الاحتلال يمزّق العائلات الفلسطينية.. هكذا تحرم إسرائيل منذ سنوات أُمّاً في غزة من لقاء أطفالها بالضفة
تعيش نيفين غرقود، البالغة من العمر 39 عاماً، مع والديها وابنها الأصغر في قرية جحر الديك وسط قطاع غزة. منذ عام 2018، تقدّمت نيفين بخمسة طلبات للحصول على تصريح خروج من السلطات الإسرائيلية على أمل الانضمام إلى زوجها وأبنائها في الضفة الغربية. لم توافق السلطات الإسرائيلية على أي طلب منها.
قالت نيفين لموقع The Middle East Eye البريطاني: “مضى 4 سنوات منذ آخر مرة رأيت فيها أبنائي. الآن، لا أستطيع رؤيتهم إلا عبر شاشة الهاتف النقّال”. وأضافت: “من المؤلم قبول فكرة أنَّ أطفالي الأربعة يعتنون بأنفسهم بمفردهم بدون وجود أمهم، بينما يعمل والدهم معظم الوقت”.
سياسة الفصل الإسرائيلية
يحتاج سكان قطاع غزة المحاصر إلى تصريح من سلطات الاحتلال الإسرائيلية لمغادرة غزة ودخول الضفة الغربية المحتلة عبر الحدود التي تسيطر عليها إسرائيل عند معبر بيت حانون (أو إيريز)، وهو المعبر البري الوحيد للأشخاص الراغبين في التنقل بين قطاع غزة وبقية الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ووفقاً للحكومة الإسرائيلية، تهدف “سياسة الفصل” إلى تقييد تنقل الأشخاص بين قطاع غزة والضفة الغربية لتجنّب انتقال المقاومين إلى خارج القطاع.
قال محمد عماد، مدير الشؤون القانونية في منظمة “سكاي لاين” الدولية لحقوق الإنسان بالعاصمة السويدية، ستوكهولم، لموقع Middle East Eye: “حتى لو أرادت الحكومة الإسرائيلية تقييد ما تسميه “انتقال الإرهابيين” من قطاع غزة إلى داخل الضفة الغربية المحتلة، فإنَّ سياسة الفصل التي تفرضها على أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة هي عقاب جماعي محظور بموجب القانون الإنساني الدولي”. وأضاف: “تُفرض مثل هذه القيود على مدنيين بصورة تعسفية وعشوائية وتؤدي إلى تشتيت عشرات العائلات، على غرار عائلة سامي غرقود”.
الاحتلال الإسرائيلي يشتت العائلات الفلسطينية بين الضفة وغزة
تزوجت نيفين من سامي غرقود في غزة قبل 18 عاماً. ظلّ غرقود يعمل عاملاً في إسرائيل طوال فترة زواجهما. تقول نيفين: “كان زوجي يتنقل بين غزة والضفة الغربية لزيارتي في القطاع بين الحين والآخر. لم يشهد ولادة أي طفل من أطفالنا الخمسة. كان يأتي لزيارتنا بعد ولادة كل طفل ويبقى معنا لمدة أسبوعين ثم يغادر مُجدَّداً إلى الضفة الغربية”.
لكن منذ بدء الحصار الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، لم يستطع سامي زيارة عائلته في غزة سوى مرة واحدة. قالت نيفين: “قبل الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة عام 2014، ذهبت لزيارته في الضفة الغربية ومكثت معه حوالي 6 أشهر. كنت حينها حاملاً في طفلي الأخير، أمير”.
“اضطررت للعودة إلى قطاع غزة، لأنَّ السلطات الإسرائيلية سمحت لي بمغادرة غزة إلى الضفة الغربية برفقة اثنين فقط من أبنائي الأربعة حتى يجبروني على العودة إلى غزة”.
لم يلتقِ سامي طفله الأصغر، أمير، الذي يبلغ عمره الآن 6 سنوات. حاولت نيفين العودة إلى زوجها منذ ولادة طفلهما الأخير في عام 2014، لكن السلطات الإسرائيلية لم تسمح لها بالوصول إلى الضفة الغربية.
قررت الأم في عام 2016 إرسال أبنائها أولاً إلى والدهم بعد أن أخبرها أقاربها وأصدقاؤها أن هذا سوف يساعدها في الحصول على تصريح خروج للانضمام إليهم في وقتٍ لاحق.
تقول نيفين: “أخذ والدي أبنائي الأربعة وسافر إلى الأردن عبر معبر رفح الحدودي مع مصر، لكنّه تركهم عند جسر اللنبي (أو جسر الملك حسين) الذي يربط بين الأردن والضفة الغربية، حيث لم يستطع العبور، لأنَّ بطاقة هويته تفيد بأنَّه يعيش في قطاع غزة، على عكس بطاقات هوية أبنائي ووالدهم المذكور فيها أنَّهم يعيشون في الضفة الغربية”.
وأضافت: “لم أستطع حتى الآن إرسال أمير للانضمام إلى إخوته الأربعة أو الحصول على تصريح خروج للوصول إلى الضفة الغربية والانضمام إلى زوجي وأبنائي الأربعة. تتحمَّل ابنتي الكبرى، البالغة من العمر الآن 17 عاماً، مسؤولية الاعتناء بإخوتها”.
يقضي الأبناء معظم الوقت بمفردهم، إذ يرون والدهم بالكاد مرة أو مرتين في الأسبوع بسبب عمله. كلما احتاجوا إلى شيء، اتصلوا بأمهم في غزة. تقول نيفين: “أحتفظ بأرقام جيرانهم لطلب مساعدتهم في حالات الطوارئ، لأنَّ والدهم غائب معظم الوقت”.
لا تزال نيفين تأمل في الذهاب إلى أبنائها وزوجها في مدينة قلقيلية، لكنَّها تقول إنَّ السلطات الإسرائيلية “لا تبت حتى في الطلبات المُقدّمة للحصول على تصاريح خروج وتتركها مُعلّقة”.
تجدر الإشارة إلى أنَّه عندما يُرفض الطلب أو يبقى معلقاً، يتعيَّن على سكان قطاع غزة الانتظار لمدة ثلاثة أشهر حتى يتسنى لهم تقديم طلب آخر.
إسرائيل.. تاريخ طويل من تشتيت العائلات الفلسطينية
أقرّ البرلمان الإسرائيلي في يوليو/تموز 2003 قانوناً يمنع لم شمل عائلات المواطنين العرب الذي يحملون جنسية إسرائيلية المتزوجين من فلسطينيين، حيث يحظر القانون على الفلسطينيين الحصول على إقامة أو وضعية قانونية بإسرائيل حتى لو كانوا متزوجين من مواطنين يحملون الجنسية الإسرائيلية ويعيشون داخل الحدود الإسرائيلية.
ووفقاً لمنظمة العفو الدولية، يُمثّل هذا القانون خطوة أخرى في سياسة إسرائيل طويلة الأمد الرامية إلى تقييد أعداد الفلسطينيين المسموح لهم بالعيش في إسرائيل والقدس الشرقية.
لطالما تعرضت إسرائيل لانتقادات لفصلها الأطفال الفلسطينيين عن عائلاتهم، من بينهم أطفال قطاع غزة الذين أحيلوا لتلقي العلاج الطبي في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ووفقاً لأرقام منظمة “أطباء من أجل حقوق الإنسان” الإسرائيلية، فإنَّ السلطات الإسرائيلية رفضت أكثر من نصف الطلبات المُقدّمة في عام 2018 من آباء حاولوا مرافقة أطفالهم لتلقي العلاج الطبي في الأراضي المحتلة.
وبحسب المنظمة الإسرائيلية غير الحكومية، سافر في عام 2019 ما يقرب من خُمس الأطفال المحالين من قطاع غزة لتلقي العلاج بدون والديهم.
ذكرت ورقة موقف صادرة عن منظمة “Gisha” الحقوقية الإسرائيلية في عام 2020 أنَّ إسرائيل تتبع استراتيجية “فرّق تسد” من خلال عزل قطاع غزة عن بقية الأراضي الفلسطينية وفرض قيود على حركة الفلسطينيين بين المدن والقرى بهدف هدم الحياة الاجتماعية والعائلية للفلسطينيين. ولم ترد السلطات الإسرائيلية على طلب موقع Middle East Eye للتعليق.
انفصال صادم
كان أمير، الابن الأصغر لنيفين، قد ذهب مع جده وإخوته إلى معبر رفح الحدودي عندما كان عمره 3 سنوات. بمجرد وصولهم إلى المعبر، أدرك أمير أنَّ أشقاءه الأربعة يغادرون وحدهم بدونه، لأنَّه كان حينها أصغر من أن يسافر بدون أحد والديه.
قالت نيفين: “عندما عاد إلى المنزل، كان في حالة صدمة شديدة لدرجة أنَّه فقد وعيه”، مضيفة أنَّه “أصبح خائفاً منذ ذلك الحين من البقاء بمفرده لدرجة أنَّه لم يذهب حتى إلى المدرسة ويتلقى تعليمه في المنزل”.
وتابعت: “منذ أن رأى أشقاءه يغادرون بدونه، بات ملازماً لي طوال الوقت ويتبعني في كل مكان لكي يضمن أنَّني لن أتركه وأرحل”.
الحنين إلى طعام الأم
تحرص نيفين يومياً على الاتصال بأبنائها والتأكَّد من أنَّهم تناولوا غداءهم بعد أن ثبتت إصابة والدهم بفيروس كورونا ودخوله الحجر الصحي. قال محمد، الابن الرابع لنيفين والبالغ من العمر 10 سنوات، لموقع Middle East Eye: “نأكل عادةً ساندويشات أو نطلب الطعام الجاهز لعدم وجود مَن يطبخ لنا”، وأضاف: “تتصل شقيقتي، ملك، أحياناً بأمي لتسأل عن بعض وصفات الطعام لتحضرها لنا. ورغم أن شقيقتي تطبخ جيداً، أفتقد طعام أمي”.
من جانبها، أكَّدت الأم أنَّها تتجنّب إرسال صور التجمعات العائلية إلى أطفالها حتى لا يشعروا بالافتقاد أو يتوقون إلى “طعام لا يستطيعون الحصول عليه”.
تؤدي ملك، التي احتفلت بعيد ميلادها الـ17 في فبراير/شباط الماضي، دور والدتها في الاعتناء بأشقائها ومتابعتهم في الدراسة ومحاولة تلبية احتياجاتهم اليومية.
توضح نيفين أنَّ أطفالها يمكنهم العودة بسهولة إلى قطاع غزة، لكنها ترفض اتّخاذ هذه الخطوة حتى لا ينتهي بهم المطاف بالعيش بعيداً عن والدهم، لأنها لا تعلم ما إذا كانوا سيستطيعون الحصول على تصريح للمغادرة مرة أخرى إلى الضفة الغربية في حال عادوا إلى غزة، بالإضافة إلى أنَّ الرحلة عبر الأردن ومصر مكلفة للغاية.
تقول نيفين لموقع Middle East Eye: “الأطفال في مرحلة نمو وبحاجة أيضاً إلى وجود الأب في حياتهم. أود فقط أن يعيشوا في بيئة صحية مع والديهم معاً”.
وأضافت: “حياتي منقسمة إلى نصفين. ما المعضلة حقاً في السماح لي ولابني البالغ من العمر 6 سنوات بالانضمام إلى زوجي وأطفالي في الضفة الغربية ولمّ شمل أسرتنا!”.