التجديد في الأدب العربي
إذا أردنَا أن نبدأَ أولاً بالفرق اللُّغوي، بين طوّر وجدَّد فإنَّنا سنجدُ كلمة طوّر :
بمعنى عَدّل، وحسَّن، ونقلَ من طورٍ لطور، أو من حَالٍ إلى لحَال.
بينما كلمة جدَّد بمعنى أبدل قديماً بجديد.
ففي الأولى إضافة لَبِنة إلى لَبِناتٍ سَابقة، بينما الثَّانية تُتيحُ الهَدمَ، وإعادةَ البناءِ، وبذلكَ يكونُ التَّجديدُ أوسعَ وأشملَ من التَّطوير.
وإن أردنا التَّحدُّثَ عن ظاهرةِ التَّطور في المجالِ الأدبي، فسنجدُ مثالاً لها بحركة التَّأليف لمعاجمِ الألفاظِ، التي بدأت من معجمِ النَّوادر لأبي زيد الأنصاري، بإيراده للمفرداتِ الغريبةِ، وللنُّصوصِ المُستشهدِ بها من غير ترتيب، لتصلَ فيما بعد لأعظمِ معجمٍ لغوي لابن منظور معجم “لسان العرب” الذي هو غاية في التَّنظيم والغنى، وما انطبق على معاجم الألفاظ من تطوّر سنراهُ ينطبقُ على حركةِ تأليفِ معاجمِ المعاني، والأدب وتراجمِ الأدباءِ والنَّحويين واللُّغويين.
أما عن فكرةِ التَّجديدِ فهي
– من وجهةِ نَظرِي – قديمةٌ و حديثةٌ، لم يدركها التَّوقف.
فتارةً نلمحُها بالمعاني، وتارةً بالأغراضِ الشِّعرية، وأحياناً بالألفاظِ والصُّورِ، وأخرى بالإيقاعِ من خلالِ ابتكارِ أوزان جديدةٍ، وقد تكونُ في ماسبق أجمع.
وهو أي -التَّجديد- مرتبطٌ لحدٍّ بعيد بالظُّروفِ المكانيةِ والزَّمانيةِ، وبالمعطياتِ التَّاريخيةِ، التي جَميعهَا تساهمُ بخلقِ ظاهرةِ التَّأثر والتَّأثير.
فالاحتكاكُ بالفرسِ والرُّوم
– قديماً – والأحداثُ التَّاريخيةُ المتواليةُ كانَت من الأسبابِ المساهمةِ بتجديدِ الأدبِ مَضموناً وشَكلاً.
إنَّ ظهورَ الدَّعوة الإسلاميةِ غيَّرَ توجُّه معاني القصيدةِ، و أفكارَها إلى قيمٍ ومُثلٍ جديدةٍ
تَبناها الإسلام.
وفي السَّير قُدماً نحو العصرِ العباسي، نجدُ أنَّ الشَّاعر بشار بن برد اُعتبرَ إمامَ المُحدِّثين، حيثُ يقولُ عنه ابن رشيق: “أنَّه أوّل من فتقَ البَديع” واستحدثَ تَجديداً في بُنيةِ القَصيدةِ، والوزن والمعاني الشِّعرية والأخيلة.
وكان لأبي تمَّام إطلاعٌ واسعٌ على ثقافاتِ الفُرسِ والرُّوم سَاهمت في تجديدهِ الأدبي في مطالعَ وموضوعاتِ القَصيدة.
وكذلك لأبي نواس دورٌ تجديدي، كالتَّحللِ من نمطِ القصيدةِ التَّقليدي، وأحياناً من الوزنِ والقافيةِ وتفرده بخيالٍ مُختلفٍ عن سِواه.
وفي شِعرِ أبي العتاهية المُتمثلِ بالزُّهد، والتَّمرد على العَروض، حيث ابتكرَ أوزاناً عَروضيةٌ جديدةً، وإن لم يصلُنا كاملُ شِعره، وهو القائلُ (أنا أكبرُ من العَروض).
وظهرَ مع أبي العتاهية عددٌ آخرٌ من الشُّعراء الذين تمردُوا على القديمِ، أُطلق عليهم اسم الشُّعراء المُولدين وكان توليدهم في فئتين :
– الأبحرُ المهملةِ: كالمُستطيل والمُمتد ..المُتوفر ..المُنسدر ..
المُجتث ..الوَسيم ..الفَريد..
العَميد
– ومن خلالِ الفُنونِ الشِّعرية المُحدثة( كالزَّجل والمُوليا و الدوبيت والقوما ..الكان وكان
والموشح ).
ويُعتبر الأدبُ الأندلسي نموذجاً واضحاً للتَّجديد بإدخالهم أسلوب الشِّعر القصصي، واختيارهم الألفاظ السَّهلة، السَّلسة، إذ قلة منهم مالَ للألفاظِ الفَخمةِ، والجرس العالي كابن هاني مُتأثراً بالمتنبي، حرصاً منه على اللُّغة البَدوية.
وليس إبداعهم لفنِّ الموشحاتِ، التي اتخذت نظاماً خاصاً في ترتيبِ أبياتِها
المَطلع، ثمَّ البيت الذي يتألفُ من أسماطٍ
( سمط ثم القفلة .. و آخر قفلة سموها الخرجة )
إلا شكلاً بيناً للتَّجديد.
وقد يكون ولعُ الشُّعراء بالمُحسناتِ البَديعيةِ المُتكلفةِ والمعاني المُنحطَّة في المرحلةِ التي تلت إشراقات الأدب العباسي، كنظمهم للقصائد بحروفٍ معجَّمة، منقوطةٍ أو مهملةٍ خاليةٍ من النِّقط “على سبيل المثال”
في تلكَ الفترةِ التي سُميت بهرمِ وشيخوخةِ الأدبِ بحثاً عن تجديدٍ ما، أقول قد !!.
ولكن، ومع نهايةِ القرنِ التَّاسع عشر، وبداية القرنِ العشرين، بدأَ عصرُ النَّهضة، وتجلَّى هذا العصرُ باتصالِ العربِ بالغربِ من خلالِ حملةِ نابليون والبعثاتِ، وحركاتِ التَّرجمة. إضافةً لافتتاح المدارس، والتَّعليم، وولادة الصَّحافة، والطِّباعة، وانتشارِ الجمعيات والأنديةِ العلميةِ والأدبية،
ممَّا كانَ له أثرٌ واضحٌ في ماهيةِ الشِّعر والأدبِ عُموماً .
وكانت نتيجتهُ مدرسةُ البَعثِ والإحياءِ على يد محمود سامي البارودي، ومعروف الرَّصافي، وأحمد شوقي، وحافظ ابراهيم، وخير الدين الزِّركلي
وبالتزامن معها ظهرت حركات شعرية تجديدية تأثرت بالمذهبِ الرُّومانسي، كمدرسةِ الدِّيوان، والرَّابطة القلمية، وجماعة أبولو، والعصبة الأندلسية
ورابطة منيرفا وإن لم يكن ظهورُها قوياً، لكن لا نستطيعُ نفيَ وجودِها.
وهكذا لتستمر الحركةُ التَّجديديةُ، وصولاً لشِعرِ التَّفعيلةِ الذي تخلَّى عن البيتِ الشِّعري إلى السَّطر الشِّعري (تكسيرُ البنيةِ..وتجديدُ الرُّؤيةِ ) ومن ثمَّ إلى قصيدة النَّثر، وشِعر الوَمضةِ أو ما يُسمى حالياً بمصطلحِ الأدبِ الوَجيز
والتَّجديدُ لم ولن يتوقف ونحن- حسب اعتقادي- لا نملكُ تَحديداً له، لأنَّه يَرتبطُ ارتباطاً وثيقاً بالمعطياتِ المُحيطةِ بكلِّ مَجالاتِها .
ثناء أحمد .. كاتبة وشاعرة سورية