أغرقوهم بالكحول قبل التصويت! تاريخٌ موجز لـ”تزوير” الانتخابات في أمريكا
كانت المزاعم بأن النظام الانتخابي الأمريكي قائم على التلاعب والتزوير سلاحاً أساسياً في حملة دونالد ترامب الرئاسية لعام 2016. والآن يبدو أن الرئيس بدأ من جديد في إثارة المخاوف نفسها بشأن تزوير الانتخابات في نوفمبر/تشرين الثاني 2020.
إذ يزعم بأن بطاقات الاقتراع البريدية، المعروفة في الولايات المتحدة باسم عمليات الاقتراع “عبر البريد”، قد تؤدي إلى “أكثر الانتخابات فساداً” في تاريخ الولايات المتحدة.
وعندما تحدَّث ترامب عن تزوير الانتخابات بدا أنه يقصد ذلك على مستويين، فأولاً زعم أن وسائل الإعلام متحيزة ضده، ومن ثم أثارت في عقول المنتخبين شكوكاً تجاهه.
لكنه أشار أيضاً إلى أنه سيكون هناك تلاعب واسع النطاق في أصوات الناخبين، وأنّ الانتخابات قد “تُسرق” منه، بينما حذّر أنصارَه وطالبهم بـ”مراقبة مراكز الاقتراع لديهم”.
ونقلت صحيفة Boston Globe الأمريكية عن رجل في مسيرة مؤيدة لترامب، قوله إنه سيأخذ بنصيحة مرشحه ويذهب إلى صناديق الاقتراع، ويبحث عن أشخاص “لا يتحدثون الأمريكية” و”يُثير توترهم قليلاً”.
وكان ترامب أول مرشح رئاسي من حزبٍ كبير يضع المزاعم بوجود محاولات ممنهجة للتزوير في الانتخابات محوراً لحملته، لكن ادعاءاته تلك كان لها صدى مع أحد التقاليد المترسخة في السياسة الأمريكية.
مخاوف تزوير الانتخابات أقدم من ترامب
وربما تكون هجمات ترامب على النظام الانتخابي قد زادت من الإقصاء الذي يشعر به الكثير من الأمريكيين تجاه مؤسساتهم السياسية، لكن الاستطلاعات أظهرت أنه كان يعبر عن شعور موجود لديهم بالفعل، ولم يزرعه بداخلهم، بحسب موقع History Extra.
إذ كان معظم المعلقين غاضبين من هجمات ترامب المتعمدة على العملية الانتخابية، فوفقاً لهذه السردية، كان المرشح الجمهوري يُعرِّض شيئاً في جوهر التقاليد الأمريكية للخطر، وهو “الانتقال السلمي للسلطة”.
غير أن هناك جانباً إيجابياً وردياً لهذه السردية، إذ افترضت وجود زمن ذهب فيه الناخبون في الولايات المتحدة إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في سلام، متقبلين بشجاعةٍ النتيجة حتى لو لم تكن في مصلحتهم.
وكانت السردية مبنيةً على حقيقة لكنها لم تكن حقيقةً كاملة، إذ استندت إلى افتراض بأن طريقة تفكير ترامب التآمرية، أي رفضه القبول بأن النظام الانتخابي يعمل بالطريقة التي يصفها بالعتيقة. إلا أن الصورة الوردية المقابلة ليست أكثر حداثة عن أفكار ترامب. إذ تُعدُّ الولايات المتحدة، وفقاً لمعظم المقاييس، أقدم ديمقراطية جماعية في العالم. ففي وقت مبكر من العقد الأول للقرن التاسع عشر، كان بإمكان الرجل الأبيض التصويت دون أي قيود تقريباً على الملكية في معظم الولايات، وذلك قبل قرن كامل من تطبيق ذلك في المملكة المتحدة (مع اعتماد قانون تمثيل الشعب في عام 1918). لكن سياساتها كانت دائماً مهينة وخارجة عن السيطرة، وفي بعض الأحيان، مزوَّرة.
الإكراه بالعنف والتصويت في حالة سُكر
قبل اعتماد ما كان يُعرف باسم “الاقتراع الأسترالي” في ثمانينيات القرن التاسع عشر، كان التوجه للتصويت مرتبطاً بالجهر باختيارك في العلن.
وكان النظام “الأسترالي”، الذي ترجع تسميته إلى السرية المعتمدة في انتخابات مستعمرة فيكتوريا البريطانية عام 1856، يعني اللجوء إلى ورقة اقتراع عامة تصدرها سلطات انتخابية محايدة.
وحل ذلك محل عالَم انتخابي فوضوي، أنتجت فيه الحملات نفسها أوراق اقتراعها الخاصة على ورق ملون، ثم وضعها الناخبون في صناديق اقتراع زجاجية مستديرة. واصطف الناخبون للإدلاء بأصواتهم، في ظل ممارسة نشطاء الحزب الضغط عليهم، أو محاولات إقناعهم، أو رشوتهم.
ويتطلب التصويت ضد الاتجاه السائد في الدائرة الانتخابية أن يتمتع الفرد بجسارة نفسية، بل جسارة جسدية في كثير من الأحيان. وكان العنف سائداً وجزءاً مقبولاً، إلى حدٍّ ما، من العملية الانتخابية.
وكثيراً ما كانت نتائج الانتخابات في القرن التاسع عشر موضع نزاع، أحياناً في المحاكم، ولكن في أغلب الأحيان بتقديم استئنافات إلى الهيئة التشريعية ذات الصلة (على مستوى الولاية أو المستوى الفيدرالي) التي تُشكِّل لجاناً للتحقيق في النزاعات بين المرشحين المتنافسين.
وكشفت جلسات الاستماع التي عقدتها تلك اللجان عن قصص مذهلة عكست الحد الذي يمكن أن تصل إليه الحملات في محاولاتها للفوز.
فعلى سبيل المثال، كانت ممارسة “التعاون”، التي اشتهرت بتبنيها آلة تاماني هول السياسية في مدينة نيويورك، تعني جذب الرجال المؤيدين أو غير المؤيدين إلى قبو قبل يوم أو يومين من الانتخابات، وإغراقهم بالكحول والطعام ثم جرهم وهم على شفا الوعي إلى مكان الاقتراع صباح يوم الانتخابات.
وكانت هناك وسائل أخرى أكثر دهاءً، منها إنشاء عمال الحزب متجراً يحتوي على برميل من الويسكي بجوار مكان الاقتراع، وهي ممارسة شائعة جداً لدرجة أن الرسام الأمريكي جورج كاليب بينغهام صوَّرها بشكل لطيف في سلسلة شهيرة من اللوحات لانتخابات ولاية ميسوري في خمسينيات القرن التاسع عشر.
وفي مقاطعة آدامز بولاية أوهايو عام 1910، قدم قاضٍ 1690 ناخباً للمحاكمة (6% من مجموع الناخبين)، وأدانهم لبيع أصواتهم.
وفي المناطق الحضرية على وجه الخصوص، استخدمت العصابات السياسية العنف علانية لإجراء الانتخابات.
وكان إيزايا رايندرز مديراً سياسياً سيئ السمعة وزعيماً لنادي Empire Club بنيويورك في أربعينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر. إذ كان يقود فريقاً من البلطجية مدججاً بالسلاح، ويقتحم الاجتماعات السياسية للمعارضة، كما كان يجوب أماكن الاقتراع؛ لردع أي شخص لا يدعم مرشحي النادي.
لكنه لم يكن الوحيد الذي مارس مثل هذه الانتهاكات. ففي نيويورك أيضاً عام 1853 أخذ المرشح الديمقراطي للكونغرس “جون كيلي الصادق” (لقبٌ أُطلِق عليه للسخرية)، جيشاً من عمال الرصيف ورجال الإطفاء المتطوعين إلى مركز اقتراع يوم الانتخابات، وحطموا الطاولات ومزقوا أوراق المعارضة.
الهجرة ومخاوف من الجماهير “الأجنبية”
كان كيلي أيرلندي الأصل. وكانت الكثير من وقائع تزوير الانتخابات- أو التزوير المزعوم للانتخابات- في التاريخ الأمريكي مدفوعةً بالخوف من أن تسرق الجماهير “الأجنبية” الانتخابات.
وتماماً كما عبّر ترامب في 2016 عن اتهام واسع الانتشار بين مستخدمي الإنترنت اليمينيين بأن المهاجرين غير الشرعيين يُسمح لهم بالتصويت، وحذّر أنصاره بشدة من التزوير المرتقب في فيلادلفيا (وهي منطقة بها عدد كبير من السكان الأمريكيين من أصل إفريقي)؛ عانى الأمريكيون في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من موجات من الذعر بشأن إساءة استخدام “الدخلاء” للعملية الانتخابية.
وهذا هو سبب تزامن أشد فترات القلق بشأن تزوير الانتخابات إما مع تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين، أو مع تمديد حقوق التصويت للأمريكيين من أصل إفريقي، أو كليهما.
إذ ارتفعت معدلات الهجرة ارتفاعاً ملحوظاً خلال خمسينيات القرن التاسع عشر، وتعمّد الديمقراطيون استهداف المهاجرين الذين وصلوا تواً إلى الولايات المتحدة، ليُشركوهم في اتفاق مفيد للطرفين توفر لهم فيه “الآلة الانتخابية” وظائف مقابل الحصول على دعم سياسي، لكن ذلك أثار الكثير من الغضب بين الأغلبية المولودة في البلاد بشأن “سرقة” الانتخابات.
وفي أواخر ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر بعد التحرر، وبعد أن حاول التعديل الخامس عشر للدستور ضمان حق الاقتراع للسود، كانت هناك موجة جديدة من القلق بشأن “التحقير من قدر” العملية الانتخابية.
إذ زُعم أن الرجال السود غير قادرين على الحكم بصورة عقلانية سليمة كافية من أجل المشاركة في التصويت بالجمهورية. ونظرت الأغلبية البيضاء في الولايات الجنوبية إلى وجود السود في صندوق الاقتراع على أنه دليلٌ ملموس يُثبت أن أتباع الشماليين (اليانكي) قد زوروا الانتخابات، وذلك بتلاعبهم بالأمريكيين الأفارقة للفوز بها فوزاً غير شرعي.
خوف كامن من تلاعب “شخص ما”
لم يحدث من قبلُ أن شعر الأمريكيون بالارتياح تجاه نظامهم الانتخابي، إذ كانت السياسة الجماهيرية دائماً مصحوبة بأجواءٍ من الخوف.
ويكمن في قلب هذا الخوف الإحساس الزاحف بأنّ شفافية النظام مزيفة، وأن شخصاً ما في مكانٍ ما، يتلاعب بالنظام لسلب الأشخاص “الحقيقيين” دورهم الشرعي.
وفي معظم الأحيان، ترتبط مثل هذه الاتهامات بفكرة وجود مجموعة من الناخبين الضعفاء أو المنبطحين بدرجة أنهم سيسمحون لأنفسهم بأن يكونوا بيادق في يد وسيط يتحكم بالنفوذ من وراء الكواليس.
ويُعبِّر رسم كاريكاتيري بعنوان “إغواء صوت Soliciting a Vote” من انتخابات 1852، عن هذا القلق تعبيراً دقيقاً للغاية، فهو يُظهر ناخباً سيئ الحظ وقع تحت يد أربعة مرشحين للرئاسة يتعاملون معه بخشونة.
ولا نرى هنا فساداً بالمعنى المباشر، فهم لا يقدمون له نقوداً مقابل الإدلاء بصوته مثلاً، إلا أنّ هناك قلقاً عاماً من أن الانتخابات لن تتحدد بـ”القضايا” أو التبادل العقلاني النقدي، وإنما يتحكم فيها مزيج من الترهيب والرشوة.
ومع ذلك، فإن كلمة “مزورة” لوصف الانتخابات استخدام حديث إلى حد ما، إذ لم تكن متداولة في القرن التاسع عشر. ومع أن كُتّاب الصحف أبلغوا عن “تنظيم” مخططات فاسدة للتلاعب بالانتخابات، لكنهم لم يستخدموا الكلمة بالمعنى المتعارف عليه اليوم.
ومرةً أخرى، كان ما أدخل كلمة “مزورة” إلى المعجم الانتخابي هو النزاع الدائم حول من يحق له التصويت في الانتخابات.
لطالما طرح ضعف الأنظمة الانتخابية احتمالية رفض الجانب الخاسر للنتيجة. وخشي جورج واشنطن من أنَّ الجمهورية الأولى لن تصمد بسبب سياساتها الفئوية: هل بإمكان الجمهورية الوليدة أن تحافظ على تماسك مصالحها المتباينة من دون السلطة المُلزِمة لرئيس دولة ملكي دائم؟
في عام 1860، كان الجانب الخاسر غير مستعد تماماً لقبول نتيجة الانتخابات الرئاسية لدرجة أنه انفصل وشكَّل اتحاداً كونفدرالياً منفصلاً.
وكثيراً ما طُعِن في نتيجة الانتخابات. ولم تشهد الدولة قط عصراً ذهبياً سلَّم فيه الخاسرون برحابة صدر في كل مرة.
لا عجب إذن في أن تتناغم مزاعم ترامب مع الجمهور. ففي تحذيراته من وجود مؤامرة، يسمعون- وربما دون علم منهم- صدى الجانب الأكثر قتامةً وغضباً للتجربة الديمقراطية الأمريكية.