بعد إبرامهما صفقة مريبة.. كيف مزّقت ألمانيا وفرنسا التحالفات الدفاعية الأوروبية؟ الإجابة لدى إيطاليا
كانت اتفاقية أوكوس AUKUS، وهي عبارة عن اتفاق أمني ثلاثي جديد بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، قد تسبب في صدمة لفرنسا، وهي تحاول التعامل مع الأمر من منظور أوروبي وليس فرنسياً، وكأن ما حدث صفعة للاتحاد الأوروبي برمته وليس لباريس فقط.
وكانت الصفقة التي أبرمتها فرنسا مع أستراليا لتزويدها بغواصات تعمل بالطاقة النووية الضحية المباشرة لاتفاق أوكوس. وذهبت باريس الغاضبة إلى حد استدعاء سفيرها من واشنطن احتجاجاً، للمرة الأولى في تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين البلدين الحليفين تحالفاً يمتد لـ250 عاماً.
خيارات إنشاء تحالف عسكري أوروبي
واستخدم وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان الخطاب الذي تدخره فرنسا عادة لأعدائها الأجانب، وليس لأصدقائها. وكما هو متوقع، عزز هذا الحادث الأصوات المؤيدة لفكرة “الاستقلال الاستراتيجي” في أوروبا، وهو مصطلح غامض إلى حد ما يُفسره كثيرون على أنه قدرة الاتحاد الأوروبي على تحديد أهدافه الاستراتيجية وتحقيقها بشكل مستقل (عن الولايات المتحدة).
ولأن باريس وحلفاءها يرون أن اتفاق أوكوس ينقص من قوتهم الخارجية، فيتوقع أن يكون الحل بالنسبة لهم مضاعفة تعزيز القدرات العسكرية للاتحاد الأوروبي، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
وهو أمر قد يتطلب تشكيل قوة عسكرية مشتركة أو تعاون بين الجيش الأوروبية أو التعاون في مجال التصنيع العسكري.
ويوجد بالفعل عدد وافر من المبادرات التي تهدف إلى تحقيق هذه الغاية، مثل مبادرة التدخل الأوروبي وصندوق الدفاع الأوروبي. وهذا الحادث سيؤثر دون شك على مسار العمل في “البوصلة الاستراتيجية” للاتحاد الأوروبي التي من المتوقع أن يُكشف عنها أوائل عام 2022، لإعطاء السياسة الأمنية للاتحاد الأوروبي قليلاً من الهدف والاتجاه.
هل يكرر الاتحاد الأوروبي إخفاقات أمريكا؟
والنظر إلى “الاستقلال الاستراتيجي” من المنظور العسكري الضيق قد يجعل الاتحاد الأوروبي قريباً بدرجة خطيرة من تكرار إخفاقات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
ومن المخاطر المصاحبة لهذه النظرة، تقسيم المنطقة إلى أطراف “صالحة” و”فاسدة”، وتوسع المهام الذي قد يؤدي في النهاية إلى محاولات تغيير النظام وبناء الأمة.
وفضلاً عن ذلك، لدى فرنسا، الدولة الأعلى قدرة عسكرياً في الاتحاد الأوروبي، تاريخ استعماري طويل في المنطقة لن يساعدها كثيراً في القرن الحادي والعشرين، حسب الموقع الأمريكي.
كيف أفسدت فرنسا وألمانيا التعاون الأوروبي في الصناعات العسكرية؟
يمكن أن يمثل التعاون في الصناعات العسكرية الركن الرئيسي في التعاون الاستراتيجي الأوروبي، في ظل صعوبة أن يكون التعاون العسكري المباشر بين الجيوش الأوروبية بديلاً لحلف الناتو.
ولكن حتى في هذا الاتجاه يبدو الاتحاد الأوروبي ممزقاً أكثر من أي وقت مضى، فبينما تفرض فرنسا وألمانيا حظراً على تصدير السلاح لتركيا، تتجه بولندا أكبر دولة في الاتحاد الأوروبي في شرق القارة إلى أنقرة لتركيا لشراء طائرات تركية مسيرة، وهو اتجاه قد يتعزز لدى دول شرق القارة في مواجهة مخاوفها من روسيا، وضعف إمكانياتها الاقتصادية الذي يجعل الطائرات المسيرة التركية خياراً رخيصاً وفعالاً في مواجهة التنمر الروسي.
وحتى على المستوى الأكثر استراتيجية يبدو الاتحاد الأوروبي ممزقاً أكثر من أي وقت مضى، فإيطاليا لم تنضم لمشروع الطائرة الأوروبية الشبحية المستقبلية، الذي يضم فرنسا وألمانيا وإسبانيا، وهاجم مسؤولو صناعة الدفاع الإيطالية الصفقة، علماً بأن روما كانت شريكاً رئيسياً في مشروعات الطائرات الحربية الأوروبية السابقة مثل تورنادو ويوروفايتر.
وسبق أن قال رئيس اتحاد صناعة الدفاع الإيطالية غوديو كروسيتو إن الخطط التي وضعتها فرنسا وألمانيا للعمل على مقاتلة من الجيل التالي تعد إهانة لإيطاليا وستضعف الاتحاد الأوروبي.
ففي هجوم قوي على نظام Future Air Combat System ، أو FCAS قال كروسيتو إن إيطاليا ستسعى إلى توثيق العلاقات مع المملكة المتحدة نتيجة لهذه الصفقة الألمانية الفرنسية، على الرغم من خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي.
وقال إن صفقة المقاتلة الأوروبية بين ألمانيا وفرنسا تترك كل الآخرين على الهامش. وبما أن إيطاليا هي الدولة الأخرى الوحيدة التي تتمتع بقدرات صناعية متساوية، فمن الواضح أن الصفقة ضد إيطاليا.
وتساءل: “هل حاولت فرنسا وألمانيا إشراك إيطاليا؟ وأضاف: “لا يبدو الأمر على هذا النحو”. بالإضافة إلى ذلك، إذا أبرم اثنان من أصحاب المصلحة الأوروبيين صفقات معاً، فكيف سيكون رد فعل الآخرين؟.
وأضاف: هذا يخاطر بإضعاف الاتحاد الأوروبي، مع إعطاء المزيد من التبرير لأولئك الذين يحاولون إضعاف الاتحاد الأوروبي”.
ولإظهار أن باريس وبرلين تريدان شركاء إضافيين، انضمت إسبانيا للمشروع، مشيرة إلى أنها ستصبح شريكاً على قدم المساواة في البرنامج، ولكن هذا لم يكن كافياً لإقناع إيطاليا بأن الصفقة لا تهمّشها، ولذا قررت روما الانضمام لمشروع الطائرة المستقبلية البريطانية المعروف باسم Tempest، والذي اكتسب زخماً بانضمام اليابان والسويد له، أيضاً، واللافت هنا أن المشروع يضم دولتين رئيسيتين عضوتين في الاتحاد الأوروبي هما إيطاليا والسويد، وبريطانيا الخارجة من الاتحاد الأوروبي، واليابان حليف أمريكا الأهم في منطقة المحيط الهادئ والشرق الأقصى، مما يجعل المشروع جزءاً من التوجهات والتحالفات الأمريكية البعيدة عن الاتحاد الأوروبي والتي تركز على المخاطر القادمة من الصين وروسيا.
ومع تزايد احتمالات استفادة المشروع من التكنولوجيا الأمريكية في ظل العلاقة الوثيقة بين الشركة البريطانية التي تقود المشروع BAE Systems والقطاع الصناعي العسكري الأمريكي، فإن مشاركة السويد وإيطاليا في المشروع تعبر عن تقارب أكثر مع الولايات المتحدة وبريطانيا، وذلك جزئياً يبدو رداً على الممارسات الانفرادية لألمانيا وفرنسا في قيادة الاتحاد الأوروبي وبالأخص الأخيرة.
حتى يمكن وصف مشروع “Tempest” بأنه “مشروع منبوذي الاتحاد الأوروبي”.
وتتحمل فرنسا التي هي أكثر من يتحدث عن التعاون الدفاعي الأوروبي في المجال الدفاعي الأوروبي المسؤولية الأكبر عن هذه الانشقاقات داخل الاتحاد الأوروبي وآخرها ذهاب السويد وإيطاليا للمشروع البريطاني.
ففي المشروع الأوروبي المقترح لإنتاج طائرة جيل سادس، والذي اقتصر على شراكة ألمانية فرنسية إسبانية، كانت باريس تصر على عدم مشاركة التكنولوجيا الخاصة به مع شركائها الأوروبيين مثل ألمانيا، وهو الأمر الذي أغضب الأخيرة التي غالباً ستدفع الجزء الأكبر من الأموال.
فباريس تريد احتكار القيادة حتى لو لم تكن مؤهلة، وظهر ذلك واضحاً في تاريخ الطائرتين رافال الفرنسية ويوروفايتر الأوروبية التي شارك في تصنيعها كل من ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا.
ففي البداية كان مشروع الطائرتين واحداً بهدف إنتاج طائرة أوروبية مشتركة، ولكن باريس أصرت على مواصفات معينة مختلفة عن بقية الدول، وأن تقود هي المشروع، والأهم أنها أصرت على أن يكون المحرك فرنسياً، وليس بريطانيّاً، رغم أن بريطانيا أكثر تقدماً في مجال صناعة المحركات منها.
ومع رفض الدول الأوروبية للشروط الفرنسية، خرجت باريس من المشروع لتؤسس مشروعها الخاص “رافال”، والمفارقة، أن نقطة ضعف الرافال هي المحرك الذي كانت باريس مُصرة على دمجه في الطائرة الأوروبية المشتركة المقترحة التي أصبحت فيما بعد تسمى يورو فايتر تايفون.
أي تحالف عسكري أوروبي سيكون له أهداف متناقضة
كما أنه بعيداً عن مشروعات الأسلحة فإن توجهات باريس الاستراتيجية مخالفة، لتوجهات معظم الدول الأوروبية، مما يصعب إقامة تحالف عسكري أوروبي.
فبالنسبة لدول شرق أوروبا والدول الإسكندنافية، وبصورة أقل ألمانيا، فإن روسيا هي الخطر الرئيسي، بينما باريس البعيدة عن موسكو تريد التقارب مع روسيا وتريد بدلاً من ذلك تنصيب تركيا التي تريد الانضمام للاتحاد الأوروبي عدواً وهو موقف لا يشاركها فيه سوى اليونان، وبعض النخب في ألمانيا وهولندا.
وبالتالي تريد باريس أن يتبنى الاتحاد الأوروبي مواقفها في البحر المتوسط والشرق الأوسط المعادية لتركيا والمتسقة مع الثلاثي العربي المعادي للربيع العربي الإمارات والسعودية ومصر، بما في ذلك تجاهل انتهاكات حقوق الإنسان في هذه الدول والنتائج المترتبة على حرب اليمن وتأييد الجنرال الليبي الرافض للعملية السياسية خليفة حفتر، وهي توجهات ليست ذات أهمية لباقي الدول الأوروبية بل أغلبها يخالف ما تقول أوروبا إنه مبادئها، وحتى مصالحها كما يبدو واضحاً في الموقف الإيطالي تحديداً من الأزمة الليبية.
أما ألمانيا فرغم شعورها بثقل الخطر الروسي، فتفضل إرضاء بوتين عبر مشروعات الطاقة وليس الوقوف أمامه بحسم وهو أمر يغضب دول شرق أوروبا، وأيضاً دولة مثل السويد تعاني من الاختراقات الروسية لأجوائها وهي الدول التي تبدو مواقفها أقرب لأمريكا وتركيا فيما يتعلق بروسيا.
التركيز على القوة الاقتصادية
وبدلاً من محاولة تأسيس تحالف عسكري أوروبي، يرى موقع Responsible Statecraft أن الطريقة الأفضل للاتحاد الأوروبي في تأكيد قوته الرئيسية وتعزيزها تتمثل في القوة الاقتصادية.
إذ تعد دول الاتحاد الأوروبي الـ27، التي تمتلك 16% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، نداً اقتصادياً لكل من الولايات المتحدة والصين، وتتفوق كثيراً على روسيا.
وفي النهاية، يعتمد استمرار أهمية أوروبا العالمية على قوة اقتصادها. وبالنسبة لقارة مرت خلال العقد الماضي بالأزمة المالية العالمية، وأزمة منطقة اليورو، وجائحة كوفيد-19، فـ”إعادة البناء بشكل أفضل” مهم لها كما هو مهم للولايات المتحدة.
وكان الاتفاق على خطة للتعافي من جائحة كوفيد بقيمة 750 مليار يورو خطوة أولى ضرورية. والخطوة التالية يُفترض أن تكون تخفيفاً للقواعد المالية الصارمة التي أعاقت النمو الاقتصادي وغذت رد فعل شعبوياً عنيفاً في بلدان مثل إيطاليا، ثالث أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي.
كان عليه أن يدافع عن الاتفاق النووي الإيراني
ويجب ألا يتردد الاتحاد الأوروبي في استخدام قوته الاقتصادية الكبيرة لخدمة أهدافه الجيوسياسية، تماماً مثلما تفعل الولايات المتحدة والصين، حسب الموقع الأمريكي.
وهذا لأن استخدام القوة الاقتصادية يرتبط ارتباطاً مباشراً بالأمن مثله مثل أي مجموعات قتالية.
وكمثال على ذلك، يرى الموقع أن رفض الاتحاد الأوروبي استخدام قوته الاقتصادية لحماية خطة العمل الشاملة المشتركة بعد انتهاكات ترامب للاتفاقية وانسحابه منها. وقد أدى ذلك إلى تخلي إيران تدريجياً عن التزاماتها التي حددتها الاتفاقية، ما قد يؤدي في النهاية إلى تدميرها بالكامل واحتمالية اندلاع أزمة أمنية خطيرة من شأنها أن تؤثر حتماً على أوروبا.
وعلى نفس المنوال، فما كشفت عنه أوكوس في الواقع ليس الحاجة الملحة لبناء قدرات عسكرية أوروبية وإنما تأكيد قوته الاقتصادية لتجنب الانجرار إلى حرب باردة تقودها الولايات المتحدة على الصين، وهو مسار رسمته المستشارة الألمانية المنتهية ولايتها أنجيلا ميركل، ويرجح أن يستمر من سيخلفها في الالتزام به، سواء كان من الاتحاد الديمقراطي المسيحي أو الحزب الديمقراطي الاجتماعي. وبالمصادفة، تُظهر نتائج استطلاع أجراه مؤخراً المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أن معظم الأوروبيين لا يريدون المشاركة في حروب باردة جديدة.
وحالما ينقشع الغبار عن خلاف فرنسا والولايات المتحدة، يتعين على الاتحاد الأوروبي ككل استخلاص النتائج الصحيحة بتعزيز نقاط قوته باعتباره قوة اقتصادية والابتعاد عن إغراءات الانضمام إلى معارك جيوسياسية أو أيديولوجية في أماكن نائية لا تناسبه ويرفضها مواطنوه.