المثقف .. تفكيك الالتباس
سليم يونس
يكاد يكون مفهوم المثقف، هو الأكثر التباسا في مجرى الدور والوظيفة والماهية، ومرد هذا الالتباس أن هناك تعميما غير علمي بإسباغ صفة المثقف على كل متعلم، أو كل من حاز درجة علمية من أحد الجامعات، بل إن هناك من يتبنى المفهوم الواسع للمثقف ، بجعل صفة المثقف لا تقتصر على أصحاب الدرجات العلمية، وإنما تشمل كل من يمتلك معرفة عامة.
لكن بتقديرنا فإن السؤال الكاشف لا يتعلق بتوصيف المثقف، بقدر ما يذهب إلى الدور والوظيفة، وأين موقع هذا المثقف في خندق الدفاع عن قضايا الناس, ومن السلطة بشكل عام؟ ذلك أن هناك فرقا شاسعا، إذا ما تركنا تعريف المثقف جانبا، بين مثقف يقف مع الناس من أجل التغيير الإيجابي، بفتح الآفاق للمستقبل، وذاك المثقف الذي يخدم سياسات وتوجهات السلطة في جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية.
ولعل نقطة البدء التي منها يمكن أن تتضح لنا ملامح الصورة ..هي: هل يملك المثقفان، من ينحاز لقضايا الناس، أو من يروج ويتبنى سياسات السلطة( أي سلطة)، القضية الأساس ، أي النزاهة الفكرية والأخلاقية عند قيام كل منهما بدوره؟
ومسألة النزاهة الفكرية والأخلاقية تصبح محل سؤال بالنسبة للمثقف المرتهن للسلطة ، الذي هو جزء من بنيتها، ويعيش على حسابها لأنه من الطبيعي والحال هذه، أن يلقي موقعه في بنية السلطة الكثير من الظلال على نزاهته وصدقيته، في حين أن المثقف الآخر المستقل غير مرتهن أو مدين لأي سلطة.
ومع ذلك لا يمنع هذا الالتباس الذي يحيط بتوصيف المثقف ودورة في مجتمعاتنا، من أن الحاجة الموضوعية لدوره، تبرز وبإلحاح أكثر عند انسدادات الأفق نحو المستقبل، وشيوع حالات الظلم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، باعتباره كنافخ في جمر الركود والعجز والهوان في أي مجتمع من المجتمعات، من أجل التغيير الذي ينتمي للناس.
ومن ثم فإن المثقف المقصود حسب أدوارد سعيد ، هو الذي يملك ملكة المعارضة، ملكة رفض الركود، الذي لا يرضى بحالة حتّى يُغَيِّرها، فإذا غيَّرها بدأ يحلم بمواصلة التغيير. فقط في لحظة الإبداع يكون المثقف راضياً، وفي ما عداها، هو غير راضٍ، هو رافض، هو قلق، هو متعطش إلى التغيير. والمثقف، طبقاً لإدوارد سعيد، ليس المثقف في مجال ما، بل المثقف الذي يأخذ موقفاً شمولياً من المجتمع. المثقف يحس إحساساً داخلياً، بأنه هو وحده المسؤول عن الإصلاح، عن التغيير، عن إلغاء الغبن، عن تدمير الظلم، هو صاحب رسالة، وإذا لم يمارسها فإن وجوده يصبح زائداً، أو فائضاً، أو غير ضروري.
ويضيف المفكر أنطونيو غرامشي بعدا آخر في مقاربته لتعريف المثقف، فإضافة إلى الخصائص الجوهرية لنشاطه الذهني، هناك الوظيفة الاجتماعية التي يؤديها المثقف لمجتمعه”. كـ” مثقف عضوي” الذي هو صاحب مشروع ثقافي يتمثل في الإصلاح الثقافي والأخلاقي.
والمثقف بهذا المعنى ليس دوره أن يقول كلمته ويمشي، فهو لدى إدوارد سعيد “ليس داعية مسالما في جوهره، ولا داعية اتفاق الآراء، لكنه شخص يخاطر بكيانه كله باتخاذ مواقفه الحساسة، وهو موقف الإصرار على رفض الصيغ السهلة والأقوال الجاهزة المبتذلة، أو التأكيدات المهذبة القائمة على المصالحات اللبقة والاتفاق مع كل ما يقوله وما يفعله أصحاب السلطة وذوو الأفكار التقليدية. ولا يقتصر رفض المثقف أو المفكر على الرفض السلبي بل يتضمن الاستعداد للإعلان عن رفضه على الملأ”.
وأخيرا يمكن القول أن هذا المثقف صاحب الدور والمشروع من الصعب تصوره جزءا من أي سلطة ، لأن ذلك يتناقض مع دوره ، كون دور المثقف يقوم على نقد سياسات السلطة وممارساتها ، ولذلك فإن مكانه الموضوعي هو في الجانب الآخر مع مجموع الناس ، أي في الموقف الناقد للسلطة والكاشف لعيوبها، مهما واجه من صعوبات وتحديات، قد تصل حد تهديد حياته، كونه صاحب رسالة.