الوباء والديون يهددان دبي بكارثة.. وأبوظبي تتحين الفرصة لاستكمال ما فعلته في 2008
يبدو تضرر دبي من أزمة كورونا مضاعفاً مقارنة بجيرانها الخليجيين الآخرين.
فعلى مدى عقود من الزمان، شيدت دبي نجاحها على تحولها من مجرد مكان معزول لتجارة اللؤلؤ، إلى مركز عالمي يضم بعضاً من الموانئ والمطارات الأكثر ازدحاماً في العالم، إضافة إلى كونها مركزاً مالياً يستضيف أكبر المصارف الدولية، أي أنها نسخة الشرق الأوسط من سنغافورة أو هونغ كونغ.
لكن الأعمدة الاقتصادية لهذه الإمارة في الوقت الحالي -وهي التجارة، والمواصلات، والسياحة، وتجارة التجزئة، والعقارات- مغلقة تماماً بسبب حالة الإغلاق المنتشرة في العالم جراء جائحة كورونا.
تمتلك دبي موارد نفطية قليلة، وتفتقر إلى القدرة المالية التي لدى جاراتها الثرية، مثل أبوظبي وقطر، لتخفيف الأثر الاقتصادي لمرض كوفيد-19، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Financial Times البريطانية.
لا إكسبو، ودين مرتفع.. شبح 2008 يطارد المدينة
أُرجئ معرض إكسبو 2020، الذي كان من المقرر إقامته في أكتوبر/تشرين الأول، لمدة 12 شهراً، لينضم إلى قائمة طويلة من الأحداث العالمية التي سقطت ضحية للجائحة.
أثارت الأزمة العالمية مخاوف بشأن عبء الدين المرتفع الذي تتحمله الإمارة -والذي وجد صندوق النقد الدولي في العام الماضي أنه “يتجاوز 100% من إجمالي الناتج المحلي لدبي”، بما في ذلك الكيانات المرتبطة بالحكومة- وأعادت إلى الأذهان ذكريات مؤلمة. خلال الأزمة المالية 2008-2009، وصلت دبي إلى حافة الإفلاس وأُجبرت على تقليص حجم الكيانات الحكومية المتعثرة وإعادة هيكلتها.
نجت الإمارة، وازدهرت لاحقاً، ويُعزى جانب كبير من هذا إلى قروض إنقاذ بقيمة 20 مليار دولار دعمتها بها إمارة أبوظبي، العاصمة الثرية لدولة الإمارات. لكن تلك الأزمة جرى احتواؤها في المقام الأول داخل قطاع العقارات في دبي والكيانات المرتبطة بالحكومة فيها، التي اعتمدت اعتماداً شديداً على الدين في ظل توسع المدينة.
يبدو التأثير أكبر هذه المرة، وفي أسوأ الظروف قد ينتج عنه تقليص قوة حكومة دبي.
لا مفر من التقليص.. تضرر دبي من أزمة كورونا يدفعها لخيار مرير
تقول كارين يانغ، وهي باحثة مقيمة بالمعهد الأمريكي لأبحاث السياسة العامة: “ليس هناك خيار إلا إعادة الهيكلة، والتقليص، والدمج. أعداد الموظفين، من عمال التنظيف إلى مهندسي الديكور، ومن المحاسبين إلى المديرين العامين، سوف تتأثر”.
وحتى قبل اندلاع الأزمة، كان هناك انحدار. فقد تراجعت أسعار العقارات بأكثر من 30% عن أعلى مستوى وصلت إليه في 2014، وكان المحللون والمصرفيون يتكهنون بما إذا كان نموذج “ابنها، وهم سيأتون” قد أخذ مجراه المتوقع.
يتوقع الآن أن يتعرض هذا النموذج إلى أشد الضغوط المالية التي تعرض لها حتى الآن، ويجبر الإمارة على إعادة تقييم الطريقة التي تسير بها. ويقر المسؤولون الحكوميون على أنه لن تكون “أعمالاً تجارية كالمعتاد”.
قال سامي القمزي، مدير عام دائرة التنمية الاقتصادية بدبي، خلال حديثه مع وسائل الإعلام المحلية في أبريل/نيسان: “الموقف الاقتصادي العالمي لن يعود إلى سابق عهده”، مضيفاً أن الإمارة كانت قادرة على الاستجابة بسرعة للتحديات. وأوضح قائلاً: “سوف تُعدَّل الاستراتيجية والنموذج الاقتصادي”.
أصبح الهدف تقليص حجم الرحيل
بدلاً من قدوم أعداد كبيرة من الأشخاص لحضور معرض إكسبو 2020، يبدو الأرجح رحيل أعداد كبيرة من المغتربين في الإمارة، الذين يشكلون غالبية التعداد السكاني لدبي، البالغ 3.3 مليون نسمة.
يشكل الأجانب 98% من قوة عمل القطاع الخاص في دبي -وهم في الأساس من العمال المهاجرين القادمين من جنوب آسيا- ولا يرجح أن يبقى هؤلاء الأشخاص الذين فقدوا وظائفهم بلا عمل موجودين لوقت طويل في البلاد.
من أجل تخفيف الأعباء، مدت الإمارات تأشيرات الإقامة لتصل إلى نهاية العام، مما يسمح للمغتربين العاطلين عن العمل البحث عن عمل آخر أو انتظار استئناف الرحلات الجوية.
ويقول الدبلوماسيون إن مئات الآلاف من العمال الأجانب يواجهون خطر فقدان وظائفهم في جميع أنحاء الإمارات خلال الأشهر القليلة القادمة. وقد تقدم بالفعل حوالي 260 ألف هندي وباكستاني بطلب لإعادتهم إلى أوطانهم، نظراً إلى أن أصحاب العمل خفضوا حجم العمالة في قطاعات تتراوح بين البناء وتجارة التجزئة والسياحة.
سنفقد 10% من السكان
غرد ناصر الشيخ، المدير السابق للدائرة المالية لدبي، في أبريل/نيسان قائلاً: “إننا ننظر إلى حد أدنى لتقليص السكان يقدر بـ10% سنوياً”.
اعتاد فرحان، الذي يعمل سائق تاكسي في دبي منذ ثماني سنوات، أن يرسل لأسرته في باكستان 300 دولار شهرياً. لكن دخله انهار ووصل إلى 60 دولاراً. وحتى بعد أن استدان لصاحب العمل بـ110 دولارات، لا يزال يقترض من أصدقائه كي يستطيع مواصلة الحياة. يقول فرحان: “فيروس كورونا أوقف كل شيء. كثير من السائقين يحتاجون إلى العودة إلى ديارهم”.
تمتد الضائقة إلى الموظفين الإداريين. إذ تقول السفارة الهندية إن خُمس من يتقدمون للعودة إلى الوطن هم من المتخصصين. ويقول مستشار تجزئة هندي في إجازة غير مدفوعة الأجر: “سوف أنتظر شهرين، ثم سأصطحب عائلتي إلى الديار”.
والبعض يقترح تشجيع المغتربين على البقاء عبر شراء العقارات
فيما يقول حسنين مالك من شركة Tellimer، وهي شركة بحوث أسواق ناشئة، إن دبي يجب أن تفكر في توسعة نطاق إمكانية الحصول على إقامة طويلة الأجل للمغتربين، الذين لا يملكون الآن إلا حقوقاً محدودة من أجل البقاء. يمكن أن يعزز ذلك الاستثمارات طويلة الأجل في العقارات والأعمال التجارية، إضافة إلى زيادة إنفاق المستهلكين.
ويضيف: “من أجل العودة إلى النمو الاقتصادي المرتفع في عالم تُهدَّد فيه التجارة والسياحة والسفر، وتحل فيه التكنولوجيا الجديدة محل نماذج الأعمال التجارية التقليدية، ويلحق فيه المنافسون الإقليميون بالركب، قد يتعين على دبي التفكير في ضمان تكاليف معيشية وتشغيلية أكثر تنافسية”.
الإنقاذ قد يأتي من الشقيقة الكبرى، ولكن بأي ثمن؟
مثلما حدث بين عامي 2008 و2009، يتوقع أن تنقذ أبوظبي دبي إذا احتاجت ذلك. لكن المصرفيين يعتقدون أن أي دعم يمكن أن يأتي مع “منافع متبادلة”، مثل مبيعات أصول أو دمج أصول، بما في ذلك هيئات مملوكة لحكومة دبي.
طالما كانت الإمارتان تتنافسان تنافساً ودياً فيما بينهما، وقد أدت أجندة تنويع مصادر الاقتصاد الطموحة لأبوظبي إلى إبراز مكانتها على مدى الـ15 عاماً الماضية. غير أن أزمة الدين في 2009، التي برزت في ظل التدقيق الدولي، كانت تجربة مُذلة لاسم دبي.
تسيطر كلتا الإمارتين على مرافقها وخطوطها الجوية وموانئها وأسواق الأوراق المالية فيها، بالرغم من أنهما تنتميان إلى اتحاد صغير يتكون من 9.6 مليون شخص.
قال مصرفي كبير مستقر في الخليج: “من المرجح أن يكون هناك دمج، سوف يكون دمجاً قسرياً، مغلفاً تغليفاً جيداً تحت مسمى استراتيجية العلاقات العامة [للإمارات]، وكل ذلك مسألة وقت”.
ويعتقد أن أزمة 2008 المالية، قد مكنت الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي من تهميش محمد بن راشد حاكم دبي، عبر دوره في إنقاذ إمارة دبي من شبح الإفلاس نتيجة الأزمة المالية، التي عصفت بها ما بين العام 2007 و 2009.
واشترت أبوظبي- وفق تقرير مؤسّسة “سي.إم.إيه داتافيجن” الذي نُشر في العام 2009- كل ديون دبي البالغة 80 مليار دولار، ما جعلها -وفق التقرير- تشاركها مواردها، وقد كافأتها أيضاً بإطلاق اسم الشيخ خليفة بن زايد، حاكم أبوظبي الحالي، على “برج دبي” الأطول في العالم، كنوعٍ من الوفاء والشكر.
ويقول كبير خبراء الاقتصاد في البنك السعودي الفرنسي جون سفكيان كيس، إن المساعدات التي تلقتها دبي من جارتها الغنية أبوظبي “هي ثمن سياسي يتمثل في إخضاع دبي لقيود سياسية وتجارية تفرضها أبوظبي”.
وأضاف: “المسألة السياسية كانت دائماً مهمة، ومن المعروف أن دبي كانت تسعى دوماً للتمتع بسياسة خارجية منفصلة، وهو أمر كانت أبوظبي على الدوام ترغب في التدخل فيه، وقد حصلت في ذاك اليوم على هذه الفرصة”.
مطلوب 20 مليار دولار خلال 3 سنوات، وأزمة رئيسية في 2023
وتقول شركة Capital Economics للاستشارات والبحوث الاقتصادية، إن بعض الشركات المملوكة للدولة قد تعاني من أجل خدمة ديونها. وتقدر أنه على مدى الأعوام الثلاثة القادمة، سوف يكون عليها سداد مبلغ إجمالي يقدر بـ21.3 مليار دولار، أي ما يساوي 19.4% من إجمالي الناتج المحلي.
وتوضح الشركة، التي تتنبأ بـ”أزمة رئيسية” في 2023، عندما يُستحق سداد دين آخر مُقدر بـ 30 مليار دولار، إن حجم الركود قد يستتبع بروز متاعب جديدة قريباً.
سوف يعتمد الكثير على المدة التي سيتواصل خلالها تجميد التجارة العالمية والسفر. يقول ثاديوس بيست، محلل المخاطر السيادية في وكالة موديز للتصنيف الائتماني، إن هذه الهيئات المرتبطة بالحكومة التي تغطيها وكالة التصنيف، لديها سيولة كافية ورافعة مالية معتدلة، ويتوقع منها أن تواصل خدمة ديونها. ويضيف أن كثيراً منها ينبغي لها أن تكون قادرة على إعادة جدولة ديونها مع المصارف المحلية، إذا احتاجت ذلك، وفي الوقت ذاته دفع المال إلى حملة السندات.
تخوض الحكومة بالفعل نقاشات مع أكثر من 10 مقرضين للحصول على قروض لمدة خمس سنوات تصل إلى ملياري درهم إماراتي (540 مليون دولار) من كل واحد منهم، وتوظيف خاص للسندات التي تتجنب تدقيق أسواق الدين العام. ويقول شخص مطلع على الخطة: “ينظرون إلى هذا على أنه جسر تمويل مالي، ثم [يعتزمون] إصدار السندات في الوقت المناسب”.
خطة الحكومة الاتحادية محدودة
كانت الحكومة الاتحادية هي التي تقود الاستجابة المالية من جانب الإمارات تجاه الأزمة، مع تقديم البنك المركزي حزمة دعم بقيمة 70 مليار دولار إلى المقرضين. تتضمن التدابير سيولة إضافية للسماح للمصارف بتمديد تخفيف عبء الديون.
لكن الشركات الأصغر الأكثر تأثراً، التي تشكل أساس الاقتصاد وتعد مسؤولة عن نصف الإنتاج، وتوفر نفس النسبة من ناحية فرص العمل، تقول إنها لم تشهد بعد مزايا حزمة الإنقاذ التي قدمتها الحكومة. ويقول مالك أحد الأعمال التجارية: “يشبه هذا إعطاء مسكرة إلى شخص أعمى. في الشهر القادم، لن يكون لدي أي دخل، فما الذي سيحدث حينها؟”
وسعت دبي نطاق الدعم المباشر إلى الأعمال التجارية، بما في ذلك خفض المصروفات الحكومية وفواتير المرافق. عرض مشغلو الأسواق التجارية الكبيرة وشركات العقارات التجارية، إضافة إلى مركز دبي المالي العالمي، إعفاءات من قيمة الإيجار على المستأجرين. لكن الحوافز المالية المباشرة التي تقدمها الإمارات تعادل 2% من إجمالي الناتج المحلي، مقارنة بالحوافز البالغة 5% التي كشفت عنها البحرين، والبالغة 12% التي قدمتها سنغافورة، حسبما يقول مالك من شركة Tellimer.
لذا فإنها الآن مسألة بقاء بالنسبة للمشروعات والأعمال التجارية.
يقول عبدالقادر سعدي، المؤسس والمدير الإداري لشركة جلي لحلول الضيافة لتشغيل واستشارات المطاعم: “بدون دعم ملائم من الحكومة والمصارف، سيكون الأمر صعباً للغاية”. فقد سعدي عقوداً إدارية وأغلق بعض العمليات، وفي الوقت ذاته خفض الأجور وشجع أطقم العمل على العودة إلى ديارهم في إجازة غير مدفوعة الأجر لمدة 3 أشهر.
ازدهرت شركته خلال الأزمة العالمية قبل عقد من الزمان، التي شهدت مغادرة المغتربين للبلاد، ومثلت صور السيارات والمطارات المهجورة رمزاً لهذا العهد. ولكنه يقول إن أزمة اليوم أسوأ.
في ظل جذبها ملايين من الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا، لدى دبي سجل يتحدى المتشككين. ولكن مثلما هو الحال مع شركة سعدي، فإن قدرة هذا المركز التجاري على التعافي سوف تعتمد على عوامل خارجية بقدر اعتمادها على العوامل الداخلية.
يقول المصرفي المستقر في الخليج: “في دبي، السؤال هو أي قطاع لا يواجه ضغوطاً؟ يعتمد هذا على الوقت الذي سيستغرقه النفط للتعافي والوقت الذي سيستغرقه مرض كوفيد-19 للرحيل. ولكن لا تراهنوا ضد دبي. دبي باقية”.