“الاعتقال لمن يطالب بالأكسجين”.. سياسات مودي أدت إلى مأساة للهند، فهل يخسر الانتخابات بسبب كورونا؟
وانتقلت الهند من نموذج للسيطرة على الفيروس إلى وضعٍ تعاني فيه أشد حالات الطوارئ وطأةً منذ عقود، بعدما جعلت الموجة الثانية من جائحة كورونا الهندَ أشد البلاد تضرراً بالوباء في العالم، بعدما وصل عدد الإصابات الجديدة بالفيروس إلى نحو 400 ألف حالة في يوم واحد، وهو رقم عالمي غير مسبوق ينذر بمحنةٍ قاتمة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
وفي دلهي، تصاعد الدخان من عشرات المحارق المضاءة داخل موقف للسيارات تحول إلى محرقة مؤقتة للجثث، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
واللقاحات المتوافرة تكاد تنفد، والمستشفيات ممتلئة عن آخرها، وأنابيب الأكسجين، التي لا غنى عنها لإنقاذ حياة المرضى، شحيحة. وزاد من فداحة الفاجعة سلسلةٌ من الحوادث التي وقعت في مستشفيات البلاد.
وقد أسفر آخرها -الذي وقع في وقت مبكر من يوم السبت 1 مايو/أيار في ولاية غوجارات الغربية- عن مقتل ما لا يقل عن 16 مريضاً بفيروس كورونا، إضافة إلى عاملين في مجال الرعاية الصحية.
على الرغم مما كانت تشهده البلاد من ارتفاع حادٍ في عدد الضحايا، سمحَ مودي لجماهير كبيرة العدد من أنصاره بالاحتشاد والتجمع دعماً لحزبه الحاكم بهاراتيا جاناتا. وصرَّحت حكومته بإقامة مهرجان هندوسي حضره آلاف من الحجاج. كما شارك في انتخابات الولايات بلا قناع طبي وفي وسط تجمعاتٍ تضم آلافاً من مؤيديه الذين لم يرتدوا أقنعة أيضاً.
ظلت فرقة العمل المسؤولة عن جهود مكافحة كورونا في الهند، التي كانت تجتمع مرتين على الأقل شهرياً، بلا اجتماع واحد في الفترة بين 11 يناير/كانون الثاني و15 أبريل/نيسان، وفقاً لثلاثة مصادر مطلعة. وخرج وزير صحة مودي على الجمهور في مارس/آذار مؤكداً أن الهند قد تجاوزت “المرحلة الأخيرة” من الوباء. وقبلها بأسابيع قليلة، تفاخر مودي أمام زعماء العالم بأن دولته قد انتصرت على فيروس كورونا.
كيف حول مودي الهند من نموذج إلى عبرة لما يجب تجنبه؟
في وقتٍ ما، كان خبراء من جميع أنحاء العالم يتعجبون من الحالة التي بدت عليها البلاد وقد أفلتت من التداعيات الأشد قسوة للوباء.
غير أن خبراء صحةٍ مستقلين ومحللين سياسيين يقولون إن ثقة مودي المفرطة وما يتسم به أسلوب قيادته للبلاد من هيمنةٍ وتمركز عواملُ أساسيةٌ يقع عليها كِفل كبير من المسؤولية عن الأزمة الحالية.
وربما كان للتجمعات الكبيرة والفعاليات الجماعية التي انعقدت دور أيضاً؛ فقد انتُقد رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي لقراراته برفع جميع القيود تقريباً وعقد تجمعات سياسية ضخمة الأعداد، كما رصد بعض الخبراء أكثر من 100 حالة إصابة بمهرجان ديني استقطب عشرات الآلاف من الحجاج الهندوس من جميع أنحاء البلاد.
وقال رامانان لاكسميناريان، عالم الأوبئة بجامعة برينستون الأمريكية، لدورية Nature العلمية، إن “ثمة رواية عامة انتشرت مفادها أن الهند تغلبت على فيروس كورونا، وزاد على ذلك اتجاه الناس إلى مزيد من التراخي بعد أن أطلقت حملة التطعيم في يناير/كانون الثاني. نتيجة لذلك، تخلى كثيرون عن حذرهم وعادوا إلى التزاور الاجتماعي والسفر وإقامة حفلات الزفاف الضخمة”.
وقال خمسة علماء أعضاء في منتدى مستشارين علميين، شكلته الحكومة الهندية، إن المنتدى حذر المسؤولين في أوائل مارس/آذار الماضي، من ظهور سلالة جديدة من فيروس كورونا، أكثر عدوى في البلاد، لكن الحكومة تجاهلت ذلك.
تقول صحيفة The Guardian البريطانية، إنه من المحتمل أن يستغرق تفكيك الغموض حول أسباب ما حدث في الهند سنوات، لكن من الواضح أنَّ نظام مراقبة الفيروس في الهند أخطأ في رصد مدى انتشاره الحقيقي في وقت سابق من هذا العام، حتى في الوقت الذي احتفل فيه الناس بانخفاض الإصابات، إلى أن فات الأوان.
وفي حين كان التركيز الأكبر على أحدث نسخة هندية من فيروس كورونا، يرجع السبب في معظم إصابات الموجة الأخيرة أيضاً إلى مزيج من السلوك الاجتماعي ونقاط الضعف في النظام الصحي الهندي والقرارات الخاصة بالسياسة المتبعة.
تشجيع الناس على الاختلاط
ومع إخبار العامة بأنَّ الدولة تغلبت على الفيروس، أو أنَّ بعض المناطق اقتربت من تحقيق مناعة القطيع، وأنَّ التطعيم كان وشيكاً، وهو ما يُمكِّن من السيطرة على الفيروس، عزف بعض أولئك الذين كانوا يسعون سابقاً للخضوع للفحص عن هذا الخيار، لا سيما لو كانوا يعانون من أعراضٍ أقل خطورة.
يقول معارضو مودي ومنتقدوه إن حكومته مصرَّةٌ على تسليط الضوء على صورة للهند تبدو فيها كالتي عادت إلى المسار الصحيح ومفتوحة لعودة التجارة، على الرغم من الخطر المحدق بالبلاد. وفي مرحلة ما، رفض مسؤولون في الحكومة تحذيرات العلماء من أن سكان الهند لا يزالون في خطر ولم يصلوا إلى “مناعة القطيع”، كما ادعى بعض المسؤولين في إدارة مودي، وذلك بحسب أشخاص مطلعين على تلك المناقشات.
ويرد على الانتقادات بالاعتقالات
وفي غضون ذلك، جاءت الأزمة المتفاقمة التي تشهدها البلاد لتلحق وصمةً بحكومة مودي وتنزع هالة الحصانة السياسية عن حكمه. فقد شرع زعماء المعارضة في مهاجمته، وزادت هيمنته على السلطة من حدة الانتقادات اللاذعة الموجَّهة إليه عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن ذلك لم يمنع حزبه وحلفاءه من التحرك لكتم أصوات المنتقدين، وإصدار الأوامر لمواقع فيسبوك وإنستغرام وتويتر بإزالة المنشورات التي تنتقد الحكومة، وقد وصل الأمر حدَّ التهديد باعتقال أشخاصٍ عاديين لمجرد مطالبتهم بتوفير أنابيب الأكسجين.
يقول عاصم علي، وهو باحث في مركز أبحاث السياسات في نيودلهي: “يقع الجزء الأكبر من اللوم على أسلوب حكم مودي نفسه، إذ يُختار كبار المسؤولين والوزراء على أساس الولاء وليس الخبرة والكفاءة، وتحظى السرية والحفاظ على الصورة العامة بالأولوية على حساب الشفافية والواقع”.
وأضاف علي: “في هيكلِ حكمٍ كهذا، بمجرد أن يرتكب مودي خطأ، فإن العواقب تكون وخيمة”. ويشير مراقبون إلى أن المسؤولين كانوا في خوف شديد من مجرد الإشارة إلى الأخطاء، أو التشكيك في مزاعم مودي بأن الوباء قد انتهى وأن البلاد تجاوزته.
تصدير اللقاحات لمنافسة الصين
كما يلفت مراقبون إلى عاملٍ آخر أسهم في تعميق الأزمة: فعلى الرغم من أن الهند تعد مركزاً لإنتاج لقاحات كورونا وتصديرها إلى جميع أنحاء العالم، فإنها لم توفر عدد الجرعات الكافي لحماية نفسها ومواطنيها. إذ بدلاً من ذلك، ظلت معدلات التطعيم متدنية في الداخل، وبمجرد انخفاض معدل الإصابات في مرحلة سابقة، صدَّرت نيودلهي أكثر من 60 مليون جرعة لقاح لتعزيز مكانة البلاد على الساحة العالمية.
بالإضافة إلى ذلك، فقد برنامج التطعيم قوته مع بدء التراخي الذي أعقب تجاوز الموجة الأولى من الوباء. واتجهت إدارة مودي إلى تصدير اللقاحات هندية الصنع كسباً لتأييد الدول المجاورة التي كانت بصدد الاعتماد على الصين، منافس الهند الإقليمي.
وتوصف الهند أحياناً بـ”صيدلية العالم”، في ظل قدرتها الهائلة على توفير لقاحات كورونا، وهو الأمر الذي استغلته نيودلهي في إطلاق ما يسمى “دبلوماسية اللقاحات الهندية” في مواجهة مساعي الصين لتعزيز نفوذها عبر توزيع اللقاحات.
وقبل عدة أشهر، قال تقرير حكومي هندي، إن الهند حققت مساهمات كبيرة في أسواق اللقاح في العالم تصل إلى ربع حجمها البالغ 35 مليار دولار، كما تشكل لقاحاتها إمدادات 60% من اللقاحات المقدمة لمنظمة اليونيسيف التابعة للأمم المتحدة. ووفق التقرير، تنتج الهند 30 نوعاً من اللقاحات يستفيد منها 140 بلداً في العالم وتشكل جميعها 1.45 مليار جرعة.
تعثر حملة اللقاحات رغم أن البلاد أكبر منتج لها
ووافقت الحكومة الهندية على لقاحين فقط للاستخدام، وكلاهما مصنوع في الهند، وهو ما استُخدم للترويج بأن البلاد مكتفية ذاتياً من اللقاح. غير أن الواقع أن نسبة أقل من 2% فقط من مجموع سكان البلاد هي التي تلقت جرعتين من اللقاح.
إذ واجهت حملة التطعيم المحلية تباطؤاً منذ إطلاقها، جزء منه سببه عدم ثقة المواطنين بما فيهم الأطقم الطبية في اللقاحات خاصة اللقاح الهندي.
وكان من المفترض أن يُفتح باب التطعيمات للهنود الذين يبلغون من العمر 18 عاماً أو أكثر يوم السبت 1 مايو/أيار، لكن العديد من الولايات أعلنت أن نقص اللقاحات أجبرهم على تأخير توسعاتهم في التطعيم.
في المقابل، يرفض حزب مودي وحكومته التصريح بإجابات واضحة عن أسئلة محددة، ويلجأون بدلاً من ذلك إلى ذكر الإجراءات التي اتخذتها الحكومة، ومنها أكثر من عشرة اجتماعات عقدها مودي في شهر أبريل/نيسان وحده مع ضباط بالقوات الجوية، ومديرين تنفيذيين في قطاع الأدوية وغيرهم من المسؤولين.
ومن جانبه، قال راجيف شاندراسيخار، المتحدث باسم حزب بهاراتيا جاناتا، إن البلاد لم تكن تعاني نقصاً في إمدادات اللقاح عندما قررت الحكومة تصدير كميات منه إلى الخارج، وأضاف أن “الحكومة كانت قد استبقت ذلك بالتوسع في إنتاج اللقاح والمشتريات من مصادر بديلة”.
وقالت الحكومة في بيانٍ، إنها: “التزمت وتيرةً ثابتة من التنسيق والتشاور لإعداد استجابة مناسبة”، وأضافت أن الإدارة كانت قد أوصت الولايات في فبراير/شباط الماضي بـ”الإبقاء على مستوى صارم من اليقظة والتنبُّه وعدم التخلي عن حذرها” تأثراً بانخفاض معدل الإصابات وقتها.
أنصار مودي يلقون اللوم على الحكام السابقين
ويجادل أنصار الحكومة بأن أي زعيم هندي في مكان مودي كان سيواجه صعوبات جمة، إذ يعيش مئات الملايين من فقراء الهند متكدسين في مساكن متلاصقة، وهم أهداف سهلة لانتشار أي فيروس شديد العدوى.
كما يشير مؤيدون إلى أن الهند أهملت قطاع الصحة العامة منذ فترة طويلة، حيث وصل الإنفاق إلى أقل من 100 دولار للفرد سنوياً، بحسب بيانات البنك الدولي، وهو رقم أقل من نظرائه في عديد من الدول النامية؛ وهي مشكلة تعود إلى ما قبل وصول مودي إلى السلطة.
يقول مراقبون إن أداء حكومة مودي فيما يتعلق بالوباء كان أفضل كثيراً خلال الموجة الأولى. ففي 24 مارس/آذار 2020، عندما كان إجمالي عدد الإصابات المبلَّغ عنها في الهند أقل من 600 حالة، فرض مودي على بلاده إحدى أشد عمليات الإغلاق صرامةً في العالم في غضون أربع ساعات.
ويعزو الخبراء إلى هذا الإغلاق، على الرغم من العيوب التي شابته، الفضل في إبطاء انتشار العدوى. ومع ذلك، فقد كانت تداعيات الإغلاق مدمرة من الناحية الاقتصادية، إذ شهدت البلاد طردَ عشرات الملايين من العمل، وأدى تدهور الأمور إلى خسارة العديد من طموحات مودي الكبرى، ومنها تحويل الهند إلى قوة عالمية. ومن ثم، أصبح مودي قلقاً من أي شيء قد يفضي إلى فرض الإغلاق الاقتصادي مرة أخرى.
هل يسقط في الانتخابات؟
مع كل ذلك، ولما كان الواقع أن الانتخابات البرلمانية لا يزال موعدها المقرر بعد ثلاث سنوات من الآن، بالإضافة إلى عدم وجود مؤشرات على أي انشقاقات في حكومة مودي، فإن سلطة مودي وهيمنته على البلاد تبدو آمنة.
والأرجح أن يظل مودي في السلطة بفضل حالة الضعف التي تعيشها المعارضة، وقدرته الدائمة على التعويل على إشعال حماسة قاعدته القومية الهندوسية.
يقول ميلان فايشناف، مدير البرنامج الخاص بشؤون جنوب آسيا في “مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي”: “إن مودي لديه هذ النوع من الكاريزما والجاذبية والقصة الشخصية شديدة الإقناع التي تجعله يحظى بمصداقية هائلة مع الناخب العادي”.
ومن ثم، يضيف فايشناف: “حتى مع ما تشهده البلاد، فإن الشخصيات مثل مودي لطالما وجدت وتجد طرقاً لتبرير الوضع” وتجاوزه.