنامج ترامب الاقتصادي الداعم للنمو من خلال خفض الضرائب وتخفيف اللوائح، فقد بدأت تعيد حساباتها. فقد تراجع مؤشر تفاؤل الشركات الصغيرة، الصادر عن الاتحاد الوطني للأعمال المستقلة، لثلاثة أشهر متتالية بسبب مخاوف متزايدة بشأن الرسوم الجمركية.
وقد يرى البعض هذه المؤشرات مجرد “أجواء” لا تعكس الواقع الفعلي، خاصة أن سوق العمل لا يزال قويًا، وإنفاق المستهلكين عبر بطاقات الائتمان يبدو صلبًا. لكن التفاصيل تشير إلى صورة أقل تفاؤلاً؛ إذ يبدو أن المستهلكين يسارعون لشراء الإلكترونيات والسيارات الآن قبل أن ترتفع أسعارها بسبب الرسوم. وفي حين أن بيانات التوظيف الرسمية تصدر بتأخير، فإن المؤشرات الخاصة تشير إلى زيادة محتملة في عمليات التسريح من العمل.
عدم يقين متزايد
والسمة الأبرز للوضع الاقتصادي الحالي هي حالة عدم اليقين المتزايدة. ففي 9 أبريل/نيسان، عندما دخلت تعريفات ترامب “المتبادلة” حيز التنفيذ، قدّرت مؤسسة غولدمان ساكس احتمال دخول الاقتصاد الأمريكي في ركود خلال 12 شهرًا بنسبة 65%، وهو رقم مقلق من بنك بهذا الحجم.
وبعد إعلان ترامب عن تعليق الرسوم لمدة 90 يومًا، خفضت المؤسسة نفسها التوقع إلى 45%. هذا التذبذب يلخص الواقع: مستقبل الاقتصاد الأمريكي بات مرهونًا بتقلبات سياسة ترامب الجمركية.
وقبل بضعة أشهر فقط، كان معظم الخبراء الاقتصاديين يتوقعون نموًا بنسبة 2.5% للاقتصاد الأمريكي خلال العام. أما الآن، فالوضع أشبه بالمراهنات: قد ينمو الاقتصاد، أو يدخل في ركود.
وعلى المدى الطويل، تبدو عواقب توجه ترامب نحو الحمائية التجارية أكثر تشاؤمًا. إذ يرى خبراء الاقتصاد أن الرسوم الجمركية تؤدي إلى سوء تخصيص الموارد عبر حماية صناعات غير فعالة من المنافسة العالمية. دراسة للبنك الدولي نُشرت عام 2022، شملت بيانات من 151 دولة بين 1963 و2014، وجدت أن زيادة الرسوم بمقدار أربع نقاط مئوية تؤدي في المتوسط إلى تراجع الناتج المحلي بنحو 0.4% بعد خمس سنوات، ويرجع ذلك أساسًا إلى انخفاض إنتاجية العمل بنسبة تقارب 1%.
تأثيرات ممتدة
ولكن الرسوم التي فرضها ترامب تتجاوز بكثير ما تناولته تلك الدراسات. فحتى مع إعفاء بعض الأجهزة الإلكترونية، ارتفع متوسط الرسوم الفعلية في أمريكا من 2.5% إلى أكثر من 20% هذا العام، أي نحو ثمانية أضعاف الزيادة التي تناولتها الدراسة.
وإلى جانب التأثير على التجارة، تؤثر الرسوم أيضًا على تدفق رؤوس الأموال. فمع انخفاض الواردات، تتراجع الاستثمارات الأجنبية. وقد قفزت عوائد السندات الأمريكية لأجل عشر سنوات بمقدار نصف نقطة مئوية منذ بداية أبريل، ما يشير إلى تراجع الطلب الخارجي. وفي المستقبل، قد يضطر الأمريكيون أنفسهم إلى شراء مزيد من ديون الحكومة، مما يقلل من الاستثمارات في القطاع الخاص.
وقدر مركز أبحاث تابع لجامعة بنسلفانيا، وهو مركز أبحاث مرموق، أن السياسات الجمركية الحالية قد تؤدي خلال العقود الثلاثة المقبلة إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 8%، وانخفاض الأجور بنسبة 7% مقارنة بالمسار الذي كان متوقعًا قبل فرض الرسوم. كما يُتوقع أن ينخفض إجمالي رأس المال في البلاد بأكثر من 10%، مما يعني بنية تحتية أكثر تهالكًا، ومصانع أقل حداثة، ومطارات أقدم—بعكس ما يعد به ترامب من تجديد اقتصادي.
وبطبيعة الحال، فإن سياسات ترامب المتقلبة تجعل من الصعب على الاقتصاديين، كما على الشركات والمستهلكين، التخطيط بوضوح.
لكن الأرجح أن الأمور ستسوء هذا العام، وقد تتدهور أكثر في السنوات القادمة. فمقامرة ترامب على الرسوم الجمركية قد لا تؤدي إلى نهضة اقتصادية، بل إلى تباطؤ يتستر عليه خطاب سياسي متفائل.