«الخدمة العسكرية».. مخاوف أوروبا تدفع نحو «الإلزامية»

مدفوعةً بخشيتها من احتمال فكِّ الولايات المتحدة ارتباطها الدفاعي بها أو تكرارِ سيناريو أوكرانيا، تدرس الدول الأوروبية إعادة فرض الخدمة العسكرية الإلزامية لتعزيز قدراتها الذاتية في مواجهة أيِّ عدوان.
لكن العديد من الدول، بما في ذلك فرنسا وبريطانيا، تعاني في تجنيد الأفراد والاحتفاظ بهم.
وقد تكون إعادة فرض شكلٍ من أشكال الخدمة العسكرية، سواء الإلزامية أو الطوعية، أكثر صعوبة.
استطلاعات الرأي
وبحسب استطلاع رأي أجرته مؤسسة «يوغوف»، تؤيّد غالبيةٌ في فرنسا (68%) وألمانيا (58%) الخدمة العسكرية الإلزامية للشباب.
في المقابل، ينقسم الإيطاليون والبريطانيون بشأنها، بينما يعارضها غالبية الإسبان (53%).
لكن الدراسات تُظهر أيضاً أن العديد من الأوروبيين غير مستعدين للدفاع عن بلدانهم في ساحة المعركة.
وتوضح الخبيرة الفرنسية بينيديكت شيرون، التي تدرس الروابط بين المجتمع والقوات المسلحة، قائلةً: «في مجتمعٍ ليبرالي، أصبح فرض القيود العسكرية شبه مستحيل».
وتضيف: «ما دام لا يوجد غزو، فإن تحمُّل التكاليف السياسية لمعاقبة الرافضين للاستدعاء يبدو أمراً لا يمكن تصوُّره».
وألغت معظم الدول الأوروبية التجنيد الإجباري بعد الحرب الباردة، باستثناء تسع دول لم تعلِّقه إطلاقاً، وهي: اليونان، وقبرص، والنمسا، وسويسرا، والدنمارك، وإستونيا، وفنلندا، والنرويج، وتركيا.
وأعادت ليتوانيا العمل بالتجنيد الإجباري في عام 2015، بعد عامٍ من ضمِّ روسيا لشبه جزيرة القرم في جنوب أوكرانيا، وحذت السويد حذوها عام 2017، ولاتفيا عام 2023.
ولكن، نظراً للتكاليف السياسية والاقتصادية، لا تعتزم معظم الدول الأوروبية الخمس الأكثر إنفاقاً في حلف شمال الأطلسي، أي فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة وإيطاليا وبولندا، جعلَ الالتحاق بالقوات المسلحة إلزامياً.
وأعلنت بولندا، التي ألغت التجنيد الإجباري عام 2008، مؤخراً عن خططٍ لتقديم تدريبٍ عسكريٍّ لـ100 ألف مدني سنوياً، بدءاً من عام 2027.
وسيكون هذا البرنامج طوعياً، بينما تخطط السلطات لاعتماد نظام «الدوافع والحوافز»، بحسب رئيس الوزراء دونالد توسك.
توجهات أوروبية متباينة
في ألمانيا، أعرب المستشار العتيد فريدريش ميرتس عن تأييده لإعادة اعتماد سنة إلزامية يمكن للشباب خلالها أداء الخدمة العسكرية أو المجتمعية.
وفي بريطانيا، تم تسريح آخر جنود الخدمة الوطنية عام 1963، ولا تخطط الحكومة للعودة عن ذلك.
وقال بات ماكفادن، وزير شؤون مجلس الوزراء: «لا ندرس التجنيد الإجباري، لكننا أعلنا، بالطبع، عن زيادة كبيرة في الإنفاق الدفاعي».
وفي فرنسا، حيث انتهت الخدمة الإلزامية عام 2001، يبحث الرئيس إيمانويل ماكرون عن سبلٍ لتشجيع الشباب على الخدمة العسكرية.
وأكد في تصريحاتٍ للصحفيين، نُشرت السبت، أن فرنسا باتت تفتقد «الوسائل اللوجستية» لإعادة فرض الخدمة الإلزامية، لكنه يريد «البحث عن سبلٍ لتعبئة المدنيين»، وسيُصدر إعلاناً بهذا الشأن في الأسابيع المقبلة.
ويرى المؤرخ العسكري الفرنسي ميشال غويا أن إعادة فرض الخدمة الوطنية «ستعني تحويل جزءٍ كبيرٍ من الجيش إلى مراكز تدريب».
وفي إيطاليا، استبعد وزير الدفاع غيودو كروسيتو إعادة فرض الخدمة، لكنه أيَّد فكرة إنشاء قوة احتياط.
نموذج الشمال الأوروبي
ويرى باحثون أن على سياسيي أوروبا الغربية التعلم من دول الشمال الأوروبي ودول البلطيق، وخصوصاً فنلندا والسويد.
وتمتلك فنلندا، التي تتشارك حدوداً طويلة مع روسيا وغزاها الاتحاد السوفياتي عام 1939، إحدى أكبر قوات الاحتياط في أوروبا.
ويؤكد بوريلكوف: «لا يزال الانقسام بين الشرق والغرب مشكلة، فقلة من الناس في أوروبا الغربية على استعدادٍ للقتال».
ويعتبر أن إقناع الأوروبيين بالتطوع يتطلب حملات مناصرة.
ويوضح: «هناك أيضاً علاقة بين ما إذا كان الناس يرون أن الانتصار ممكنٌ في الحرب، وما إذا كانوا يرغبون في الخدمة. لذا، فإن التحسين الجذري للقدرات العسكرية الأوروبية سيزيد من ثقة الناس بها».
ويؤكد ميشال غويا أن الأوروبيين صُدموا بهشاشتهم وضعفهم الدفاعي، مشيراً إلى أن الدعم الأمريكي «ينحسر، والعديد من الدول الأوروبية تقرُّ بأنها، في النهاية، مكشوفة بعض الشيء».
وكان قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشنِّ عمليةٍ عسكريةٍ ضد أوكرانيا مطلع عام 2022 قد فاجأ أوروبا.
وتزايدت المخاوف بشأن متانة حلف شمال الأطلسي (ناتو) في ظل التغييرات الجذرية التي يُدخلها الرئيس دونالد ترامب على السياسة الخارجية الأمريكية، وتشديده على وجوب أن تهتمَّ أوروبا بأمن القارة بنفسها.
ويقرُّ كلٌّ من المحللين العسكريين والحكومات الأوروبية بأن خطر العدوان الروسي حقيقي، بل وأعلى بكثير مما كان عليه قبل ثلاث سنوات.
ويقول ألكسندر بوريلكوف، الباحث في معهد العلوم السياسية بجامعة هايدلبرغ: «الجيش الروسي اليوم أكبر وأفضل مما كان عليه في 24 شباط/فبراير 2022. لدى الروس نوايا عدائية تجاه دول البلطيق والجناح الشرقي للاتحاد الأوروبي».
وتفيد دراسةٌ شارك بوريلكوف في إعدادها لصالح مركز «بروغل» البحثي ومعهد «كيل» بأن أوروبا قد تحتاج إلى 300 ألف جندي إضافي لردع العدوان الروسي، بالإضافة إلى 1,47 مليون عسكري في الخدمة حالياً.
ويوضح الباحث: «يجب أن يؤدي التجنيد الإلزامي دوراً في (توفير) أعدادٍ كبيرة كهذه من القوات الجديدة».